الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي - السيوطي  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (44)

أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مقاتل في قوله { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } يعني هدى من الضلالة ، ونور من العمى { يحكم بها النبيون } يحكمون بما في التوراة من لدن موسى إلى عيسى { للذين هادوا } لهم وعليهم ، ثم قال ويحكم بها { الربانيون والأحبار } أيضاً بالتوراة { بما استحفظوا من كتاب الله } من الرجم والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم { وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس } في أمر محمد صلى الله عليه وسلم والرجم يقول : اظهروا أمر محمد والرجم { واخشون } في كتمانه .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار } قال : أما الربانيون . ففقهاء اليهود ، وأما الأحبار . فعلماؤهم . قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لما أنزلت هذه الآية : نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن الحسن في قوله { يحكم بها النبيون الذين أسلموا } قال : النبي صلى الله عليه وسلم ومن قبله من الأنبياء يحكمون بما فيها من الحق .

وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله { والربانيون والأحبار } قال : الفقهاء والعلماء .

وأخرج عن مجاهد قال : { الربانيون } العلماء الفقهاء ، وهم فوق الأحبار .

وأخرج عن قتادة قال { الربانيون } فقهاء اليهود { والأحبار } العلماء .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي قال « كان رجلان من اليهود أخوان يقال لهما ابنا صوريا ، قد اتبعا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلما ، وأعطياه عهداً أن لا يسألهما عن شيء في التوراة إلا أخبراه به ، وكان أحدهما ربيّا والآخر حبراً ، وإنما الأمر كيف حين زنى الشريف وزنى المسكين وكيف غيروه ، فأنزل الله { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } يعني النبي صلى الله عليه وسلم { والربانيون والأحبار } هما ابنا صوريا .

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : الربانيون . الفقهاء العلماء .

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { والربانيون } قال : هم المؤمنون { والأحبار } قال : هم القراء { كانوا عليه شهداء } يعني الربانيون والأحبار هم الشهداء لمحمد صلى الله عليه وسلم بما قال أنه حق جاء من عند الله ، فهو نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم أتته اليهود فقضى بينهم بالحق » .

وأخرج ابن المنذر وابن جريج { فلا تخشوا الناس واخشون } لمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته .

وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن عساكر عن نافع قال : كنا مع ابن عمر في سفر فقيل إن السبع في الطريق قد حبس الناس ، فاستحث ابن عمر راحلته ، فلما بلغ إليه برك فعرك أذنه وقعده ، قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول

« إنما يسخط على ابن آدم من خافه ابن آدم ، ولو أن ابن آدم لم يخف إلا الله لم يسلط عليه غيره ، وإنما وكل ابن آدم عن رجال ابن آدم ، ولو أن ابن آدم لم يرج إلا الله لم يكله إلى سواه » .

وأخرج ابن جرير عن السدي { فلا تخشوا الناس } فتكتموا ما أنزلت { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } على أن تكتموا ما أنزلت .

وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } قال : لا تأكلوا السحت على كتابي .

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { ومن لم يحكم بما أنزل الله } فقد كفر ، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق .

وأخرج سعيد بن منصور والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } [ المائدة : 45 ] { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } [ المائدة : 47 ] قال : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق .

وأخرج سعيد بن منصور و أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس قال : إنما أنزل الله { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } والظالمون ، والفاسقون ، في اليهود خاصة .

وأخرج ابن جرير عن أبي صالح قال : الثلاث الآيات التي في المائدة { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } هم الظالمون ، هم الفاسقون ، ليس في أهل الإسلام منها شيء ، هي في الكفار .

وأخرج ابن جرير عن الضحاك في قوله { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } هم الظالمون ، هم الفاسقون ، نزلت هؤلاء الآيات في أهل الكتاب .

وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ عن إبراهيم النخعي في قوله { ومن لم يحكم بما أنزل الله . . . } الآيات . قال : نزلت الآيات في بني إسرائيل ، ورضي لهذه الأمة بها .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن الحسن في قوله { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون . . . } قال : نزلت في اليهود ، وهي علينا واجبة .

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ عن الشعبي قال : الثلاث آيات التي في المائدة { ومن لم يحكم بما أنزل الله } أولها في هذه الأمة ، والثانية في اليهود ، والثالثة في النصارى .

وأخرج ابن جرير عن ابن زيد في قوله { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } قال : من حكم بكتابه الذي كتب بيده وترك كتاب الله ، وزعم أن كتابه هذا من عند الله فقد كفر .

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن حذيفة أن هذه الآيات ذكرت عنده { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } والظالمون ، والفاسقون ، فقال رجل : أن هذا في بني إسرائيل . قال حذيفة : نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل ، إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة ، كلا والله لتسلكن طريقهم قدر الشراك .

وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس قال : نعم القوم أنتم إن كان ما كان من حُلو فهو لكم ، وما كان من مُر فهو لأهل الكتاب ، كأنه يرى أن ذلك في المسلمين { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } .

وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن أبي مجلز { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } قال : نعم . قالوا { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } قال : نعم . قالوا : فهؤلاء يحكمون بما أنزل الله . قال : نعم ، هو دينهم الذي به يحكمون ، والذي به يتكلمون وإليه يدعون ، فإذا تركوا منه شيئاً علموا أنه جور منهم ، إنما هذه لليهود والنصارى والمشركون الذين لا يحكمون بما أنزل الله .

وأخرج عبد بن حميد عن حكيم بن جبير قال : سألت سعيد بن جبير عن هذه الآيات في المائدة { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون } ، { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } فقلت : زعم قوم أنها نزلت على بني إسرائيل ولم تنزل علينا قال : اقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقرأت عليه فقال : لا ، بل نزلت علينا ، ثم لقيت مقسماً مولى ابن عباس ، فسألته عن هذه الآيات التي في المائدة ، قلت : زعم قوم أنها نزلت على بني إسرائيل ولم تنزل علينا . قال : إنه نزل على بني إسرائيل ونزل علينا ، وما نزل علينا وعليهم فهو لنا ولهم ، ثم دخلت على علي بن الحسين فسألته عن هذه الآيات التي في المائدة ، وحدثته أني سألت عنها سعيد بن جبير ومقسماً قال : فما قال مقسم ؟ فأخبرته بما قال . قال صدق ، ولكنه كفر ليس ككفر الشرك ، وفسق ليس كفسق الشرك ، وظلم ليس كظلم الشرك ، فلقيت سعيد بن جبير فأخبرته بما قال : فقال سعيد بن جبير لابنه : كيف رأيته ، لقد وجدت له فضلاً عليك وعلى مقسم .

وأخرج سعيد بن منصور عن عمر قال : ما رأيت مثل من قضى بين إثنين بعد هذه الآيات .

وأخرج سعيد قال : استُعمل أبو الدرداء على القضاء ، فأصبح يهينه . قال : تهينني بالقضاء وقد جعلت على رأس مهواة منزلتها أبعد من عدن وأبين ، ولو علم الناس ما في القضاء لأخذوه بالدول رغبة عنه وكراهية له ، ولو يعلم الناس ما في الأذان لأخذوه بالدول رغبة فيه وحرصاً عليه .

وأخرج ابن سعد عن يزيد بن موهب . أن عثمان قال لعبد الله بن عمر : اقض بين الناس ، قال : لا أقضي بين إثنين ولا أؤم إثنين قال : لا ، ولكنه بلغني أن القضاة ثلاثة . رجل قضى بجهل فهو في النار ، ورجل حاف ومال به الهوى فهو في النار ، ورجل اجتهد فأصاب فهو كفاف لا أجر له ولا وزر عليه . قال : إن أباك كان يقضي ؟ قال : إن أبي إذا أشكل عليه شيء سأل النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا أشكل على النبي صلى الله عليه وسلم سأل جبريل ، وإني لا أجد من أسأل أما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول « من عاذ بالله فقد عاذ بمعاذ ؟ فقال عثمان : بلى . قال : فاني أعوذ بالله أن تستعملني ، فأعفاه وقال : لا تخبر بهذا أحداً » .

وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عبد العزيز بن أبي رواد قال : بلغني أن قاضياً كان في زمن بني إسرائيل ، بلغ من اجتهاده أن طلب إلى ربه أن يجعل بينه وبينه علماً ، إذا هو قضى بالحق عرف ذلك . فقيل له : ادخل منزلك ، ثم مد يدك في جدارك ، ثم انظر كيف تبلغ أصابعك من الجدار ، فاخطط عنده خطاً ، فإذا أنت قمت من مجلس القضاء فارجع إلى ذلك الخط ، فامدد يدك إليه فانك متى كنت على الحق فانك ستبلغه ، وإن قصرت عن الحق قصر بك ، فكان يغدو إلى القضاء وهو مجتهد ، وكان لا يقضي إلا بالحق ، وكان إذا فرغ لم يذق طعاماً ولا شراباً ، ولا يفضي إلى أهله بشيء حتى يأتي ذلك الخط ، فإذا بلغه حمداً لله وأفضى إلى كل ما أحل الله له من أهل أو مطعم أو مشرب ، فلما كان ذات يوم وهو في مجلس القضاء أقبل إليه رجلان بدابة ، فوقع في نفسه أنهما يريدان يختصمان إليه ، وكان أحدهما له صديقاً وخدنا ، فتحرك قلبه عليه محبة أن يكون له فيقضي له به ، فلما إن تكلما دار الحق على صاحبه فقضى عليه ، فلما قام من مجلسه ذهب إلى خطه كما كان يذهب كل يوم ، فمد يده إلى الخط فإذا الخط قد ذهب وتشمر إلى السقف وإذا هو لا يبلغه ، فخر ساجداً وهو يقول : يا رب ، شيء لم أتعمده ، فقيل له : أتحسبن أن الله لم يطلع على جور قلبك حيث أحببت أن يكون الحق لصديقك فتقضي له به ، قد أردته وأحببته ولكن الله قد رد الحق إلى أهله وأنت لذلك كاره .

وأخرج الحكيم والترمذي عن ليث قال : تقدم إلى عمر بن الخطاب خصمان فأقامهما ، ثم عادا ففصل بينهم ، فقيل له في ذلك فقال : تقدما إليَّ ، فوجدت لأحدهما ما لم أجد لصاحبه فكرهت أن أفصل بينهما ، ثم عادا فوجدت بعض ذلك فكرهت ، ثم عادا وقد ذهب ذلك ففصلت بينهما .