الحبر : بفتح الحاء وكسرها العالم ، وجمعه الأحبار .
وكان أبو عبيد ينكر ذلك ويقول : هو بفتح الحاء .
وقال الفراء : هو بالكسر ، واختار أبو عبيد الفتح .
وتسمى هذه السورة سورة الأحبار ، ويقال : كعب الأحبار .
والحبر بالكسر الذي يكتب به ، وينسب إليه الحبري الحبار .
ويقال : كتب الحبر لمكان الحبر الذي يكتب به ، وسمي حبراً لتحسينه الخط وتبيينه إياه .
وقيل : سمي حبراً لتأثيره في الموضع الذي يكون به من الحبار وهو الأثر .
{ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } قال ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن : نزلت في الجاحدين حكم الله ، وهي عامة في كل من جحد حكم الله .
وقال البراء بن عازب : نزل { يا أيها لرسول - إلى - فأولئك هم الكافرون } في اليهود خاصة وذكر قصة رجم اليهوديين .
وقيل لحذيفة : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } نزلت في بني إسرائيل ؟ قال نعم .
وقال الحسن وأبو مجلز وأبو جعفر : هي في اليهود .
وقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما نزلت هذه الآية : : « نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان » وفي الآية ترغيب لليهود بأن يكونوا كمتقدميهم من مسلمي أحبارهم ، وتنبيه المنكرين لوجوب الرجم .
وقال جماعة : الهدى والنور سواء ، وكرر للتأكيد .
وقال قوم : ليسا سواء ، فالهدى محمول على بيان الأحكام ، والنور والبيان للتوحيد والنبوة والمعاد .
قال الزمخشري : يهدي للعدل والحق ، ونور يبين ما استبهم من الأحكام .
وقال ابن عطية : الهدى الإرشاد المعتقد والشرائع ، والنور ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها .
وقيل : المعنى فيها بيان أمر الرسول وما جاءوا يستفتون فيه .
{ يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } ظاهر قوله : النبيون ، الجمع .
قالوا : وهم من لدن موسى إلى عيسى .
وقال عكرمة : محمد ومن قبله من الأنبياء .
وقيل : النبيون الذين هم على دين ابراهيم .
وقال الحسن والسدي : هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك حين حكم على اليهود بالرجم وذكره بلفظ الجمع كقوله : { أم يحسدون الناس } { والذين أسلموا } وصف مدح الأنبياء كالصفات التي تجري على الله تعالى ، وأريد بإجرائها التعريض باليهود والنصارى ، حيث قالت اليهود : إن الأنبياء كانوا يهوداً ، والنصارى قالت : كانوا نصارى ، فبين أنهم كانوا مسلمين ، كما كان ابراهيم عليه السلام .
ولذلك جاء : { هو سماكم المسلمين من قبل } ونبه بهذا الوصف أنّ اليهود والنصارى بعداء من هذا الوصف الذي هو الإسلام ، وأنه كان دين الأنبياء كلهم قديماً وحديثاً .
والظاهر أنّ الذين هادوا متعلق بقوله : يحكم بها النبيون .
وقيل : التقدير هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون .
وفي قوله : للذين هادوا ، تنبيه على أنهم ليسوا مسلمين ، بل هم بعداء من ذلك .
واللام في للذين هادوا إذا علقت بيحكم للاختصاص ، فيشمل من يحكم له ومن يحكم عليه .
وقيل : ثم محذوف أي : للذين هادوا وعليهم .
وقيل : اللام بمعنى على ، أي على الذين هادوا .
{ والربانيون والأحبار } هما بمعنى واحد ، وهم العلماء .
قاله الأكثرون ومنهم : ابن قتيبة والزجاج .
وقال مجاهد : الربانيون الفقهاء العلماء ، وهم فوق الأحبار .
وقال السدي : الربانيون العلماء ، والأحبار الفقهاء .
وقال ابن زيد : الربانيون الولاة ، والأحبار العلماء .
وقيل : الربانيون علماء النصارى ، والأحبار علما اليهود ، وقد تقدم شرح الرباني .
وقال الزمخشري : والربانيون والأحبار الزهاد ، والعلماء من ولد هارون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا ، دين اليهود .
وقال السدي : المراد هنا بالربانيين والأحبار الذين يحكمون بالتوراة ابنا صوريا كان أحدهما ربانياً ، والآخر حبراً ، وكانا قد أعطيا النبي عهداً أن لا يسألهما عن شيء من أمر التوراة إلا أخبراه به ، فسألهما عن أمر الرجم فأخبراه به على وجهه ، فنزلت الآية مشيرة إليهما .
والرواية الصحيحة أن ابنا صوريا وغيرهم جحدوا أمر الرجم ، وفضحهم فيه عبد الله بن سلام ، وإنما اللفظ في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان ، وأما في مدة محمد صلى الله عليه وسلم فلو وجد لأسلم ، فلم يسم حبراً ولا ربانياً انتهى .
{ بما استحفظوا من كتاب الله } الباء في بما للسبب ، وتتعلق بقوله : يحكم .
واستفعل هنا للطلب ، والمعنى : بسبب ما استحفظوا .
والضمير في استحفظوا عائد على النبيين والربانيين والأحبار أي : بسبب ما طلب الله منهم حفظهم لكتاب الله وهو التوراة ، وكلفهم حفظها ، وأخذ عهده عليهم في العمل بها والقول بها ، وقد أخذ الله على العلماء حفظ الكتاب من وجهين : أحدهما : حفظه في صدورهم ودرسه بألسنتهم .
والثاني : حفظه بالعمل بأحكامه واتباع شرائعه .
وهؤلاء ضيعوا ما استحفظوا حتى تبدلت التوراة .
وفي بناء الفعل للمفعول وكون الفعل للطلب ما يدل على أنه تعالى لم يتكفل بحفظ التوراة ، بل طلب منهم حفظها وكلفهم بذلك ، فغيروا وبدلوا وخالفوا أحكام الله بخلاف كتابنا ، فإنّ الله تعالى قد تكفل بحفظه ، فلا يمكن أن يقع فيه تبديل ولا تغيير .
قال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } وقيل : الضمير في استحفظوا عائد على الربانيين والأحبار فقط .
والذين استحفظهم التوراة هم الأنبياء .
{ وكانوا عليه شهداء } الظاهر أنّ الضمير عائد على كتاب الله أي : كانوا عليه رقباء لئلا يبدل .
والمعنى يحكم بأحكام التوراة النبيون بين موسى وعيسى ، وكان بينهما ألف نبي للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم ، وإبائهم عليهم ما اشتهوه من الجلد .
وقيل : الهاء تعود على الحكم أي : وكانوا شهداء على الحكم .
وقيل : عائد على الرسول أي : وكانوا شهداء على أنه نبي مرسل .
{ فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } هذا نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم ، وإذهابهم فيها وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل بخشية سلطان ظالم ، أو خيفة أذية أحد من الغرماء والأصدقاء .
ولا تستعطوا بآيات الله ثمناً قليلاً وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس ، كما حرف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلباً للرياسة فهلكوا .
وهذا نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين .
وروى أبو صالح عن ابن عباس أن معناه : لا تخشوا الناس في إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم والعمل بالرجم ، واخشون في كتمان ذلك .
ولما كان الإقدام على تغيير أحكام الله سببه شيئآن : الخوف ، والرغبة ، وكان الخوف أقوى تأثيراً من الرغبة ، قدم النهي عن الخوف على النهي عن الرغبة والطمع .
والظاهر أنّ هذا الخطاب لليهود على سبيل الحكاية ، والقول لعلماء بني إسرائيل .
وقال مقاتل : الخطاب ليهود المدينة قيل لهم : لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرجم ، واخشوني في كتمانه انتهى .
وهذا وإن كان خطاباً لعلماء بني إسرائيل ، فإنه يتناول علماء هذه الأمة .
وقال ابن جريج : هو خطاب لهذه الأمة أي لا تخشوا الناس كما خشيت اليهود الناس ، فلم يقولوا الحق .
{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ظاهر هذا العموم ، فيشمل هذه الأمة وغيرهم ممن كان قبلهم ، وإن كان الظاهر أنه في سياق خطاب اليهود ، وإلى أنها عامة في اليهود وغيرهم .
ذهب ابن مسعود ، وابراهيم ، وعطاء ، وجماعة ولكنْ كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق يعني : إنّ كفر المسلم ليس مثل كفر الكافر ، وكذلك ظلمه وفسقه لا يخرجه ذلك عن الملة قاله : ابن عباس وطاووس .
وقال أبو مجلز : هي مخصوصة باليهود والنصارى وأهل الشرك وفيهم نزلت .
وبه قال : أبو صالح قال : ليس في الإسلام منها شيء .
وروي في هذا حديث عن البراء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : : « أنها الثلاثة في الكافرين » قال عكرمة ، والضحاك : هي في أهل الكتاب ، وقاله : عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وذكر أبو عبيدة هذه الأقوال فقال : إنّ بشراً من الناس يتأوّلون الآيات على ما لم تنزل عليه ، وما أنزلت هذه الآيات إلا في حيين من يهود قريظة والنضير ، وذكر حكاية القتل بينهم .
وقال الحسن : نزلت في اليهود وهي علينا واجبة .
وقيل لحذيفة : أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل ؟ فقال : نعم ، الإخوة لكم بنو إسرائيل أن كانت لكم كل حلوة ولهم كل مرة ، لتسلكن طريقهم قدّ الشرك ، وعن ابن عباس ، واختاره ابن جرير : إنّ الكافرين والظالمين والفاسقين أهل الكتاب ، وعنه نعم القوم أنتم ما كان من حلو فلكم ، وما كان من مرّ فهو لأهل الكتاب .
من جحد حكم الله كفر ، ومن لم يحكم به وهو مقر به ظالم فاسق .
وعن الشعبي : الكافرون في أهل الإسلام ، والظالمون في اليهود ، والفاسقون في النصارى .
وكأنه خصص كل عام منها بما تلاه ، إذ قبل الأولى : { فإن جاؤك فاحكم بينهم } و { فإن حكمت فاحكم } { وكيف يحكمونك } و { يحكم بها النبيون } وقبل الثانية : { وكتبنا عليهم فيها } وقبل الثالثة : وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه } الآية .
وقال الزمخشري : ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهيناً به ، فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون ، وصف لهم بالعتوّ في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالاستهزاء والاستهانة وتمرّدوا بأن حكموا بغيرها انتهى .
وقال السدّي : من خالف حكم الله وتركه عامداً وتجاوزه وهو يعلم ، فهو من الكافرين حقاً ، ويحمل هذا على الجحود ، فهو الكفر ضد الإيمان كما قال : ابن عباس .
واحتجت الخوارج بهذه الآية على أنّ كل من عصى الله تعالى فهو كافر ، وقالوا : هي نص في كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله فوجب أن يكون كافراً .
وأجيبوا : بأنها نزلت في اليهود ، فتكون مختصة بهم .
وضعف بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
ومنهم من قال : تقديره ومن لم يحكم بما أنزل الله من هؤلاء الذين سبق ذكرهم قبل ، وهذا ضعيف ، لأنّ من شرط وهي عام ، وزيادة ما قدر زيادة في النقص ، وهو غير جائز .
وقيل : المراد كفر النعمة ، وضعف بأنّ الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدّين .
وقال ابن الأنباري : فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار ، وضعف بأنه عدول عن الظاهر .
وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني : ما أنزل صيغة عموم ، فالمعنى : من أتى بضد حكم الله في كل ما أنزل الله ، والفاسق لم يأت بضد حكم الله إلا في القليل وهو العمل ، أما في الاعتقاد والإقرار فهو موافق .
وضعف بأنه لو كان كذلك لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفاتهم حكم الله في الرجم .
وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في واقعة الرجم ، فدل على سقوطه هذا .
وقال عكرمة : إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أما من عرف أنه حكم الله وأقر بلسانه أنه حكم الله ، إلا أنه أتى بما يضاد ، فهو حاكم بما أنزل الله ، لكنه تارك له ، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية .