لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (44)

قوله عز وجل : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } سبب نزول هذه الآية استفتاء اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر الزانيين وقد سبق بيانه والهدى هو البيان لأن التوراة مبينة صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومبينة ما تحاكموا فيه والنور هو الكاشف للشبهات الموضح للمشكلات والتوراة كذلك . وقيل : الفرق بين الهدى والنور أن الهدى محمول على بيان الأحكام والشرائع والنور محمول على بيان أحكام التوحيد والنبوات والمعاد { يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } أراد بالنبيين الذين بعثوا بعد موسى عليه السلام وذلك أن الله بعث في بني إسرائيل ألوفاً من الأنبياء وليس معهم كتاب إنما بعثوا بإقامة التوراة وأحكامها ومعنى أسلموا : أي انقادوا لأمر الله تعالى والعمل بكتابه وهذا على سبيل المدح لهم وفيه تعريض باليهود لأنهم بعدوا عن الإسلام الذي هو دين الأنبياء عليهم السلام وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي : يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو محمد صلى الله عليه وسلم وإنما ذكره بلفظ الجمع تعظيماً وتشريفاً له صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم وكان هذا الحكم في التوراة . قال ابن الأنباري هذا رد على اليهود والنصارى لأن الأنبياء عليهم السلام ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية بل كانوا مسلمين لله تعالى منقادين لأمره ونهيه . للذين هادوا يعني لليهود يعني يحكم بالتوراة لهم وفيما بينهم ويحملهم على أحكامها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم كما هو في التوراة ولم يوافقهم على ما أرادوه من الجلد وقال الزجاج وجائز أن يكون المعنى على التقديم والتأخير على معنى : إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون الذين أسلموا { والربانيون والأحبار } أما الربانيون فتقدم تفسيره في سورة آل عمران وأما الأحبار فقال ابن عباس : هم الفقهاء . وقيل : هم العلماء الأحبار واحده حبر بفتح الحاء وكسرها لغتان . وقال الفراء : إنما هو حبر بكسر الحاء وإنما سمي به لمكان الحبر الذي يكتب به وذلك لأنه صاحب كتاب . وقال أبو عبيد : إنما هو حَبر بفتح الحاء والحبر العالم لما يبقى من أثر علومه في قلوب الناس وأفعاله الحسنة التي يقتدي بها وجمعه أحبار ومنه كعب الأحبار . وقيل : الحبر الأثر المستحسن ومنه الحديث : يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره أي جماله وبهاؤه . وإنما سمي العالم حبراً لما عليه من أثر جمال العلم وهل فرق بين الربانيين والأحبار أم لا ؟ فيه خلاف ، فقيل : لا فرق . والربانيون ، والأحبار بمعنى واحد وهم : العلماء والفقهاء .

وقيل : الربانيون أعلى درجة من الأحبار لأن الله تعالى قدمهم في الذكر على الأحبار . وقيل : الربانيون هم الولاة . والحكام والأحبار هم العلماء : وقيل : الربانيون علماء النصارى ، والأحبار : علماء اليهود . ومعنى الآية : يحكم بأحكام التوراة النبيون وكذلك يحكم بها الربانيون والأحبار . وقوله تعالى : { بما استحفظوا من كتاب الله } يعني بما استودعوا من كتاب الله . وقيل : هو أن يحفظوا كتاب الله فلا ينسوه وقيل هو أن يحفظوه فلا يضيعوا أحكامه وشرائعه . وقد أخذ الله على العلماء حفظ كتابه من هذين الوجهين معاً وذلك بأن يحفظوا كتاب الله في صدورهم ويدرسونه بألسنتهم لئلا ينسوه وأن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه فإذا فعلوا كانوا قائمين بحفظه { وكانوا عليه شهداء } يعني : أن هؤلاء النبيين والربانيين والأحبار كانوا شهداء على كتاب الله تعالى ويعلمون أنه حق وصدق وأنه من عند الله { فلا تخشوا الناس واخشون } هذا خطاب لحكام اليهود الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني لا تخافوا أحداً من الناس في إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم والعمل بالرجم واخشون يعني في كتمان ذلك { ولا تشتروا بآياتى ثمناً قليلاً } يعني ولا تستبدلوا بآيات الله وأحكامه ثمناً قليلاً يعني الرشوة في الأحكام والجاه عند الناس ورضاهم والمعنى كما نهيتكم عن تغير الأحكام لأجل خوف الناس كذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في المال والجاه وأخذ الرشوة فإن كل متاع الدنيا قليل { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } بمعنى : أن اليهود لما أنكروا حكم الله تعالى المنصوص عليه في التوراة وقالوا إنه غير واجب عليهم ، فهم كافرون على الإطلاق بموسى والتوراة وبمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن واختلف العلماء فيمن نزلت هذه الآيات الثلاث وهي قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } فقال جماعة من المفسرين : الآيات الثلاث نزلت في الكفار ومن غير حكم الله من اليهود ، لأن المسلم وإن ارتكب كبيرة ، لا يقال إنه كافر وهذا قول ابن عباس وقتادة والضحاك . ويدل على صحة هذا القول ما روي عن البراء بن عازب قال أنزل الله تبارك وتعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } في الكفار كلها أخرجه مسلم وعن ابن عباس قال { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } إلى قوله هم الفاسقون هذه الآيات الثلاث في اليهود خاصة قريظة والنضير أخرجه أبو داود . وقال مجاهد : في هذه الآيات الثلاث من ترك الحكم بما أنزل الله رداً لكتاب الله فهو كافر ظالم فاسق . وقال عكرمة ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به فقد كفر ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق وهذا قول ابن عباس أيضاً واختار الزجاج لأنه قال : من زعم أنّ حكماً من أحكام الله تعالى التي أتانا بها الأنبياء باطل فهو كافر . وقال طاوس : قلت لابن عباس أكافر من لم يحكم بما أنزل الله ؟ فقال : به كفر وليس بكفر ينقل عن الملة كمن كفر بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر ونحو هذا روي عن عطاء . قال : هو كفر دون الكفر . وقال ابن مسعود والحسن والنخعي : هذه الآيات الثلاث عامة في اليهود وفي هذه الأمة فكل من ارتشى وبدل الحكم فحكم بغير حكم الله فقد كفر وظلم وفسق وإليه ذهب السدي لأنه ظاهر الخطاب . وقيل : هذا فيمن علم نص حكم الله ثم رده عياناً عمداً وحكم بغيره وأما من خفي عليه النص أو أخطأ في التأويل فلا يدخل في هذا الوعيد والله أعلم بمراده .