التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (44)

قوله تعالى : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بئايتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } أنزل الله التوراة هدى لبني إسرائيل ، أي ترشيد لهم بما يدلهم على طرق السعادة والنجاة ويبين لهم الأحكام والشرائع والتكاليف . وكذلك أنزلها لهم نورا ، أي ضياء يكشف ما تشابه عليهم . وقيل : بيان بأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم حق .

قوله : { يحكم بها النبيئون الذين أسلموا } الجملة حال من التوراة . وقيل الجملة مستأنفة مبينة لشأن التوراة وسمو رتبتها . والمراد بالنبيين هنا ، النبيون من لدن موسى إلى عيسى المسيح عليهم الصلاة والسلام ، وكان بين الاثنين ألف نبي .

وقيل : أربعة آلاف نبي . وقيل : المراد بهم هذا الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم ومن قبله من أنبياء بني إسرائيل . ويقتضي هذا التأويل أن يكون شرع من قبلنا شرعا لنا ما لم ينسخ .

قوله : { الذين أسلموا } أي استسلموا وانقادوا لأمر الله ، امتثالا لما كلفهم به . والإسلام لفظ عام معناه الخضوع والإذعان لأوامر الله والانقياد للتكاليف والأحكام الشرعية . فلا جرم أن يتناول مضمون الإسلام سائر النبيين والمرسلين من لدن آدم حتى النبي الخاتم عليهم الصلاة والسلام .

وقوله : { للذين هادوا } أي تابوا من الكفر . وهم اليهود .

والتقدير ، أن النبيين من بعد موسى – وكلهم على ملة الإسلام بما يعنيه الإسلام من خضوع وامتثال واستسلام لأمر الله – كانوا يحكمون بالتوراة فيما بين اليهود فلا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها أيما تحريف .

قوله : { والربانيون والأحبار } معطوف على { النبيون } . وذلك في الحكم بأحكام التوراة وحمل الناس على العمل بها . والربانيون بمعنى العلماء والحكماء وقيل : العلماء والفقهاء وهم فوق الأحبار . وقيل : هم الذين يسوسون الناس بالعلم . وهو قول ابن عباس وغيره .

أما الأحبار ، فهم الفقهاء والمفرد بكسر الحاء . وسمي بذلك من أجل الحبر الذي يكتب فيه . وقيل : حبر بكسر الحاء وفتحها . وقيل : أصله من التحبير ، أي التزيين والتحسين . فالأحبار يحبرون العلم أي يبينوه ويزينوه . والمراد بذلك أحبار اليهود{[976]} .

قوله : { بما استحفظوا من كتاب الله } أي بالذي استحفظوه من النبيين وهي التوراة . فقد سألهم النبيون أن يحفظوها من التغيير والتبديل ، وأن يعملوا بأحكامها كاملة دون انتقاص . ويدل ذلك على استخلاف النبيين للعلماء والفقهاء في أداء هذه الأمانة التي أودعوها . قال ابن جرير الطبري في تأويل ذلك : وأما قوله : { بما استحفظوا من كتب الله } فإن معناه : يحكم النبيون الذين أسلموا بحكم التوراة والربانيون والأحبار يعني العلماء بما استودعوا علمه من كتاب الله الذي هو التوراة .

قوله : { وكانوا عليه شهداء } أي أن هؤلاء النبيين والربانين والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق وهو من عند الله . فهم رقباء على كتاب الله ( التوراة ) يحمونه من التغيير والتبديل .

قوله : { فلا تخشوا الناس واخشون } ذلك تحذير من الله للحكام والعلماء ونهي لهم أن يخشوا غير الله فيجوروا في أقضيتهم وأحكامهم ، ويمضوها على خلاف ما أمروا به من الحق والعدل خشية من سلطان أو ظالم أو خوفا من أذى يحيق بهم أو تحرجا من لوم لائم من قريب أو صديق بل عليهم أن يخشوا الله وحده في ذلك كله فلا يميلوا أو يزيغوا وأن يظلوا على تخوف من الله وحده دون سواه ، فهو الأجدر أن يخافه الناس وأن يرهبوه ، فإن بيده مقاليد كل شيء وهو القاهر فوق عباده وهو المقتدر على فعل كل شيء كإعزاز المؤمنين الثابتين على الحق وقصم الجبارين والطغاة والمضلين .

قال الرازي في هذا المعنى : والمعنى إياكم أن تحرفوا كتابي للخوف من الناس والملوك والأشراف فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم وتستخرجوا الحيل في سقوط تكاليف الله تعالى عنهم . فلا تكونوا خائفين من الناس ، بل كونوا خائفين مني ومن عقابي .

قوله : { ولا تشتروا بئاياتي ثمنا قليلا } أي إياكم أن تستبدلوا أو تستعيضوا عن آياتي وهي أحكامي وشرائعي التي فرضتها عليكم ، بالثمن المهين البخس من محقرات الدنيا وخسائسها ومغرياتها كالرشوة والجاه ورضا الناس وغير ذلك من متاع الحياة الفانية ، كالذي فعله أحبار يهود في كتمانهم التوراة ، إذ حرفوها تحريفا وغيروا أحكامها ومعانيها تغييرا يناسب أهواءهم ورغبتهم في الدنيا بما فيها من زخرف وغرور{[977]} .

قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكفرون } جاء في تأويل هذه الآية عدة أقوال ، منها : أن هذه نزلت في اليهود فتكون مختصة بهم دون غيرهم وهذا القول ضعيف ، لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

ومنها : أن المراد ليس كفرا ينقل عن الملة كمن يكفر بالله واليوم الآخر . فكأنهم بذلك حملوا الآية على كفر النعمة لا على كفر الدين . وهذا ضعيف أيضا ، لأن لفظ الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدين .

ومنها : أن من لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلا يضاهي أفعال الكفار ويشبه بذلك الكافرين . وهذا ضعيف كذلك ، لأنه مخالف لظاهر الآية .

ومنها وهو الذي نختاره ونرى أنه الصحيح : أن قوله : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكفرون } تأويله أن من جحد ما أنزل الله فقد كفر . ومن أقر بما أنزل الله فهو ظالم فاسق وليس كافرا . فالمعنى يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه . أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه أنه حكم الله كذلك ، لكنه أتى بما يخالفه فهو حاكم بما أنزل الله إلا أنه تارك له . فلا يلزم دخوله في زمرة الكافرين بل الفاسقين الظالمين . وبعبارة أخرى فإن المصدق لشريعة الله المقر بها إقرارا والمستيقن أنها من عند الله ، وأنها صالحة للناس لكنه عمل بخلافها فهو ليس كافرا ولكنه مندرج في أفواج الفاسقين الخارجين عن منهج الله . أو الظالمين الذين بدلوا شريعة الله ليحلوا مكانها شريعة غيرها . لا جرم أن أولئك عصاة خاطئون وإن كانوا غير كافرين .

قال ابن عباس : في الآية إضمار . أي ومن لم يحكم بما أنزل الله ردا للقرآن وجحدا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم فهو كافر .

قال ابن مسعود والحسن في ذلك : هي عامة في كل من لم يحكم بما أنزل الله من المسلمين واليهود والكفار أي معتقدا ذلك ومستحلا له . فأما من فعل ذلك وهو معتقد أنه راكب محرم فهو من فساق المسلمين ، وأمره إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له{[978]} .


[976]:- مختار الصحاح ص 120 وتفسير الرازي ج 12 ص 4 وتفسير القرطبي ج 6 ص 189 وروح المعاني ج 6 ص 144.
[977]:- تفسير الطبري ج 6 ص 161، 162 وتفسير ابن كثير ج 2 ص 60 وروح المعاني ج 6 ص 144 والكشاف ج 1 ص 915 وتفسير الرازي ج 12 ص 5 ص 6.
[978]:- تفسير القرطبي ج 6 ص 190 وتفسير ابن كثير ج 2 ص 60 وتفسير الرازي ج 12 ص 7 والكشاف ج 1 ص 616.