قوله : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ ) الآية [ 46 ] .
المعنى : أن الله أنزل التوراة فيها هدى لما سألوا عنه من حكم الزانيين المحصنين ، وفيها ( نور : أي )( {[16208]} ) جلاء مما( {[16209]} ) أظلم عليهم من الحكم( {[16210]} ) .
وقيل : المعنى ( فِيهَا هُدًى ) أي : بيان أمر النبي ، ( وَنُورٌ ) أي : بيان ما سألوا عنه( {[16211]} ) .
ومعنى قوله ( النَّبِيئُونَ الذِينَ أَسْلَمُوا ) أي : الذين سلموا لما في التوراة من أحكام الله ، فلم يتعقبوا بالسؤال عنه( {[16212]} ) ، وليس الإسلام –هنا- ضد الكفر ، لأن النبي لا يكون إلا مسلماً مؤمناً ، وإنما الإسلام هنا : الانقياد والتسليم ، ومثله قول إبراهيم : ( وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَكَ )( {[16213]} ) أراد مسلمين لأمرك ، منقادين لحكمك بالنية والعمل ، وكذلك قوله ( أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ )( {[16214]} ) أي : سلمت لأمره( {[16215]} ) .
ومعنى ( لِلذِينَ هَادُوا ) أي : يحكم بالتوراة النبيون والربانيون والأحبار ( لِلذِينَ هَادُوا ) ، أي : عليهم ، فاللام( {[16216]} ) بمعنى " على " ( {[16217]} ) ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : اشترطي( {[16218]} ) لهم الولاء أي : عليهم ، ولم يأمرها بأن تشترط الولاء لهم ، وهو لا يجوز ، ( فلا يأمرها بفعل ما لا يجوز )( {[16219]} ) ، وإنما أمرها بفعل ما يجوز ، وهو أن يكون الولاء لها ، فلما اشترطوا الولاء لأنفسهم قال( {[16220]} ) صلى الله عليه وسلم : ما بال قوم يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله .
وقيل : المعنى : للذين( {[16221]} ) هادوا ( و )( {[16222]} ) عليهم ، أي : يحكمون لهم ( و )( {[16223]} ) عليهم ، ثم حذف لدلالة الكلام عليه( {[16224]} ) .
وقيل : المعنى : فيها هدى ونور للذين هادوا ، يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانيون والأحبار( {[16225]} ) .
( و )( {[16226]} ) عني( {[16227]} ) بالنبيين( {[16228]} ) –هنا- محمد( {[16229]} ) صلى الله عليه وسلم ومن قبله ، قاله السدي وقتادة و[ غيرهما ]( {[16230]} ) .
وروي ( أن )( {[16231]} ) النبي صلى الله عليه وسلم قال –لما نزلت هذه الآية- : نحن _اليوم_ نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان( {[16232]} ) .
والأحبار : [ العلماء ]( {[16233]} ) [ الحكماء ]( {[16234]} ) ، واحدهم حَبْرٌ ، وقيل : حِبْرٌ( {[16235]} ) . وسموا أحباراً( {[16236]} ) ، لأنهم يحبرون( {[16237]} ) الشيء ، فهو في صدورهم مُحَبّرٌ( {[16238]} ) .
وسمي الحبر –الذي يكتب به- حبراً ، لأنه يحبر به ، أي : يكتب به( {[16239]} ) .
وقال الفراء : التقدير فيه : مداد حِبْرٍ ، ( لأن العالم يقال له " حِبْر " فإذا [ قلت : " هذا ]( {[16240]} ) حِبْرٌ " للمداد ، فالمعنى : مداد حِبْرٍ )( {[16241]} ) ، أي : مداد عالم( {[16242]} ) ، ثم تحذف( {[16243]} ) مثل ( وَسْئَلِ القرْيَةَ )( {[16244]} ) .
وقال الأصمعي : ( إنما سمي )( {[16245]} ) الحبر –الذي هو المداد- حِبْراً لتأثيره ، يقال : " على [ أسنانه ]( {[16246]} ) حبرَةٌ " أي : صُفْرَةٌ أو سَوَادٌ( {[16247]} ) .
( وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالاَحْبَارُ ) : القراء والفقهاء( {[16248]} ) . وقيل : الفقهاء والعلماء( {[16249]} ) . " قال ابن زيد : الربانيون " ( {[16250]} ) : الولاة ، والأحبار : العلماء " ( {[16251]} ) . والرَّبَّاني –عند أهل اللغة- : رب العلم ، أي : صاحبه ، والألف والنون للمبالغة( {[16252]} ) .
وقيل : معنى ( لِلذِينَ( {[16253]} ) هَادُوا ) : للذين( {[16254]} ) تابوا من الكفر ، أي : يحكم هؤلاء بما في التوراة للذين " تابوا " ( {[16255]} ) من الكفر( {[16256]} ) .
وقوله : ( بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ ) أي : يحكمون بما استودعوا من كتاب الله( {[16257]} ) ، والباء متعلقة بالأحبار ، والمعنى : يحكم بها النبيون والربانيون والأحبار ، أي : والعلماء/( {[16258]} ) بما استودعوا من كتاب الله( {[16259]} ) ، ( وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ) أي : وكان النبيون والربانيون والأحبار شهداء أنهم قضوا عليهم بكتاب الله ، وقال ابن عباس : الشهداء –هنا- الربانيون والأحبار شهداء أن الذي قضى [ به ]( {[16260]} ) محمد صلى الله عليه وسلم حق( {[16261]} ) في أمر الزانيين( {[16262]} ) المحصنين( {[16263]} ) وقد أخبرنا الله أنهم استحفظوا كتابهم ، وأعلمنا أنهم بدلوا وغيّروا ، وأعلمنا تعالى أنه يحفظ علينا ما أنزله من القرآن فقال ( وَإِنَّا( {[16264]} ) لَهُ لَحَافِظُونَ )( {[16265]} ) فغير جائز أن يبدل أحد أو يغير ما حفظه( {[16266]} ) الله علينا ، فنحن أمة محمد عليه السلام برآء من التبديل والتغيير لشيء من كتاب الله ، إذ الله تولى حفظه علينا ، ولم يسلم أهل التوراة من ذلك ، إذ الله استحفظهم عليه فخانوا ، ولم يحفظه( {[16267]} ) هو( {[16268]} ) .
وقوله ( فَلاَ تَخْشَوُ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ )( {[16269]} ) هذا خطاب للربانيين والأحبار ، أمرهم ألا يخشوا الناس في تنفيذ حكمه وإمضائه على ما في كتابه ، وأن يخشوه( {[16270]} ) في ذلك ، قاله السدي وغيره( {[16271]} ) . وقوله ( وَلاَ تَشْتَرُوا بِئَايَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ) أي : لا تأخذوا [ الرّشى ]( {[16272]} ) في الأحكام ، فإنه عِوَضٌ( {[16273]} ) خسيس وثمن قليل( {[16274]} ) .
( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ) أي : من كتم حكم الله الذي أنزله في كتابه في الزانيين المحصنين وغيرهما من دية القتيل ، ( فَأُولاَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ) أي : الساترون الحق( {[16275]} ) .
وهذه في كفار أهل الكتاب( {[16276]} ) .
وقيل : هي في المشركين( {[16277]} ) .
وقيل : المعنى ومن لم يحكم بما أنزل الله مستحلاً له ، فأولئك هم الكافرون( {[16278]} ) .
وقال بعد ذلك : ( هُمُ الظَّالِمُونَ ) . وقال بعد ذلك : ( هُمُ( {[16279]} ) الفَاسِقُونَ )( {[16280]} ) .
فقيل( {[16281]} ) : إن الأوصاف الثلاثة لمن غير حكم الله [ ومن جميع الخلق( {[16282]} ) .
وقيل : هي لليهود المغيرين حكم الله( {[16283]} ) ] .
وقيل : الوصف الأول لليهود ، والثاني والثالث للمسلمين( {[16284]} ) .
وقيل : نزل ( الكَافِرُونَ ) في المسلمين إذا( {[16285]} ) غَيَّروا حكم الله ، و( الظَّالِمُونَ )( {[16286]} ) في اليهود ، و( الفَاسِقُونَ ) في النصارى( {[16287]} ) . وهو ظاهِرُ( {[16288]} ) النص .