الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (44)

{ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ } تعجّب وفيه اختصار إلى وكيف يجعلونك حاكماً ويرضون بمحمد { وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ } وهو الرجم فلا يرضون بذلك .

{ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلِكَ } إلى قوله { لِلَّذِينَ هَادُواْ } فإن قيل : وهل فينا غير مسلم ؟ فالجواب أن هؤلاء نبيوا الإسلام لا على أن غيرهم من النبيين لم يتولوا المسلمين وهذا كقوله

{ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ } [ الفتح : 29 ]

{ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ } [ الأعراف : 158 ] لا يريد أن غيره من الأنبياء لم يؤمنوا باللّه وكلماته . وقيل : لم يرد به الإسلام الذي هو ضد الكفر . إنما المراد به الذين انقادوا لحكم اللّه فلم يكتموه كما كتم هؤلاء ، يعرّض بأهل الكتاب .

وهذا كقوله

{ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [ آل عمران : 83 ] .

وقال يزيد بن عمرو بن نفيل : أسلمت وجهي لمن أسلمت له الأرض تحمل صخراً ثقالاً ، وأسلمت وجهي لمن أسلمت له العيون تحمل عذباً زلالاً . وقيل : معناه الذين أسلموا أنفسهم إلى اللّه . كما روي " إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أوى إلى فراشه : " أسلمت نفسي إليك " .

وقيل : معناه : يحكم بها النبيون الذين أسلموا بما في التوراة من الشرائع ولم يعمل به كمثل عيسى ( عليه السلام ) وهو قوله تعالى { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [ المائدة : 48 ] وهو معنى قول ابن حيّان يحكم بما في التوراة من لدن موسى إلى عيسى عليهما السلام .

وقال الحسن والسدّي أراد محمداً صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم وذكره بلفظ الجمع كما قال تعالى

{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [ النحل : 120 ] وقال : أم تحسدون الناس في الحياة { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ } يعني العلماء وهم ولد هارون ( عليه السلام ) وأحدهم محبر وحبر وهو العالم المحكم للشيء ومنه الكعب بن قانع كعب الأحبار وكعب الحبر .

قال الفرّاء : أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد الأحبار بكسر الحاء واختلفوا في اشتقاق هذا الإسم .

فقال الكسائي وأبو عبيدة : هو من الحبر الذي يكتب به . وقال النضر بن شميل : سألت الخليل عنه ، فقال : هو من الحبار وهو الأثر الحسن . فأنشد :

لا تملأ الدلو وعرق فيها *** ألا ترى حبّار من يسقيها

قال قطرب : هو من الحبر وهو الجمال والهيئة يدل عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : " يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره " [ أي جماله وبهاؤه ] .

" وقال العباس لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم يا ابن أخ فيم الجمال ؟ قال : " في اللسان " .

وقال مصعب بن الزبير لإبنه : يا بني تعلم العلم فإن كان لك مال كان جمالاً وإن لم يكن عندك علم كان لك مالاً ، { بِمَا اسْتُحْفِظُواْ } استودعوا من كتاب اللّه { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } إنه كذلك { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } إلى قوله { الْكَافِرُونَ } واختلف العلماء في معنى الآية وحكمها .

فقال الضحّاك وأبو إسحاق وأبو صالح وقتادة : نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود وليس في أهل الإسلام منها شيء فأما هذه الأمّة فمن أساء منهم وهو يعلم إنه قد أساء وليس بدين .

يدلّ على صحة هذا التأويل . ما روى الأعمش عن عبد اللّه بن مرّة عن البرّاء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } والظالمون والفاسقون . قال : كلها في الكافرين .

وقال النخعي والحسن : نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ورضىً لهذه الآية بها فهي على الناس كلّهم واجبة .

عن ابن عباس وطاووس ليس بكفر ينقل عن الملة بل إذا فعل ذلك وهو به كفر ، وليس كمن يكفر باللّه واليوم [ الآخر ] .

عطاء : هو كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق .

عكرمة : معناه ومن لم يحكم بما أنزل اللّه جاحداً به فقد كفر . ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق . وهذه رواية الوالبي عن ابن عباس قال : وسمعت أبا القاسم الحبيبي ، قال : سمعت أبا زكريا العنبري ، يحكي عن عبد العزيز بن يحيى الكناني إنه سأل عن هذه الآيات ، قال : إنها تقع على جميع ما أنزل اللّه لا على بعضه فكل من لم يحكم بجميع ما أنزل اللّه فهو كافر ظالم فاسق .

فأما من يحكم ببعض ما أنزل اللّه من التوحيد [ وترك ] الشرك ثم لم يحكم بهما [ فبين ] ما أنزل اللّه من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات .

قالت الحكماء : هذا إذا ردّ بنص حكم اللّه عياناً عمداً ، فأما من جهله أو أخفي عليه أو أخطأ في تأويل ابتدعه أو دليل اتّجه له فلا ، وأجراها بعضهم على الظاهر .

وقال ابن مسعود ، والسدّي : من ارتشى في الحكم وحكم فيه بغير حكم الله فهو كافر