جامع البيان في تفسير القرآن للإيجي - الإيجي محيي الدين  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (44)

ثم مدح التوراة بقوله : { إنا أنزلنا التوراة فيها هدى } : يهدي إلى الحق { ونور } : به ينكشف المبهم { يحكم به النبيّون } : أنبياء بني إسرائيل { الذين أسلموا } فيه تعريض باليهود وأنهم بمعزل عن دين الأنبياء { للذين هادوا } متعلق بأنزلنا أو بيحكم أي : لأجل اليهود { والربّانيون والأحبار } عطف على ( النبيون ) ، وهم الزهاد والعلماء { بما استُحفظوا من كتاب الله } : بسبب أمر الله إياهم بحفظ كتابه ، وإظهاره وضمير ما محذوف ومن للتبيين { وكانوا عليه شهداء } : رقباء لئلا يبدل أو بأنه من عند الله { فلا تخشوا الناس واخشونِ } نهي للحكام عن المداهنة خشية الناس { ولا تشتروا } : تستبدلوا { بآياتي ثمنا قليلا } : الرشوة والجاه { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } نزلت في أهل الكتاب{[1258]} دون من أساء من هذه الأمة أو من تركه عمدا وأجاز وهو يعلم فهو من الكافرين ، فيكون في المسلمين أو ليس بكفر ينقل عن الملة والدين ، ولكن كفر دون كفر .


[1258]:صرح الحسن البصري بأن من لم يحكم منا فهو فاسق ومن لم يحكم من أهل الكتاب فهو كافر؛ لأنهم تركوا الحكم للتحريف والعناد، وقد روي هذا عن جماعة من السلف وعن حذيفة بسند صحيح أن هذه الآيات ذكرت عنده ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون، فقال رجل: إن هذا في بني إسرائيل فقال حذيفة: نعم الأخوة لكم بنو إسرائيل إن كان لكم كل حلوة ولهم كل مرة، كلا والله لتسلكن طريقهم قدر الشراك [ذكره السيوطي في (الدر المنثور) (2/507) وعزاه لابن جرير ابن أبي حاتم والحاكم في (المستدرك) وصححه]. وعن ابن عباس نحوه وأقول: هذه الآية وإن نزلت في اليهود لكنها ليست مختصة بهم؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وكلمة (من) وقعت في معرض الشرط فتكون للعموم فهذه الآيات الكريمة متناولة لكل من لم يحكم بما أنزل الله وهو الكتاب والسنة، والمقلد لا يدعي أنه حكم بما أنزل الله بل يقر أنه حكم بقبول العالم الفلاني وهو لا يدري هل ذلك الحكم الذي حكم به هو من محض رأيه أم من المسائل التي استدل عليها بالدليل ثم لا يدري أهو أصاب في الاستدلال أم أخطأ وهل أخذ بالدليل القوي أم الضعيف! فانظر يا مسكين ماذا صنعت بنفسك، فإنك لم يكن جهلك مقصورا عليك بل جهلت على عباد الله فأرقت الدماء وأقمت الحدود هتكت الحرم بما لا تدري، فقبح الله الجهل بما أنزله، ولاسيما إذا جعله صاحبه شرعا ودينا له وللمسلمين، فإنه طاغوت عند التحقيق وإن ستر من التلبيس بستر رقيق فيا أيها المقلد أخبرنا أي القضاة أنت من الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (القضاة ثلاثة: واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار). أخرجه أبو داود وابن ماجة عن بريدة [وصححه الشيخ الألباني في (الإرواء) (2614)]. فيا لله عليك بل قضيت بالحق وأنت تعلم أنه الحق إن قلت نعم فأنت وسائر أهل العلم يشهدون بأنك كاذب، لأنك معترف بأنك لا تعلم ما الحق، وكذلك سائر الناس يحكمون عليك بهذا من غير فرق بين مجتهد ومقلد، وإن قلت بل قضيت بما قاله إمامي ولا تدري أحق هو أم باطل كما هو شأن كل مقلد على وجه الأرض فأنت بإقرارك هذا أحد رجلين إما قضيت بالحق ولا تعلم أنه الحق أو قضيت بغير الحق لأن ذلك الحكم الذي حكمت به هو لا يخلو عن أحد الأمرين إما أن يكون حقا وإما أن يكون غير حق، وعلى كلا التقديرين فأنت من قضاة النار بنص الصادق المختار، وهذا ما أظن يتردد فيه أحد من أهل الفهم لأمرين: أحدهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل القضاة ثلاثة، وبين صفة كل واحد منهم ببيان يفهمه المقصر والكامل والعالم والجاهل. الثاني أن المقلد لا يدعي أنه يعلم ما هو حق من كلام إمامه وما هو باطل بل يقر على نفسه أنه يقبل قول الغير ولا يطالبه بحجة، وأنه لا يعقل الحجة إذا جاءته فأفاد هذا أنه حكم بشيء لا يدري هو فإن وافق الحق فهو قضى بالحق ولا يدري أنه الحق وإن لم يوافق الحق فهو قضى بغير الحق وهذان القاضيان اللذان في النار فالقاضي المقلد على كل حال يتقلب في نار جهنم كما قال قائل: خذي بطن حرشا أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشا لهن طريق/12 فتح.