قوله تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } الآية .
قوله سبحانه : { فِيهَا هُدًى } يحتملُ الوجهَيْن المذكورَيْنِ في قوله : " وعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ " ، ف " هُدًى " مبتدأ أو فاعلٌ ، والجملةُ حالٌ من " التَّوْرَاةِ " .
وقوله : " يَحْكُمُ بِهَا " يجَوزُ أنْ تكونَ جُمْلةً مستأنفةً ، ويجوزُ أنْ تكونَ منصوبة المحلِّ على الحالِ ، إمَّا مِنَ الضَّمير في " فِيهَا " ، وإمَّا مِن " التَّوْرَاةِ " .
وقوله : " الَّذِينَ أسْلَمُوا " صِفَةٌ ل " النَّبِيُّونَ " ، وصفَهُم بذلك على سبيلِ المَدْح ، والثَّنَاء ، لا عَلى سبيلِ التَّفْصِيلِ ؛ فإنَّ الأنبياءَ كُلَّهُمْ مُسْلِمُونَ ، وإنَّما أثْنَى عليهم بذلك ، كما تَجري الأوْصَافُ على أسماء الله تعالى .
قال الزَّمخشريُّ{[11819]} : أجْرِيَتْ على النَّبِيِّينَ على سبيلِ المدْحِ كالصفات الجارية على القديمِ - سبحانه - لا للتفصلة والتوضِيحِ ، وأُريدَ بإجرائها التَّعْرِيضُ باليهُودِ ، وأنَّهم بُعداءُ من مِلَّةِ الإسلامِ الذي هو دينُ الأنبياءِ كُلِّهم في القديم والحديثِ ، فإن اليهود بمعْزَلٍ عنها .
وقوله تعالى : { الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } منارٌ على ذلك ، أيْ : دليلٌ على ما ادَّعَاهُ .
فإن قُلْتَ : " هُدًى ونُورٌ " العطفُ يقتضِي المغايَرَة ، فالهُدَى مَحْمُولٌ على بيانِ الأحْكامِ والشرائع{[11820]} والتكالِيف ، والنُّورُ بيانُ التَّوْحيدِ ، والنُّبُوَّةِ ، والمَعَادِ .
وقال الزَّجَّاج{[11821]} : الهُدَى بيانُ الحُكْمِ الذي يستفتُونَ فيه النبيَّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، والنورُ بيانُ أنَّ أمرَ النبيِّ [ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ] حَقٌّ .
وقوله : { يَحكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ } يُريدُ الذين كانوا بعد مُوسى [ عليه السلام ] .
وقوله " الَّذِين أسْلَمُوا " أيْ : سلَّموا وانْقَادُوا لأمر الله كما أخبرَ عَنْ إبْرَاهِيم [ عليه السلامُ ] : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [ البقرة : 131 ] ، وكقوله :
{ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً } [ آل عمران : 83 ] .
وأراد بالنبيِّينَ الذين بُعِثُوا بعد مُوسى [ عليه وعليهم السلام ] لِيحكُمُوا بما في التوراةِ [ وقد أسلمُوا لحُكْمِ التوراةِ وحكمُوا بها ، فإنَّ من النبيين مَنْ لمْ يحكم بحكم التوراةِ منهم ]{[11822]} عيسى [ عليه الصلاة والسلام ] قال تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [ المائدة : 48 ] .
وقال الحسنُ والزهري وعكرمةُ ، وقتادةُ والسديُّ : يحتملُ أنْ يكونُ المرادُ بالنبيين هُمْ مُحَمَّدٌ [ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ] حَكَمَ على اليهُودِ بالرجْمِ{[11823]} ، وكان هَذَا حُكْمَ التَّوْرَاةِ ، وذكره بلفْظِ الجمعِ تَعْظِيماً له كقوله تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ } [ النحل : 120 ] وقوله تعالى : { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ } [ النساء : 54 ] لأنه كان قد اجتمعَ فِيه من خِصالِ الخيْرِ ما كان حَاصِلاً لأكثرِ الأنْبياء .
قال ابنُ الأنْبَارِي{[11824]} : هذا ردٌّ على اليهُود والنَّصارى [ لأنَّ بعضُهم كانوا يقولون : الأنبياءُ كلُهم يهودٌ أو نصارى ، فقال تعالى : ]{[11825]} { يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ } يَعْنِي : أنَّ الأنبياء ما كانوا مَوصُوفينَ باليهوديةِ والنصرانيَّةِ بَلْ كانوا مُسْلِمين لِلَّهِ مُنْقَادينَ لتكالِيفهِ .
وقولُه تعالى : { لِلَّذِينَ هَادُواْ } فيه وجهانِ :
أحدهما : أن النبيين إنما يحكُمون بالتورَاةِ لأجْلِهِمْ ، وفِيمَا بَيْنَهُم ، والمَعْنَى : يحكمُ بها النبيونَ الذين أسْلموا على الذين هَادُوا ؛ كقوله تعالى : { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] أيْ : فعليْهَا : وكقوله : { أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ } [ الرعد : 25 ] أيْ : عليهم .
وقيل : فيه حَذْفٌ كأنه قال : للذين هادُوا وعلى الذين هَادُوا فحذَفَ أحدهما اخْتِصَاراً .
والثاني : أنَّ المعنى على التقديم والتأخِيرِ ، أيْ : إنَّا أنزلنَا التوراةَ فيها هُدًى ونُورٌ للذين هَادُوا يحكُمُ بها النبيونَ الذين أسْلَمُوا .
وتقدم تفسيرُ الربانيِّينَ ، وأمَّا الأحبارُ فقال ابنُ عباس وابن مسعود [ رضي الله عنهما ] : هُمُ الفُقَهاءُ .
واختلفَ أهْلُ اللُّغَةِ{[11826]} في واحِدِهِ قال الفرَّاءُ{[11827]} : إنَّه " حِبْرٌ " بكسر الحاءِ وسُمِّيَ بذلك لمكان الحِبر الذي يُكْتَبُ به ؛ لأنَّه يكونُ صاحبَ كُتُبٍ ، وقال أبُو عُبَيْد{[11828]} : " حَبْر " بفتحِ الحاءِ ، وقال اللَّيْثُ{[11829]} : هو " حَبْرٌ " ، و " حِبْر " بفتح الحاء وكسرِهَا .
ونقل البَغوِيُّ{[11830]} : أنَّ الكسرَ أفْصَحُ ، وهو العالِمُ المُحكِمُ للشَّيْء .
وقال الأصمعِيُّ{[11831]} : لا أدْرِي أهُوَ الحِبْرُ أو الحَبْرُ ، وأنكرَ أبُو الهَيْثَمِ الكَسْرَ ، والفراءُ " الفَتْحَ " ، وأجاز أبُو عُبَيْد الوجْهَيْنِ ، واختار الفَتْحَ .
قال قُطْربٌ : هو مِنَ الحبر الذي هو بمَعْنَى الجمالِ بفتح الحَاءِ وكسْرِهَا وفي الحديث " يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ رَجُلٌ ذَهَبَ حَبَرهُ وسَبَرهُ " {[11832]} أي حُسْنُهُ وهَيْئَتُهُ ، ومنه التَّحْبِيرُ أي : التحسينُ قال تعالى : { وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ } [ الزخرف : 70 ] أي : يَفْرَحُون ويزينونَ ، وسُمِّيَ ما يكتبُ حبراً لتحْسِينهِ الخطَّ ، وقيل : لتأثيره وقال الكِسَائِيُّ ، والفرَّاءُ ، وأبُو عُبَيْدَةَ : اشتقاقُهُ من الحِبْرِ الذي يُكْتَبُ به .
وقيل : الرَّبَّانِيُّونَ هاهُنَا مِنَ النَّصَارَى ، والأحبارُ مِن اليهُودِ وقِيل : كلاهُمَا من اليُهودِ ، وهذا يقتضي كون الربانيِّينَ أعْلَى حالاً مِنَ الأحبار ، فيُشْبهُ أنْ يكونَ الربانِيُّون كالمجتهدينَ والأحبارُ كآحادِ العُلَماءِ .
قوله : " لِلَّذين هَادُوا " في هذه " اللاَّم " ثلاثةُ أقوالٍ :
أظهرُهَا : أنَّها متعلِّقةٌ ب " يَحْكُمُ " ، فعلى هذا مَعْنَاها الاخْتِصَاصُ ، وتشمل مَنْ يحكمُ لَهُ ، ومن يحكمُ عليْه ، ولهذا ادَّعَى بعضُهم أنَّ في الكلامِ حَذْفاً تقديرُه : " يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ للَّذينَ هَادُوا وعليْهِمْ " ذكره ابنُ عطيَّة{[11833]} وغيرُه .
والثاني : أنها متعلقة ب " أنْزَلْنَا " ، أيْ : أنزلْنَا التوراةُ للَّذين هادُوا يحكم بها النَّبِيُّونَ .
والثالثُ : أنها متعلقةٌ بِنَفْس " هُدًى " أيْ : هُدى ونُورٌ للذين هادُوا ، وهذا فيه الفَصْلُ بين المصَدْرِ ومعمُولِهِ ، وعلى هذا الوجْهِ يجوزُ أنْ يكونَ " للذين هَادُوا " صفة لِ " هُدًى ونُورٌ " ، أيْ : هُدًى ونُورٌ كائِنٌ للذين هادُوا وأوَّلُ هذه الأقوالِ هو المقصودُ .
قوله تعالى : " والرَّبَّانِيُّون " عطفٌ على " النبيُّونَ " أيْ : [ إنَّ الرَّبَّانِيِّين وقد تقدم تفسيرهم في آل عمران ] يحكمُونَ أيْضاً بمقْتضَى مَا فِي التَّوْرَاةِ .
قال أبُو البقاءِ{[11834]} : " وقِيل : الرَّبَّانيون " مَرْفُوعٌ " بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ ، أي : ويحكُمُ الربانيونَ والأحبار بِمَا اسْتُحْفِظُوا " انتهى .
يَعْنِي أنَّه لما اختلفَ متعلِّقُ الحكمِ غاير بَيْنَ الفعلينِ أيضاً ، فإن النبيينَ يحكُمُونَ بالتوراةِ ، والأحبارُ والربانيونَ يحكُمُونَ بما استحفَظَهُمُ الله تعالى ، وهذا بعيد عن الصَّوَابِ ؛ لأنَّ الذي استحَفَظَهُمْ هو مُقْتَضَى ما في التَّوْرَاةِ ، فالنبيُّونَ والربانِيُّون حاكِمُونَ بشيء واحدٍ ، على أنَّه سيأتي أنَّ الضَّمير في " اسْتُحْفِظُوا " عَائِدٌ على النَّبِيين فَمَنْ بعدهم .
قال ابنُ عبَّاسٍ وغيرُه : الربانيون يُرْشِدُونَ الناسَ بالعلمِ ، ويربونهم للصغارِ قَبْل كبار{[11835]} .
وقال أبُو رَزِين{[11836]} : الرَّبَّانِيُّونَ العلماءُ ، والحكماءُ{[11837]} ، وأمَّا الأحبار : فقال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - : هُمُ الفقهاء{[11838]} والحَبرُ والحِبرُ بالفتح والكسر : الرجلُ العالِمُ ، مأخُوذٌ من التَّحِبِيرِ ، والتَّحبر ؛ فَهُمْ يُحبِّرون العِلْمَ ويُزَيِّنُونَهُ ، فهو مُحَبَّرٌ في صُدُورهم .
قال الجوهَرِيُّ{[11839]} : والحِبَر والحَبر واحد أحبار اليهود ، وهو بالكسْرِ أفْصحُ ؛ لأنَّهُ يُجَمعُ على أفْعَالٍ دُونَ الفُعُولِ .
قال الفرَّاءُ{[11840]} : هُو حِبْرٌ بالكسْرِ ، يُقالُ ذلك للعَالِمِ .
وقال الثَّوْرِيُّ{[11841]} : سألْتُ الفرَّاءَ : لِمَ سُمِّيَ الحبْرُ حِبْراً ؟ فقال : يُقال للعالم حِبرٌ وحَبرٌ ، فالمعنى مدادُ حبرهم ، ثم حذف كما قال : { وَسْأَلِ الْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] [ أيْ أهْلَ القَريةِ ]{[11842]} .
قال : فسألتُ الأصمعيَّ ، فقال : لَيْسَ هذا بشْيءٍ ، إنما سُمِّي حبْراً لِتَأثيرِه ، يُقالُ : على أسْنَانِهِ حِبْرٌ ، أيْ : صُفْرَةٌ أو سوادٌ .
وقال المبرِّدُ : وسُمِّيَ الحِبرُ الذي يُكْتَبُ به حِبْراً ؛ لأنه يُحَبَّرُ به ، أيْ : يُحقَّقُ بِهِ .
وقال أبُو عُبَيْد{[11843]} : والذي عندي في واحدِ الأحبارِ أنَّه للحَبر بالفتح ، ومعْنَاه العالمُ بِتَحبِير الكلامِ ، والعلم تحسينه ، والحِبرُ بالكسر : الذي يُكْتَبُ به .
قوله تعالى : { بِمَا اسْتُحْفِظُواْ } أجازَ أبُو البقاءِ فيه ثلاثةُ أوْجهٍ :
أحدها : أنَّ " بِمَا " بدلٌ من قوله : " بِهَا " بإعادة العامل لِطُول الفَصْل ، قال : " وهو جائزٌ وإنْ لَمْ يَطُل " أيْ : يجوزُ إعادةُ العامِلِ في البَدَلِ ، وإن لم يَطُل .
قلتُ{[11844]} : وإنْ لم يُفْصَلْ أيضاً .
الثاني : أنْ يكُونَ مُتعلّقاً بفعْلٍ محذوفٍ : أيْ : وَيَحْكُم الربانيونَ بما اسْتُحفِظُوا ، كما قدمتُه{[11845]} عنه .
والثالث : أنَّه مفعولٌ به ، أيْ : يحكُمُونَ بالتوراة بسببِ اسْتِحْفَاظِهِمْ ذلك ، وهذا الوجهُ الأخيرُ هو الذي نَحَا إليه الزمخشريُّ ؛ فإنه قال : " بِمَا اسْتُحْفِظُوا بِمَا سألَهُمْ أنبياؤهم حِفْظَهُ من التوراةِ ، أيْ : بسبب سُؤالِ أنبيائِهِمْ إيَّاهم أن يحفظُوه من التَّبْدِيلِ والتَّغْييرِ " ، وهذا على أنَّ الضميرَ يعُودُ على الربانِيين ، والأحبارِ ، دُونَ النَّبِيِّين ، فإنَّهُ قدَّرَ الفاعِلَ المحذُوفَ " النبيين " ، وأجاز أن يعودَ الضميرُ في " استحفِظُوا " على النبيينَ والربانيينَ والأحْبار ، وقدَّر الفاعل المنوبَ عنه : البَارِيَ تعالى ، أيْ : بِمَا اسْتَحْفَظَهُم اللَّه تعالى ، يعني : بما كَلَّفَهُمْ حِفْظَهُ .
وقوله تعالى : { مِن كِتَابِ اللَّهِ } ؛ قال الزمخشريُّ{[11846]} : و " مِنْ " فِي { مِن كتابِ اللَّهِ } للتَّبْيينِ ، يَعْنِي أنَّها لِبَيانِ جِنْس المُبْهَمِ في " بِمَا " فإنَّ " مَا " يجوزُ أنْ تكونَ موصُولَةً اسمِيَّةً بمعْنَى " الَّذِي " ، والعائِدُ محذوفٌ ، أيْ : بِمَا اسْتحْفظُوه ، وأنْ تكونَ مَصدريَّةً ، أيْ : باسْتِحْفَاظِهِمْ .
وجوَّزَ أبُو البقاءِ{[11847]} : أنْ تكونَ حالاً مِنْ أحَدِ شَيْئَيْنِ : إمَّا مِنْ " مَا " الموصُولَةِ ، أو مِنْ عَائِدها المحذُوفِ ، وفيه نظرٌ من حيثُ المعنى .
وقولُه : " وكانُوا " داخِلٌ في حَيِّز الصِّلةِ أيْ : وبكونِهِم شُهداءَ عليه ، أيْ : رُقَبَاءَ لئلاَّ يُبدلَ ، ف " عَلَيْهِ " متعلقٌ ب " شُهداءَ " ، والضميرُ في " عَلَيْه " يعودُ على " كِتابِ الله " وقيل : على الرسول عليه الصلاةُ والسلامُ ، أيْ : شُهداء على نُبُوَّتِهِ ورسالته .
وقيل : على الحُكْمِ ، والأوَّلُ هو الظاهِرُ .
قوله تعالى : { بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللَّهِ } أي : استُودعوا . وحفظ كتاب الله على وجهين :
والثاني : أن يحفظ فلا يُضيع ، فإن كان استحفظوا من صلة الأحبار ، فالمعنى : العلماء بما استحفظوا .
وقال الزجاج{[11848]} : يحكمون بما استحفظوا .
قوله تعالى { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } أي : هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق من عند الله تعالى فلا جرم كانوا يمضون أحكام التوراة ، ويحفظونها عن التحريف والتغيير .
ثم قال تعالى : { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } لمَّا قرر أن النبيين والربانيين والأحبار ، كانوا قائمين بإمضاء أحكام التوراة من غير مبالاة ، خاطب اليهود الذي كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ، ومنعهم من التحريف والتغيير .
واعلم أن إقدام القوم على التحريف لا بد وأن يكون لخوف أو رهبة أو لطمع ورغبة ، ولما كان الخوف أقوى تأثيراً من الطمع قدم تعالى ذكره فقال : { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } والمعنى لا تحرفوا كتابي للخوف من الناس ، ومن الملوك والأشراف ، فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم ، وتستخرجوا الحيل في إسقاط تكاليف الله عنهم ، ولما ذكر أمر الرهبة أتبعه بالرغبة فقال تعالى : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } أي : كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف والرهبة فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في الجاه والمال والرشوة ، فإن متاع الدنيا قليل . ولما منعهم من الأمرين أتبعه بالوعيد الشديد ، فقال تعالى : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } وهذا تهديد لليهود في افترائهم على تحريف حكم الله في حد الزاني المحصن ، يعني أنهم لما أنكروا حكم الله المنصوص عليه في التوراة ، قالوا : إنه غير واجب فهم كافرون على الإطلاق بموسى والتوراة وبمحمد والقرآن وبعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام .
قالت الخوارج{[11849]} : من عصى الله فهو كافر ، واحتجوا بهذه الآية ، وقالوا : إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله ، فوجب أن يكون كافراً ، وقال الجمهور : ليس الأمر كذلك ، وذكروا عن هذه الشبهة أجوبة منها أن هذه الآية نزلت في اليهود فتكون مختصة بهم .
قال قتادة والضحاك : نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة{[11850]} .
وروى البراء بن عازب : أن هذه الثلاثة آيات في الكافرين{[11851]} ، وهذا ضعيف ؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقال آخرون : المراد { من لم يحكم بما أنزل الله } كلام أدخل كلمة " من " في معرض الشرط فيكون للعموم ، وقولهم : من الذين سبق ذكرهم ، زيادة في النص ، وذلك غير جائز . وقال عطاء : هو كفر دون كفر{[11852]} .
وقال طاووس : ليس بكفر ينقل عن الملة ، ولا بكفر بالله واليوم الآخر{[11853]} . فكأنهم حملوا الآية على كفر النعمة لا على كفر الدين ، وهو أيضاً ضعيف ، لأن إطلاق لفظ الكافر إنما ينصرف إلى الكفر في الدين وقال ابن الأنباري{[11854]} : يجوز أن يكون المعنى ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار ، وهذا أيضاً ضعيف لأنه عدول عن الظاهر .
وقال عبد العزيز{[11855]} : قوله " بما أنزل " صيغة عموم ، ومعنى " أنزل الله " أي : نص الله ، حكم الله في كل ما أنزله ، والفاسق لم يأت بضد حكم الله إلا في القليل من العمل ، أما في الاعتقاد والإقرار فهو موافق ، وهذا أيضاً ضعيف ، لأنه لو كانت هذه الآية [ وعيداً مخصوصاً ]{[11856]} لمن خالف حكم الله تعالى ، في كل ما أنزله الله لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في الرجم ، وأجمع المفسرون أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في واقعة الرجم ، فدلَّ على سقوط هذا الجواب .
وقال عكرمة{[11857]} : قوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ } إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله إلا أنه أتى بما يضاده ، فهو حاكم بما أنزل الله ، ولكنه تارك له فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية .