الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (44)

قوله : ( إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ ) الآية [ 46 ] .

المعنى : أن الله أنزل التوراة فيها هدى لما سألوا عنه من حكم الزانيين المحصنين ، وفيها ( نور : أي )( {[16208]} ) جلاء مما( {[16209]} ) أظلم عليهم من الحكم( {[16210]} ) .

وقيل : المعنى ( فِيهَا هُدًى ) أي : بيان أمر النبي ، ( وَنُورٌ ) أي : بيان ما سألوا عنه( {[16211]} ) .

ومعنى قوله ( النَّبِيئُونَ الذِينَ أَسْلَمُوا ) أي : الذين سلموا لما في التوراة من أحكام الله ، فلم يتعقبوا بالسؤال عنه( {[16212]} ) ، وليس الإسلام –هنا- ضد الكفر ، لأن النبي لا يكون إلا مسلماً مؤمناً ، وإنما الإسلام هنا : الانقياد والتسليم ، ومثله قول إبراهيم : ( وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَكَ )( {[16213]} ) أراد مسلمين لأمرك ، منقادين لحكمك بالنية والعمل ، وكذلك قوله ( أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العَالَمِينَ )( {[16214]} ) أي : سلمت لأمره( {[16215]} ) .

ومعنى ( لِلذِينَ هَادُوا ) أي : يحكم بالتوراة النبيون والربانيون والأحبار ( لِلذِينَ هَادُوا ) ، أي : عليهم ، فاللام( {[16216]} ) بمعنى " على " ( {[16217]} ) ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة : اشترطي( {[16218]} ) لهم الولاء أي : عليهم ، ولم يأمرها بأن تشترط الولاء لهم ، وهو لا يجوز ، ( فلا يأمرها بفعل ما لا يجوز )( {[16219]} ) ، وإنما أمرها بفعل ما يجوز ، وهو أن يكون الولاء لها ، فلما اشترطوا الولاء لأنفسهم قال( {[16220]} ) صلى الله عليه وسلم : ما بال قوم يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله .

وقيل : المعنى : للذين( {[16221]} ) هادوا ( و )( {[16222]} ) عليهم ، أي : يحكمون لهم ( و )( {[16223]} ) عليهم ، ثم حذف لدلالة الكلام عليه( {[16224]} ) .

وقيل : المعنى : فيها هدى ونور للذين هادوا ، يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانيون والأحبار( {[16225]} ) .

( و )( {[16226]} ) عني( {[16227]} ) بالنبيين( {[16228]} ) –هنا- محمد( {[16229]} ) صلى الله عليه وسلم ومن قبله ، قاله السدي وقتادة و[ غيرهما ]( {[16230]} ) .

وروي ( أن )( {[16231]} ) النبي صلى الله عليه وسلم قال –لما نزلت هذه الآية- : نحن _اليوم_ نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان( {[16232]} ) .

والأحبار : [ العلماء ]( {[16233]} ) [ الحكماء ]( {[16234]} ) ، واحدهم حَبْرٌ ، وقيل : حِبْرٌ( {[16235]} ) . وسموا أحباراً( {[16236]} ) ، لأنهم يحبرون( {[16237]} ) الشيء ، فهو في صدورهم مُحَبّرٌ( {[16238]} ) .

وسمي الحبر –الذي يكتب به- حبراً ، لأنه يحبر به ، أي : يكتب به( {[16239]} ) .

وقال الفراء : التقدير فيه : مداد حِبْرٍ ، ( لأن العالم يقال له " حِبْر " فإذا [ قلت : " هذا ]( {[16240]} ) حِبْرٌ " للمداد ، فالمعنى : مداد حِبْرٍ )( {[16241]} ) ، أي : مداد عالم( {[16242]} ) ، ثم تحذف( {[16243]} ) مثل ( وَسْئَلِ القرْيَةَ )( {[16244]} ) .

وقال الأصمعي : ( إنما سمي )( {[16245]} ) الحبر –الذي هو المداد- حِبْراً لتأثيره ، يقال : " على [ أسنانه ]( {[16246]} ) حبرَةٌ " أي : صُفْرَةٌ أو سَوَادٌ( {[16247]} ) .

( وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالاَحْبَارُ ) : القراء والفقهاء( {[16248]} ) . وقيل : الفقهاء والعلماء( {[16249]} ) . " قال ابن زيد : الربانيون " ( {[16250]} ) : الولاة ، والأحبار : العلماء " ( {[16251]} ) . والرَّبَّاني –عند أهل اللغة- : رب العلم ، أي : صاحبه ، والألف والنون للمبالغة( {[16252]} ) .

وقيل : معنى ( لِلذِينَ( {[16253]} ) هَادُوا ) : للذين( {[16254]} ) تابوا من الكفر ، أي : يحكم هؤلاء بما في التوراة للذين " تابوا " ( {[16255]} ) من الكفر( {[16256]} ) .

وقوله : ( بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِن كِتَابِ اللَّهِ ) أي : يحكمون بما استودعوا من كتاب الله( {[16257]} ) ، والباء متعلقة بالأحبار ، والمعنى : يحكم بها النبيون والربانيون والأحبار ، أي : والعلماء/( {[16258]} ) بما استودعوا من كتاب الله( {[16259]} ) ، ( وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ) أي : وكان النبيون والربانيون والأحبار شهداء أنهم قضوا عليهم بكتاب الله ، وقال ابن عباس : الشهداء –هنا- الربانيون والأحبار شهداء أن الذي قضى [ به ]( {[16260]} ) محمد صلى الله عليه وسلم حق( {[16261]} ) في أمر الزانيين( {[16262]} ) المحصنين( {[16263]} ) وقد أخبرنا الله أنهم استحفظوا كتابهم ، وأعلمنا أنهم بدلوا وغيّروا ، وأعلمنا تعالى أنه يحفظ علينا ما أنزله من القرآن فقال ( وَإِنَّا( {[16264]} ) لَهُ لَحَافِظُونَ )( {[16265]} ) فغير جائز أن يبدل أحد أو يغير ما حفظه( {[16266]} ) الله علينا ، فنحن أمة محمد عليه السلام برآء من التبديل والتغيير لشيء من كتاب الله ، إذ الله تولى حفظه علينا ، ولم يسلم أهل التوراة من ذلك ، إذ الله استحفظهم عليه فخانوا ، ولم يحفظه( {[16267]} ) هو( {[16268]} ) .

وقوله ( فَلاَ تَخْشَوُ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ )( {[16269]} ) هذا خطاب للربانيين والأحبار ، أمرهم ألا يخشوا الناس في تنفيذ حكمه وإمضائه على ما في كتابه ، وأن يخشوه( {[16270]} ) في ذلك ، قاله السدي وغيره( {[16271]} ) . وقوله ( وَلاَ تَشْتَرُوا بِئَايَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ) أي : لا تأخذوا [ الرّشى ]( {[16272]} ) في الأحكام ، فإنه عِوَضٌ( {[16273]} ) خسيس وثمن قليل( {[16274]} ) .

( وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ) أي : من كتم حكم الله الذي أنزله في كتابه في الزانيين المحصنين وغيرهما من دية القتيل ، ( فَأُولاَئِكَ هُمُ الكَافِرُونَ ) أي : الساترون الحق( {[16275]} ) .

وهذه في كفار أهل الكتاب( {[16276]} ) .

وقيل : هي في المشركين( {[16277]} ) .

وقيل : المعنى ومن لم يحكم بما أنزل الله مستحلاً له ، فأولئك هم الكافرون( {[16278]} ) .

وقال بعد ذلك : ( هُمُ الظَّالِمُونَ ) . وقال بعد ذلك : ( هُمُ( {[16279]} ) الفَاسِقُونَ )( {[16280]} ) .

فقيل( {[16281]} ) : إن الأوصاف الثلاثة لمن غير حكم الله [ ومن جميع الخلق( {[16282]} ) .

وقيل : هي لليهود المغيرين حكم الله( {[16283]} ) ] .

وقيل : الوصف الأول لليهود ، والثاني والثالث للمسلمين( {[16284]} ) .

وقيل : نزل ( الكَافِرُونَ ) في المسلمين إذا( {[16285]} ) غَيَّروا حكم الله ، و( الظَّالِمُونَ )( {[16286]} ) في اليهود ، و( الفَاسِقُونَ ) في النصارى( {[16287]} ) . وهو ظاهِرُ( {[16288]} ) النص .


[16208]:- ب: نورا في.
[16209]:- ب ج د: ما.
[16210]:- انظر: تفسير الطبري 10/338.
[16211]:- انظر: معاني الزجاج 2/178.
[16212]:- انظر: تفسير الطبري 10/338.
[16213]:- البقرة: 127.
[16214]:- البقرة: 130.
[16215]:- د: لامرا. وانظر: ورود "الذين" هنا صفة على معنى المدح والثناء في إعراب مكي 226 و227، وإعراب ابن الأنباري 1/292، وانظر: معنى "الإسلام" في تفسير الفاتحة والبقرة 369، 370، 379.
[16216]:- ب: باللام.
[16217]:- انظر: (اللام): مكان على "في تأويل المشكل 569 و570، وانظر: كذلك أحكام القرطبي 6/188، وتفسير البحر 3/491.
[16218]:- د: اشرطي.
[16219]:- ساقطة من ب.
[16220]:- ج د: قال النبي.
[16221]:- ب ج د: الذين.
[16222]:- ساقطة من ب ج د.
[16223]:- ساقطة من ب ج د.
[16224]:- انظر: المحرر 5/110، وأحكام القرطبي 6/188، وتفسير البحر 3/491.
[16225]:- انظر: التفسير الكبير 12/3، وأحكام القرطبي 6/188.
[16226]:- ساقطة من ب ج د.
[16227]:- مخرومة في أ.
[16228]:- د: بالنبيين.
[16229]:- ب: النبي.
[16230]:- أ: غيره. ج: غيرهم. وهو قول الزهري وابن جريج وعكرمة والحسن كذلك في تفسير الطبري 10/338 وما بعدها.
[16231]:- ساقطة من ب.
[16232]:- انظر: تفسير الطبري 10/338، والمطالب العالية 3/324 ح: 3599.
[16233]:- أ ب: العلما.
[16234]:- في جميع النسخ: الحكما.
[16235]:- انظر: غريب ابن قتيبة 143، والمحرر 5/111، واللسان: حبر.
[16236]:- ب: أحبار.
[16237]:- ب: يحيون.
[16238]:- انظر: أحكام القرطبي 6/188.
[16239]:- هو قول الفراء والكسائي وأبي عبيدة في التفسير الكبير 12/3 و4، وانظر: اللسان: حبر.
[16240]:- الظاهر من الخرم في "أ" أنها كما أثبت.
[16241]:- ساقطة من ب ج د.
[16242]:- انظر: التفسير الكبير 12/3، واللسان: حبر.
[16243]:- غير منقوطة في أ. ج د: يحذف.
[16244]:- يوسف: 82. وانظر: أحكام القرطبي 6/189.
[16245]:- مخرومة في أ.
[16246]:- أ: أسنابه.
[16247]:- "والحِبْر والحَبْر والحَبْرة والحُبْرة والحِبِر والحِبِرة، كل ذلك: صُفرة تشوب بياض الأسنان" اللسان: حبر. وقول الأصمعي كله في أحكام القرطبي 6/189.
[16248]:- قاله الضحاك في تفسير الطبري 10/343.
[16249]:- هو قول الحسن في تفسير الطبري 10/343.
[16250]:- ساقطة من ب.
[16251]:- تفسير الطبري 10/343.
[16252]:- انظر: اللسان: ربب، وفيه: "...للمبالغة في النسب".
[16253]:- ب ج د: الذين.
[16254]:- ب: والذين. ج د: الذين.
[16255]:- ساقطة من د.
[16256]:- انظر: معاني الزجاج 2/178.
[16257]:- انظر: مجاز أبي عبيدة 1/167، وغريب ابن قتيبة 144، ومعاني الزجاج 2/178.
[16258]:- ب: العماء.
[16259]:- انظر: تفسير الطبري 10/343.
[16260]:- ساقطة من أ.
[16261]:- ب ج د: عليهم حق.
[16262]:- ب: الزانين.
[16263]:- انظر: تفسير الطبري 10/343 و344.
[16264]:- د: ان.
[16265]:- الحجر: آية 9.
[16266]:- ب: حفظ.
[16267]:- ب: يحفظ.
[16268]:- انظر: المحرر 5/111، وتفسير البحر 3/491 و492.
[16269]:- وصلها بياء، ووقف بغير ياء أبو عمرو ونافع في رواية إسماعيل وابن جمّاز عنه، وحذفها في الوصل والوقف نافع في رواية قانون والمسيبي وورش عنه: انظر: السبعة 251.
[16270]:- ب: يحشوه.
[16271]:- انظر: تفسير الطبري 10/344، وانظر: قول ابن عباس ومقاتل في تفسير البحر 3/492.
[16272]:- أ ج د: الرشا. ب: الرشاء. وجمع رِشْوَة: "رُشَىً... والرشاء: الحبل. والجمع: أرْشِية". اللسان: رشا.
[16273]:- ج د: عرض.
[16274]:- انظر: قول ابن زيد والسدي في تفسير الطبري 10/345.
[16275]:- انظر: تفسير الطبري 10/345 و346.
[16276]:- هو قول أبي صالح والضحاك وأبي مجلز وحذيفة وعكرمة وقتادة والبراء وابن زيد وعبيد الله في تفسير الطبري 10/346 وما بعدها، وقد اختاره فيه في 10/358.
[16277]:- انظر: حوار أبي مِجلَزٍ مع نفر من الإباضية في تفسير الطبري 10/347، وهو قول ابن العربي في أحكامه 624، 625 الذي قال بعده: "لنه ظاهر الآيات، وهو اختيار ابن عباس وجابر ابن زيد وابن أبي زائدة وابن شبرمة".
[16278]:- انظر: إعراب النحاس 1/498.
[16279]:- ساقطة من ب. وانظر: قول قتادة وعبيد الله في تفسير الطبري 10/351-352، وقول الشعبي في إعراب النحاس 1/498.
[16280]:- انظر: قول ابن عباس: "من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقرّ به ولم يحكم فهو ظالم فاسق" في تفسير الطبري 10/357.
[16281]:- ب ج د: قيل.
[16282]:- ب د: الحلق. وهو قول إبراهيم والحسن وابن مسعود والسدي في تفسير الطبري 10/356 و357.
[16283]:- ساقطة من ب. وانظر: قول قتادة وعبيد الله في تفسير الطبري 10/351/352، وقول الشعبي في إعراب النحاس 1/498.
[16284]:- انظر: قول ابن عباس في تفسير الطبري 10/357، وتفسير ابن كثير 2/63.
[16285]:- ب: إذ.
[16286]:- د: بظالمون.
[16287]:- انظر: الكشف 1/410، وهو قول الشعبي في المحرر 5/117، وفي تفسير البحر 3/493.
[16288]:- د: ط هو.