معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (44)

قوله تعالى : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا } . أي : أسلموا وانقادوا لأمر الله تعالى ، كما أخبر عن إبراهيم عليه السلام : إذ قال له ربه أسلم { قال أسلمت لرب العالمين } [ البقرة : 131 ] ، وكما قال : { وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها } [ آل عمران :83 ] وأراد بهم النبيين الذين بعثوا من بعد موسى عليه السلام ليحكموا بما في التوراة ، وقد أسلموا لحكم التوراة وحكموا بها ، فإن من النبيين من لم يؤمر بحكم التوراة ، منهم عيسى عليه السلام ، قال الله سبحانه وتعالى { لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً } [ المائدة : 48 ] . وقال الحسن والسدي : أراد به محمداً ، صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم ، ذكر بلفظ الجمع كما قال : { إن إبراهيم كان أمةً قانتاً } [ النحل :120 ] .

قوله تعالى : { للذين هادوا } ، فيه تقديم وتأخير ، تقديره : فيها هدى ونور للذين هادو . ويقل هو على موضعه ، يحكم بها النبيون الذين أسلموا على الذين هادوا ، كما قال { وإن أسأتم فلها } أي : فعليها ، وقال : { أولئك لهم اللعنة } [ الرعد :25 ] أي : عليهم ، وقيل : فيه حذف ، كأنه قال : للذين هادوا وعلى الذين هادوا ، فحذف أحدهما اختصارً . قوله تعالى : { والربانيون والأحبار } ، يعني العلماء ، واحدها حبر ، وحبر بفتح الحاء وكسرها ، والكسر أفصح ، وهو العالم المحكم في الشيء ، قال الكسائي وأبو عبيد : هو من الحبر الذي هو بمعنى الجمال ، بفتح الحاء وكسرها ، في الحديث : يخرج من النار رجل قد ذهب حبره وسبره ، أي حسنه وهيئته ، ومنه التحبير وهو التحسين ، فسمى العالم حبراً لما عليه من جمال العلم وبهائه ، وقيل : الربانيون هاهنا من النصارى ، والأحبار من اليهود .

قوله تعالى : { بما استحفظوا من كتاب الله } أي ، استودعوا من كتاب الله .

قوله تعالى : { وكانوا عليه شهداء } ، . أنه كذلك .

قوله تعالى : { فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ، قال قتادة و الضحاك : نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة ، روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ، والظالمون والفاسقون كلها في الكافرين ، وقيل : هي على الناس كلهم . وقال ابن عباس وطاووس : ليس بكفر ينقل عن الملة ، بل إذا فعله به كافر ، وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر . قال عطاء : هو كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق ، وقال عكرمة معناه : ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحداً به ، فقد كفر ، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق ، وسئل عبد العزيز بن يحيى الكناني عن هذه الآيات ، فقال : إنها تقع على جميع ما أنزل الله لا على بعضه ، وكل من لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق ، فأما من حكم بما أنزل الله من التوحيد وترك الشرك ، ثم لم يحكم ببعض ما أنزل الله من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات . وقال العلماء : هذا إذا ورد نص حكم الله عياناً عمدا ، فأما من خفي عليه ، أو أخطأ في تأويل فلا .