غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (44)

41

ثم رغب اليهود في أن يكونوا كمتقدميهم من أنبيائهم ومسلمي أحبارهم فقال : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى } ونور العطف يقتضي التغاير فقيل : الهدى بيان الأحكام والشرائع والنور بيان التوحيد والنبوة والمعاد . وقال الزجاج : الهدى بيان الحكم الذي جاؤوا يستفتون فيه ، والنور بيان أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم حق .

وقيل : فيها هدى يهدي للحق والعدل ، ونور يبين ما استبهم من الأحكام ، فهما عبارتان عن معبر واحد ، وقد يستدل بالآية على أن شرع من قبلنا يلزمنا لأن الهدى والنور لا بد أن يكون أحدهما يتعلق بالفروع والآخر بالأصول وإلا كان تكراراً . وأيضاً إنها نزلت في الرجم ومورد الآية لا بد أن يكون داخلاً فيها سواء قلنا إن غيره داخل أو خارج . ويمكن أن يجاب بأن التكرار بعبارتين غير محذور أو بأن في الكلام تقديماً وتأخيراً والمراد فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون . أما قوله : { الذين أسلموا } فأورد عليه أن كل نبي مسلم فما الفائدة في هذا الوصف ؟ وأجيب بأنها صفة جارية على سبيل المدح لا التوضيح والكشف ، وفيه تعريض باليهود أنهم بعداء عن ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء قديماً وحديثاً لأن غرض الأنبياء الانقياد لتكاليف الله وغرضكم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشا من العوام ، فالفريقان متباينان ولهذا أردفه بقوله : { للذين هادوا } أي يحكمون لأجلهم . قال في الكشاف : قوله تعالى : { الذين أسلموا للذين هادوا } مناد على أن اليهود بمعزل عن الإسلام . قلت : هذا بناء على أن صفة الحاكمين يلزم أن تكون مغايرة لصفة المحكومين . ولقائل أن يقول : بعد تسليم ذلك إنه لم لا يكفي مغايرة العام للخاص ؟ وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي : المراد بالنبيين هو محمد صلى الله عليه وسلم كقوله :{ إن إبراهيم كان أمة }[ النحل :120 ] لأنه اجتمع فيه من الخصال ما كانت مفرقة في الأنبياء : وقيل : أسلموا أي انقادوا لحكم التوراة . فمن الأنبياء من لم تكن شريعتهم شريعة موسى . والربانيون قد مر تفسيره في آل عمران . والأحبار عن ابن عباس هم الفقهاء ، الواحد حبر بالفتح من قولهم : فلان حسن الحبر والسبر إذا كان جميلاً حسن الهيئة ، أو حبر بالكسر من ذلك أيضاً لقولهم : حسن الحبر بالكسر أيضاً . وفي الحديث : " يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره " أي جماله وبهاؤه ، وتحبير الخط والشعر تحسينه أو من هذا الحبر الذي يكتب به لكون العالم صاحب كتب . قاله الفراء والكسائي وأبو عبيدة . ثم إن ذكر الربانيين بعد النبيين يدل على أنهم أعلى حالاً من الأحبار فيشبه أن يكون الربانيون كالمجتهدين والأحبار كآحاد العلماء . وقوله : { بما استحفظوا } إما أن يكون من صلة { يحكم } أي يحكم بها الربانيون والأحبار بسبب ما استحفظوا ، أو يكون من صلة الأحبار أي العلماء بما استحفظوا بما سألهم أنبياؤهم حفظه . و " من " في { من كتاب الله } للتبيين . وقد أخذ الله تعالى على العلماء أن يحفظوا كتابه من وجهين : أحدهما أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم ، والثاني أن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه . وكانوا أي هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار عليه على أن كل ما جاء في التوراة حق من عند الله شهداء رقباء لئلا يبدل ، ويحتمل أن يعود ضمير { استحفظوا } إلى النبيين وغيرهم جميعاً . والاستحفاظ من الله أي كلفهم الله حفظه وأن يكونوا عليه شهداء .

ثم نهى اليهود المعاصرين عن التحريف لرهبة فقال : { فلا تخشوا الناس واخشوني } وعن التغيير لرغبة فقال : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } وهو الرشوة وابتغاء الجاه . ثم عمم الحكم فقال : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } احتجت الخوارج بالآية على أن كل من عصى الله فهو كافر . وللمفسرين في جوابهم وجوه : الأول أنها مختصة باليهود وردّ بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ولا ريب أن لفظ " من " في معرض الشرط للعموم فلا وجه لتقدير ومن لم يحكم من هؤلاء المذكورين الذين هم اليهود لأنه زيادة في النص . وقال عطاء : هو كفر دون كفر . وقال طاوس : ليس بكفر الملة ولا كمن يكفر بالله واليوم الآخر . فلعلهما أراد كفران النعمة ، وضعف بأن الكافر إذا أطلق يراد به الكافر في الدين . وقال ابن الأنباري : المراد أنه يضاهي الكافر لأنه فعل فعلاً مثل فعل الكافر وزيف بأنه عدول عن الظاهر . وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني : معناه من أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل فيخرج الفاسق لأنه في الاعتقاد والإقرار موافق وإن كان في العمل مخالفاً . واعترض بأن سبب النزول يخرج حينئذ لأنه نزل في مخالفة اليهود في الرجم فقط ، ويمكن أن يقال : المحرّف داخل في الكل . وقال عكرمة : إنما تتناول الآية من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أما العارف المقر إذا أخل بالعمل فهو حاكم بما أنزل الله تعالى ولكنه تارك فلا تتناوله الآية .

/خ47