معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (44)

قوله تعالى : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا } . أي : أسلموا وانقادوا لأمر الله تعالى ، كما أخبر عن إبراهيم عليه السلام : إذ قال له ربه أسلم { قال أسلمت لرب العالمين } [ البقرة : 131 ] ، وكما قال : { وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها } [ آل عمران :83 ] وأراد بهم النبيين الذين بعثوا من بعد موسى عليه السلام ليحكموا بما في التوراة ، وقد أسلموا لحكم التوراة وحكموا بها ، فإن من النبيين من لم يؤمر بحكم التوراة ، منهم عيسى عليه السلام ، قال الله سبحانه وتعالى { لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً } [ المائدة : 48 ] . وقال الحسن والسدي : أراد به محمداً ، صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم ، ذكر بلفظ الجمع كما قال : { إن إبراهيم كان أمةً قانتاً } [ النحل :120 ] .

قوله تعالى : { للذين هادوا } ، فيه تقديم وتأخير ، تقديره : فيها هدى ونور للذين هادو . ويقل هو على موضعه ، يحكم بها النبيون الذين أسلموا على الذين هادوا ، كما قال { وإن أسأتم فلها } أي : فعليها ، وقال : { أولئك لهم اللعنة } [ الرعد :25 ] أي : عليهم ، وقيل : فيه حذف ، كأنه قال : للذين هادوا وعلى الذين هادوا ، فحذف أحدهما اختصارً . قوله تعالى : { والربانيون والأحبار } ، يعني العلماء ، واحدها حبر ، وحبر بفتح الحاء وكسرها ، والكسر أفصح ، وهو العالم المحكم في الشيء ، قال الكسائي وأبو عبيد : هو من الحبر الذي هو بمعنى الجمال ، بفتح الحاء وكسرها ، في الحديث : يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره ، أي حسنه وهيئته ، ومنه التحبير وهو التحسين ، فسمى العالم حبراً لما عليه من جمال العلم وبهائه ، وقيل : الربانيون هاهنا من النصارى ، والأحبار من اليهود .

قوله تعالى : { بما استحفظوا من كتاب الله } أي ، استودعوا من كتاب الله .

قوله تعالى : { وكانوا عليه شهداء } ، . أنه كذلك .

قوله تعالى : { فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ، قال قتادة و الضحاك : نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة ، روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ، والظالمون والفاسقون كلها في الكافرين ، وقيل : هي على الناس كلهم . وقال ابن عباس وطاووس : ليس بكفر ينقل عن الملة ، بل إذا فعله به كافر ، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر . قال عطاء : هو كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق ، وقال عكرمة معناه : ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به ، فقد كفر ، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق ، وسئل عبد العزيز بن يحيى الكناني عن هذه الآيات ، فقال : إنها تقع على جميع ما أنزل الله لا على بعضه ، وكل من لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق ، فأما من حكم بما أنزل الله من التوحيد وترك الشرك ، ثم لم يحكم ببعض ما أنزل الله من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات . وقال العلماء : هذا إذا ورد نص حكم الله عياناً عمدا ، فأما من خفي عليه ، أو أخطأ في تأويل فلا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (44)

وقوله تعالى : { إنا أنزلنا التوراة } الآية ، قال قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما أنزلت هذه الآية ، نحن اليوم نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان{[4555]} . و «الهدى » : الإرشاد في المعتقد والشرائع ، و «النور » : ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها ، و { النبيون الذين أسلموا } هم من بعث من لدن موسى بن عمران إلى مدة محمد صلى الله عليه وسلم ، هذان طرفا هذه الجماعة المذكورة في هذه الآية و { أسلموا } معناه أخلصوا وجوههم ومقاصدهم لله تعالى . وقوله تعالى : { للذين هادوا } متعلق ب { يحكم } أي يحكمون بمقتضى التوراة لبني إسرائيل وعليهم . وقوله تعالى : { الربانيون } عطف على «النبيين » أي ويحكم بها الربانيون وهم العلماء ، وفي البخاري قال «الرباني » الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره ، وقيل «الرباني » منسوب إلى الرب أي عنده العلم به وبدينه ، وزيدت النون في «رباني » مبالغة كما قالوا منظراني ومخبراني وفي عظيم الرقبة رقباني ، والأحبار أيضاً العلماء واحدهم حِبر بكسر الحاء ، ويقال بفتحها وكثر استعمال الفتح فيه للفرق بينه وبين الحبر الذي يكتب به . وقال السدي المراد هنا «بالربانيين والأحبار » الذين يحكمون بالتوراة ابنا صوريا كان أحدهم ربانياً والآخر حبراً .

وكانوا قد أعطوا النبي صلى الله عليه وسلم عهداً أن لا يسألهما عن شيء من أمر التوراة إلا أخبراه به ، فسألهما عن آية الرجم فأخبراه به على وجهه فنزلت الآية مشيرة إليهما .

قال القاضي ابو محمد : وفي هذا نظر ، والرواية الصحيحة أن ابني صوريا{[4556]} وغيرهم جحدوا أمر الرجم وفضحهم فيه عبد الله بن سلام ، وإنما اللفظ عام في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان ، وأما في مدة محمد صلى الله عليه وسلم فلو وجد لأسلم فلم يسم حبراً ولا ربانياً . وقوله تعالى : { بما استحفظوا } أي بسبب استحفاظ الله تعالى إياهم أمر التوراة وأخذه العهد عليهم في العمل والقول بها وعرفهم ما فيها فصاروا شهداء عليه ، وهؤلاء ضيعوا لما استحفظوا حتى تبدلت التوراة ، والقرآن بخلاف هذا لقوله تعالى : { وإنا له لحافظون }{[4557]} والحمد لله . وقوله تعالى : { فلا تخشوا الناسَ واخشون } حكاية ما قيل لعلماء بني إسرائيل . وقوله : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين . وهذا المعنى بعينه يتناول علماء هذه الأمة وحكامها ويحتمل أن يكون قوله فلا تخشوا الناس إلى آخر الآية خطاباً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم واختلف العلماء في المراد بقوله تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } فقالت جماعة : المراد اليهود بالكافرين والظالمين والفاسقين ، وروي في هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق البراء بن عازب{[4558]} .

وقالت جماعة عظيمة من أهل العلم : الآية متناولة كل من لم يحكم بما أنزل الله . ولكنه في أمراء هذه الأمة كفر معصية لا يخرجهم عن الإيمان{[4559]} .

وقيل لحذيفة بن اليمان :أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل ؟ فقال نعم الإخوة لكم بنو إسرائيل ، ان كان لكم كل حلوة ، ولهم كل ُمَّرة ، لتسلكن طريقهم قدر الشراك{[4560]} .

وقال الشعبي : نزلت { الكافرون } في المسلمين و { الظالمون } في اليهود و { الفاسقون } في النصارى{[4561]} .

قال القاضي أبو محمد : ولا أعلم بهذا التخصيص وجهاً إلا إن صح فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه راعى من ذكر مع كل خبر من هذه الثلاثة ، فلا يترتب له ما ذكر في المسلمين إلا على أنهم خوطبوا بقوله : { فلا تخشوا الناس } وقال إبراهيم النخعي : نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ثم رضي لهذه الأمة بها{[4562]} .


[4555]:- أخرج عبد بن حميد، وابن جرير- عن قتادة في قوله: {إنا أنزلنا التوراة...إلخ} قال: "أما الربانيون ففقهاء اليهود، وأما الأحبار فعلماؤهم، قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: لما أنزلت هذه الآية"، وساق بقية الحديث كما رواه ابن عطية. (الدر المنثور).
[4556]:- هكذا في كل الأصول، وحتى في "البحر المحيط" نقل كلام ابن عطية بهذا النص فتأمل.
[4557]:- من قوله تعالى في الآية (9) من سورة (الحجرات): {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}.
[4558]:- قال القرطبي: "نزلت كلها في الكفار، ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث البراء"، وقد أخرج حديث البراء أيضا ابن جرير، وأخرج مثله من عدة طرق- عن أبي صالح، وعن الضحاك، وعن أبي مجلز. (راجع تفسير الطبري 6/ 252، 253). -وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال: الثلاث الآيات التي في المائدة: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون –هم الظالمون- هم الفاسقون} ليس في أهل الإسلام منها شيء، هي في الكفار. (عن الدر المنثور)
[4559]:- أخرج سعيد بن منصور، والفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم صححه، والبيهقي في سننه، عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {ومن لم = يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون- ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون- ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون} قال: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، (الدر المنثور). وقال طاوس وغيره: ليس بكفر ينقل عن الملة، ولكنه كفر دون كفر. (القرطبي).
[4560]:- أخرجه عبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، عن حذيفة. (الدر المنثور –وفتح القدير).
[4561]:- قال القرطبي: "وهذا اختيار أبي بكر بن العربي، قال: لأنه ظاهر الآيات، وهو اختيار ابن عباس، وجابر بن زيد، وابن أبي زائدة، وابن شبرمة، والشعبي أيضا
[4562]:- أخرجه عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ- عن إبراهيم النخعي- وقال في الدر المنثور: وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير- عن الحسن في قوله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} قال: نزلت في اليهود وهي علينا واجبة.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (44)

لمّا وصف التّوراة بأنّ فيها حكم الله استأنف ثناء عليها وعلى الحاكمين بها . ووصفها بالنزول ليدلّ على أنّها وحي من الله ، فاستعير النّزول لبلوغ الوحي لأنّه بلوغ شيءٍ من لدن عظيم ، والعظيم يتخيّل عَالياً ، كما تقدّم غير مرّة .

والنّور استعارة للبيان والحقّ ، ولذلك عطف على الهُدى ، فأحكامها هادية وواضحة ، والظرفية . حقيقية ، والهدى والنّور دلائلهما . ولك أن تجعل النّور هنا مستعاراً للإيمان والحكمة ، كقوله : { يخرجهم من الظلمات إلى النّور } [ البقرة : 132 ] ، فيكون بينَه وبين الهدى عموم وخصوص مطلق ، فالنّور أعمّ ، والعطفُ لأجل تلك المغايرة بالعموم .

والمراد بالنبيين فيجوز أنّهم أنبياء بني إسرائيل ، موسى والأنبياءُ الّذين جاءوا من بعده . فالمراد بالّذين أسلموا الّذين كان شرعهم الخاصّ بهم كشرع الإسلام سواء ، لأنّهم كانوا مخصوصين بأحكام غير أحكام عموم أمّتهم بل هي مماثلة للإسلام ، وهي الحنيفية الحقّ ، إذ لا شكّ أنّ الأنبياء كانوا على أكمل حال من العبادة والمعاملة ، ألا ترى أنّ الخمر ما كانت محرّمة في شريعة قبل الإسلام ومع ذلك ما شربها الأنبياء قط ، بل حرّمتها التّوراة على كاهن بني إسرائيل فما ظنّك بالنّبيء . ولعلّ هذا هو المراد من وصيّة إبراهيم لبنيه بقوله : { فلا تموتُنّ إلاّ وأنتم مسلمون } [ البقرة : 132 ] كما تقدّم هنالك . وقد قال يوسف عليه السّلام في دعائه : { توفَّنِي مُسلماً وألْحقني بالصّالحين } [ يوسف : 101 ] . والمقصود من الوصف بقوله : { الّذين أسلموا } على هذا الوجه الإشارة إلى شرف الإسلام وفضله إذ كان دين الأنبياء . ويجوز أن يراد بالنبيئين محمد صلى الله عليه وسلم وعبّر عنه بصيغة الجمع تعظيماً له .

واللام في قوله : { للّذين هادوا } للأجل وليست لتعدية فعل { يحكم } إذ الحكم في الحقيقة لهم وعليهم . والّذين هادوا هم اليهود ، وهو اسم يرادف معنى الإسرائليين ، إلاّ أنّ أصله يختصّ ببني يهوذا منهم ، فغلب عليهم من بعد ، كما قدّمناه عند قوله تعالى : { إنُّ الّذين آمنوا والّذين هادوا والنّصارى والصابئين } الآية في سورة البقرة ( 62 ) .

والرّبّانيون جمع ربّاني ، وهو العالم المنسوب إلى الربّ ، أي إلى الله تعالى . فعلى هذا يكون الربّاني نَسباً للربّ على غير قياس ، كما قالوا : شعراني لكثير الشعَر ، ولحياني لعظيم اللّحية . وقيل : الربّاني العالم المُربي ، وهوَ الّذي يبتدىء النّاس بصغار العلم قبل كباره . ووقع هذا التّفسير في صحيح البخاري . وقد تقدّم عند قوله تعالى : { ولكن كونوا رَبَّانيّين } في سورة آل عمران ( 79 ) .

والأحبار جمع حَبْر ، وهو العالم في الملّة الإسرائليّة ، وهو بفتح الحاء وكسرها ، لكن اقتصر المتأخّرون على الفتح للتّفرقة بينه وبين اسم المِداد الّذي يكتب به . وعطف { الربّانيّون والأحبار } على { النّبيئون } لأنّهم ورثة علمهم وعليهم تلقّوا الدّين .

والاستحفاظ : الاستئمان ، واستحفاظ الكتاب أمانة فهمه حقّ الفهم بما دلّت عليه آياته .

استعير الاستحفاظ الّذي هو طلب الحفظ لمعنى الأمر بإجادة الفهم والتّبليغ للأمّة على ما هو عليه .

فالباء في قوله { بما استحفظوا } للملابسة ، أي حكماً ملابساً للحقّ متّصلاً به غير مبدّل ولا مغيّر ولا مؤوّل تأويلاً لأجل الهوى . ويدخل في الاستحفاظ بالكتاب الأمر بحفظ ألفاظه من التغيير والكتمان . ومن لطائف القاضي إسماعيل بن إسحاق بن حَمَّاد ما حكاه عياض في « المدارك » ، عن أبي الحسن بن المنتاب ، قال : كنت عند إسماعيل يوماً فسئل : لم جاز التّبديل على أهل التّوراة ولم يجز على أهل القرآن ، فقال : لأنّ الله تعالى قال في أهل التّوراة { بما استحفظوا من كتاب الله } فوكل الحفظ إليهم . وقال في القرآن : { إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنَّا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] . فتعهّد الله بحفظه فلم يجز التّبديل على أهل القرآن . قال : فذكرت ذلك للمُحاملي ، فقال : لا أحْسَنَ من هذا الكلام .

و { من } مبيّنة لإبهام ( ما ) في قوله : { بما استحفظوا } . و { كتاب الله } هو التّوراة ، فهو من الإظهار في مقام الإضمار ، ليتأتّى التّعريف بالإضافة المفيدة لتشريف التّوراة وتمجيدها بإضافتها إلى اسم الله تعالى .

وضميرُ { وكانوا } للنبيئين والربانيّين والأحبار ، أي وكان المذكورون شهداء على كتاب الله ، أي شهداء على حفظه من التّبديل ، فحرف ( على ) هنا دالّ على معنى التمكّن وليس هو ( على ) الّذي يتعدّى به فعل شَهِد ، إلى المحقوق كما يتعدّى ذلك الفعل باللام إلى المشهود له ، أي المحِقّ ، بل هو هنا مثل الّذي يتعدّى به فعل ( حفظ ورقب ) ونحوهما ، أي وكانوا حفَظَة على كتاب الله وحُرّاساً له من سوء الفهو وسوء التّأويل ويحملون أتباعه على حَقّ فهمِه وحقّ العمل به .

ولذلك عقّبه بجملة { فلا تخشوا النّاس واخْشَوْن } المتفرّعة بالفاء على قوله : { وكانوا عليه شهداء } ، إذ الحفيظ على الشيء الأمين حقّ الأمانة لا يخشى أحداً في القيام بوجه أمانته ولكنّه يخشى الّذي استأمنه . فيجوز أن يكون الخطاب بقوله : { فلا تخشوا النّاس } ليهود زمان نزول الآية ، والفاء للتفريع عمّا حكي عن فعل سلف الأنبياء والمؤمنين ليكونوا قدوة لخلفهم من الفريقين ، والجملة على هذا الوجه معترضة ؛ ويجوز أن يكون الخطاب للنّبيئين والربّانيّين والأحبار فهيَ على تقدير القَول ، أي قلنا لهم : فلا تخشوا النّاس . والتّفريع ناشىء عن مضمون قوله : { بما استحفظوا من كتاب الله } ، لأنّ تمام الاستحفاظ يظهر في عدم المبالاة بالنّاس رضُوا أم سخطوا ، وفي قصر الاعتداد على رضا الله تعالى .

وتقدّم الكلام في معنى { ولا تَشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } في سورة البقرة ( 41 ) .

وقولُه { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } يجوز أن يكون من جملة المحكي بقوله : { فلا تخشوا النّاس واخشون } ، لأنّ معنى خشية النّاس هنا أن تُخالَف أحكام شريعة التّوراة أو غيرها من كتب الله لإرضاء أهوية النّاس ، ويجوز أن يكون كلاماً مستأنفاً عقّبت به تلك العظات الجليلة .

وعلى الوجهين فالمقصود اليهودُ وتحذير المسلمين من مثل صنعهم .

و ( مَن ) الموصولة يحتمل أن يكون المراد بها الفريق الخاصّ المخاطب بقوله : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } ، وهم الّذين أخفوا بعض أحكام التّوراة مثل حكم الرّجم ؛ فوصفهم الله بأنّهم كافرون بما جحدوا من شريعتهم المعلومَة عندهم . والمعنى أنّهم اتّصفوا بالكفر من قبل فإذا لم يحكموا بما أنزل الله فذلك من آثار كفرهم السابق . ويحتمل أن يكون المراد بها الجنس وتكون الصّلة إيماء إلى تعليل كونهم كافرين فتقتضي أنّ كلّ من لا يحكم بما أنزل الله يكفّر . وقد اقتضى هذا قضيتين :

إحداهما : كون الّذي يترك الحكم بما تضمّنته التّوراة ممّا أوحاه الله إلى موسى كافراً ، أو تارك الحكم بكلّ ما أنزله الله على الرّسل كافراً ؛ والثّانية : قصر وصف الكفر على تارك الحكم بما أنزل الله .

فأمَّا القضيةُ الأولى : فالّذين يكفِّرون مرتكب الكبيرة يأخذون بظاهر هذا . لأنّ الجور في الحكم كبيرة والكبيرة كفر عندهم . وعبّروا عنه بكفر نعمة يشاركه في ذلك جميع الكبائر ، وهذا مذهب باطل كما قرّرناه غير مرّة . وأمّا جمهور المسلمين وهم أهل السنّة من الصّحابة فمن بعدهم فهي عندهم قضيّة مُجملة ، لأنّ ترك الحكم بما أنزل الله يقع على أحوال كثيرة ؛ فبيان إجماله بالأدلّة الكثيرة القاضية بعدم التكفير بالذنوب ، ومساق الآية يبيّن إجمالها . ولذلك قال جمهور العلماء : المراد بمن لم يحكم هنا خصوصَ اليهود ، قاله البراء بن عازب ورواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجَه مسلم في « صحيحه » . فعلى هذا تكون ( مَنْ ) موصولة ، وهي بمعنى لام العهد . والمعنى عليه : ومن ترك الحكم بما أنزل الله تَركا مثل هذا التّرك ، هو ترك الحكم المشوب بالطعن في صلاحيته . وقد عرف اليهود بكثرة مخالفة حكّامهم لأحكام كتابهم بناء على تغييرهم إيّاها باعتقاد عدم مناسبتها لأحوالهم كما فعلوا في حدّ الزّنى ؛ فيكون القَصر إدّعائياً وهو المناسب لسبب نزول الآيات الّتي كانت هذه ذيلاً لها ؛ فيكون الموصول لتعريف أصحاب هذه الصّلة وليس معلّلاً للخبر . وزيدت الفاء في خبره لمشابهته بالشّرط في لزوم خبره له ، أي أنّ الّذين عرفوا بهذه الصّفة هم الّذين إنْ سألتَ عن الكافرين فهم هُم لأنّهم كفروا وأساءوا الصنع .

وقال جماعة : المراد من لم يحكم بما أنزل الله مَن ترك الحكم به جحداً له ، أو استخفافاً به ، أو طعناً في حقّيته بعد ثبوت كونه حكم الله بتواتر أو سماعه من رسول الله ، سمِعه المكلّف بنفسه . وهذا مروي عن ابن مسعود ، وابن عبّاس ، ومجاهد ، والحسن ، ف { من } شرطية وتركُ الحكم مُجمَل بيانُه في أدلّة أخر . وتحت هذا حالة أخرى ، وهي التزام أن لا يحكم بما أنزل الله في نفسه كفعل المسلم الّذي تُقام في أرضه الأحكام الشرعية فيدخلُ تحت محاكم غير شرعيّة باختياره فإنّ ذلك الالتزام أشدّ من المخالفة في الجزئيات ، ولا سيما إذا لم يكن فعله لجلب منفعة دنيوية .

وأعظمُ منه إلزام النّاس بالحكم بغير ما أنزل الله من ولاة الأمورِ ، وهو مراتب متفاوتة ، وبعضها قد يلزمه لازم الردة إن دلّ على استخفاف أو تخطئة لحكم الله . ٍ

وذهب جماعة إلى التأويل في معنى الكُفر فقيل عُبّر بالكفر عن المعصيّة ، كما قالت زوجة ثابت بن قيس « أكره الكُفر في الإسلام » أي الزّنى ، أي قد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفّار ولا يليق بالمؤمنين ، وروى هذا عن ابن عبّاس . وقال طاووس « هو كفر دونَ كفر وليس كفراً ينقل عن الإيمان » . وذلك أنّ الّذي لا يحكم بما أنزل الله قد يفعل ذلك لأجل الهوى ، وليس ذلك بكفر ولكنّه معصيّة ، وقد يفعله لأنّه لم يره قاطعاً في دلالته على الحكم ، كما ترك كثير من العلماء الأخذ بظواهر القرآن على وجه التّأويل وحكموا بمقتضى تأويلها وهذا كثير .

وهذه الآية والّتي بعدها في شأن الحاكمين . وأمّا رضى المتحاكمين بحكم الله فقد مرّ في قوله تعالى : { فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّمون فيما شجر بينهم } [ النساء : 65 ] الآية وبيّنّا وجوهه ، وسيأتي في قوله تعالى : { وإذا دُعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون } إلى قوله { بل أولئك هم الظّالمون } في سورة النّور ( 48 50 ) .

وأمّا القضيّة الثّانية : فالمقصود بالقصر هنا المبالغة في الوصف بهذا الإثم العظيم المعبّر عنه مجازاً بالكفر ، أو في بلوغهم أقصى درجات الكفر ، وهو الكفر الّذي انضمّ إليه الجور وتبديل الأحكام .

واعلم أنّ المراد بالصّلة هنا أو بفعل الشرط إذ وقعا منفيين هو الاتّصاف بنقيضهما ، أي ومن حكم بغير ما أنزل الله . وهذا تأويل ثالث في الآية ، لأنّ الّذي لم يحكم بما أنزل الله ولا حكم بغيره ، بأنّ ترك الحكم بين النّاس ، أو دَعا إلى الصلح ، لا تختلف الأمّة في أنّه ليس بكافر ولا آثم ، وإلاّ للزم كفر كلّ حاكم في حال عدم مباشرته للحكم ، وكفرُ كلّ من ليس بحاكم . فالمعنى : ومن حكم فلم يحكم بما أنزل الله .