البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّآ أَنزَلۡنَا ٱلتَّوۡرَىٰةَ فِيهَا هُدٗى وَنُورٞۚ يَحۡكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسۡلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلرَّبَّـٰنِيُّونَ وَٱلۡأَحۡبَارُ بِمَا ٱسۡتُحۡفِظُواْ مِن كِتَٰبِ ٱللَّهِ وَكَانُواْ عَلَيۡهِ شُهَدَآءَۚ فَلَا تَخۡشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخۡشَوۡنِ وَلَا تَشۡتَرُواْ بِـَٔايَٰتِي ثَمَنٗا قَلِيلٗاۚ وَمَن لَّمۡ يَحۡكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (44)

الحبر : بفتح الحاء وكسرها العالم ، وجمعه الأحبار .

وكان أبو عبيد ينكر ذلك ويقول : هو بفتح الحاء .

وقال الفراء : هو بالكسر ، واختار أبو عبيد الفتح .

وتسمى هذه السورة سورة الأحبار ، ويقال : كعب الأحبار .

والحبر بالكسر الذي يكتب به ، وينسب إليه الحبري الحبار .

ويقال : كتب الحبر لمكان الحبر الذي يكتب به ، وسمي حبراً لتحسينه الخط وتبيينه إياه .

وقيل : سمي حبراً لتأثيره في الموضع الذي يكون به من الحبار وهو الأثر .

{ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } قال ابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن : نزلت في الجاحدين حكم الله ، وهي عامة في كل من جحد حكم الله .

وقال البراء بن عازب : نزل { يا أيها لرسول - إلى - فأولئك هم الكافرون } في اليهود خاصة وذكر قصة رجم اليهوديين .

وقيل لحذيفة : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } نزلت في بني إسرائيل ؟ قال نعم .

وقال الحسن وأبو مجلز وأبو جعفر : هي في اليهود .

وقال الحسن : هي علينا واجبة .

وقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول لما نزلت هذه الآية : : « نحن نحكم على اليهود وعلى من سواهم من أهل الأديان » وفي الآية ترغيب لليهود بأن يكونوا كمتقدميهم من مسلمي أحبارهم ، وتنبيه المنكرين لوجوب الرجم .

وقال جماعة : الهدى والنور سواء ، وكرر للتأكيد .

وقال قوم : ليسا سواء ، فالهدى محمول على بيان الأحكام ، والنور والبيان للتوحيد والنبوة والمعاد .

قال الزمخشري : يهدي للعدل والحق ، ونور يبين ما استبهم من الأحكام .

وقال ابن عطية : الهدى الإرشاد المعتقد والشرائع ، والنور ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها .

وقيل : المعنى فيها بيان أمر الرسول وما جاءوا يستفتون فيه .

{ يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا } ظاهر قوله : النبيون ، الجمع .

قالوا : وهم من لدن موسى إلى عيسى .

وقال عكرمة : محمد ومن قبله من الأنبياء .

وقيل : النبيون الذين هم على دين ابراهيم .

وقال الحسن والسدي : هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك حين حكم على اليهود بالرجم وذكره بلفظ الجمع كقوله : { أم يحسدون الناس } { والذين أسلموا } وصف مدح الأنبياء كالصفات التي تجري على الله تعالى ، وأريد بإجرائها التعريض باليهود والنصارى ، حيث قالت اليهود : إن الأنبياء كانوا يهوداً ، والنصارى قالت : كانوا نصارى ، فبين أنهم كانوا مسلمين ، كما كان ابراهيم عليه السلام .

ولذلك جاء : { هو سماكم المسلمين من قبل } ونبه بهذا الوصف أنّ اليهود والنصارى بعداء من هذا الوصف الذي هو الإسلام ، وأنه كان دين الأنبياء كلهم قديماً وحديثاً .

والظاهر أنّ الذين هادوا متعلق بقوله : يحكم بها النبيون .

وقيل : بأنزلنا .

وقيل : التقدير هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون .

وفي قوله : للذين هادوا ، تنبيه على أنهم ليسوا مسلمين ، بل هم بعداء من ذلك .

واللام في للذين هادوا إذا علقت بيحكم للاختصاص ، فيشمل من يحكم له ومن يحكم عليه .

وقيل : ثم محذوف أي : للذين هادوا وعليهم .

وقيل : اللام بمعنى على ، أي على الذين هادوا .

{ والربانيون والأحبار } هما بمعنى واحد ، وهم العلماء .

قاله الأكثرون ومنهم : ابن قتيبة والزجاج .

وقال مجاهد : الربانيون الفقهاء العلماء ، وهم فوق الأحبار .

وقال السدي : الربانيون العلماء ، والأحبار الفقهاء .

وقال ابن زيد : الربانيون الولاة ، والأحبار العلماء .

وقيل : الربانيون علماء النصارى ، والأحبار علما اليهود ، وقد تقدم شرح الرباني .

وقال الزمخشري : والربانيون والأحبار الزهاد ، والعلماء من ولد هارون الذين التزموا طريقة النبيين وجانبوا ، دين اليهود .

وقال السدي : المراد هنا بالربانيين والأحبار الذين يحكمون بالتوراة ابنا صوريا كان أحدهما ربانياً ، والآخر حبراً ، وكانا قد أعطيا النبي عهداً أن لا يسألهما عن شيء من أمر التوراة إلا أخبراه به ، فسألهما عن أمر الرجم فأخبراه به على وجهه ، فنزلت الآية مشيرة إليهما .

قال ابن عطية : وفي هذا نظر .

والرواية الصحيحة أن ابنا صوريا وغيرهم جحدوا أمر الرجم ، وفضحهم فيه عبد الله بن سلام ، وإنما اللفظ في كل حبر مستقيم فيما مضى من الزمان ، وأما في مدة محمد صلى الله عليه وسلم فلو وجد لأسلم ، فلم يسم حبراً ولا ربانياً انتهى .

{ بما استحفظوا من كتاب الله } الباء في بما للسبب ، وتتعلق بقوله : يحكم .

واستفعل هنا للطلب ، والمعنى : بسبب ما استحفظوا .

والضمير في استحفظوا عائد على النبيين والربانيين والأحبار أي : بسبب ما طلب الله منهم حفظهم لكتاب الله وهو التوراة ، وكلفهم حفظها ، وأخذ عهده عليهم في العمل بها والقول بها ، وقد أخذ الله على العلماء حفظ الكتاب من وجهين : أحدهما : حفظه في صدورهم ودرسه بألسنتهم .

والثاني : حفظه بالعمل بأحكامه واتباع شرائعه .

وهؤلاء ضيعوا ما استحفظوا حتى تبدلت التوراة .

وفي بناء الفعل للمفعول وكون الفعل للطلب ما يدل على أنه تعالى لم يتكفل بحفظ التوراة ، بل طلب منهم حفظها وكلفهم بذلك ، فغيروا وبدلوا وخالفوا أحكام الله بخلاف كتابنا ، فإنّ الله تعالى قد تكفل بحفظه ، فلا يمكن أن يقع فيه تبديل ولا تغيير .

قال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } وقيل : الضمير في استحفظوا عائد على الربانيين والأحبار فقط .

والذين استحفظهم التوراة هم الأنبياء .

{ وكانوا عليه شهداء } الظاهر أنّ الضمير عائد على كتاب الله أي : كانوا عليه رقباء لئلا يبدل .

والمعنى يحكم بأحكام التوراة النبيون بين موسى وعيسى ، وكان بينهما ألف نبي للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم ، وإبائهم عليهم ما اشتهوه من الجلد .

وقيل : الهاء تعود على الحكم أي : وكانوا شهداء على الحكم .

وقيل : عائد على الرسول أي : وكانوا شهداء على أنه نبي مرسل .

{ فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } هذا نهي للحكام عن خشيتهم غير الله في حكوماتهم ، وإذهابهم فيها وإمضائها على خلاف ما أمروا به من العدل بخشية سلطان ظالم ، أو خيفة أذية أحد من الغرماء والأصدقاء .

ولا تستعطوا بآيات الله ثمناً قليلاً وهو الرشوة وابتغاء الجاه ورضا الناس ، كما حرف أحبار اليهود كتاب الله وغيروا أحكامه رغبة في الدنيا وطلباً للرياسة فهلكوا .

وهذا نهي عن جميع المكاسب الخبيثة بالعلم والتحيل للدنيا بالدين .

وروى أبو صالح عن ابن عباس أن معناه : لا تخشوا الناس في إظهار صفة محمد صلى الله عليه وسلم والعمل بالرجم ، واخشون في كتمان ذلك .

ولما كان الإقدام على تغيير أحكام الله سببه شيئآن : الخوف ، والرغبة ، وكان الخوف أقوى تأثيراً من الرغبة ، قدم النهي عن الخوف على النهي عن الرغبة والطمع .

والظاهر أنّ هذا الخطاب لليهود على سبيل الحكاية ، والقول لعلماء بني إسرائيل .

وقال مقاتل : الخطاب ليهود المدينة قيل لهم : لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرجم ، واخشوني في كتمانه انتهى .

وهذا وإن كان خطاباً لعلماء بني إسرائيل ، فإنه يتناول علماء هذه الأمة .

وقال ابن جريج : هو خطاب لهذه الأمة أي لا تخشوا الناس كما خشيت اليهود الناس ، فلم يقولوا الحق .

{ ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } ظاهر هذا العموم ، فيشمل هذه الأمة وغيرهم ممن كان قبلهم ، وإن كان الظاهر أنه في سياق خطاب اليهود ، وإلى أنها عامة في اليهود وغيرهم .

ذهب ابن مسعود ، وابراهيم ، وعطاء ، وجماعة ولكنْ كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق يعني : إنّ كفر المسلم ليس مثل كفر الكافر ، وكذلك ظلمه وفسقه لا يخرجه ذلك عن الملة قاله : ابن عباس وطاووس .

وقال أبو مجلز : هي مخصوصة باليهود والنصارى وأهل الشرك وفيهم نزلت .

وبه قال : أبو صالح قال : ليس في الإسلام منها شيء .

وروي في هذا حديث عن البراء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : : « أنها الثلاثة في الكافرين » قال عكرمة ، والضحاك : هي في أهل الكتاب ، وقاله : عبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، وذكر أبو عبيدة هذه الأقوال فقال : إنّ بشراً من الناس يتأوّلون الآيات على ما لم تنزل عليه ، وما أنزلت هذه الآيات إلا في حيين من يهود قريظة والنضير ، وذكر حكاية القتل بينهم .

وقال الحسن : نزلت في اليهود وهي علينا واجبة .

وقيل لحذيفة : أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل ؟ فقال : نعم ، الإخوة لكم بنو إسرائيل أن كانت لكم كل حلوة ولهم كل مرة ، لتسلكن طريقهم قدّ الشرك ، وعن ابن عباس ، واختاره ابن جرير : إنّ الكافرين والظالمين والفاسقين أهل الكتاب ، وعنه نعم القوم أنتم ما كان من حلو فلكم ، وما كان من مرّ فهو لأهل الكتاب .

من جحد حكم الله كفر ، ومن لم يحكم به وهو مقر به ظالم فاسق .

وعن الشعبي : الكافرون في أهل الإسلام ، والظالمون في اليهود ، والفاسقون في النصارى .

وكأنه خصص كل عام منها بما تلاه ، إذ قبل الأولى : { فإن جاؤك فاحكم بينهم } و { فإن حكمت فاحكم } { وكيف يحكمونك } و { يحكم بها النبيون } وقبل الثانية : { وكتبنا عليهم فيها } وقبل الثالثة : وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقاً لما بين يديه } الآية .

وقال الزمخشري : ومن لم يحكم بما أنزل الله مستهيناً به ، فأولئك هم الكافرون والظالمون والفاسقون ، وصف لهم بالعتوّ في كفرهم حين ظلموا آيات الله بالاستهزاء والاستهانة وتمرّدوا بأن حكموا بغيرها انتهى .

وقال السدّي : من خالف حكم الله وتركه عامداً وتجاوزه وهو يعلم ، فهو من الكافرين حقاً ، ويحمل هذا على الجحود ، فهو الكفر ضد الإيمان كما قال : ابن عباس .

واحتجت الخوارج بهذه الآية على أنّ كل من عصى الله تعالى فهو كافر ، وقالوا : هي نص في كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر ، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله فوجب أن يكون كافراً .

وأجيبوا : بأنها نزلت في اليهود ، فتكون مختصة بهم .

وضعف بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

ومنهم من قال : تقديره ومن لم يحكم بما أنزل الله من هؤلاء الذين سبق ذكرهم قبل ، وهذا ضعيف ، لأنّ من شرط وهي عام ، وزيادة ما قدر زيادة في النقص ، وهو غير جائز .

وقيل : المراد كفر النعمة ، وضعف بأنّ الكفر إذا أطلق انصرف إلى الكفر في الدّين .

وقال ابن الأنباري : فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار ، وضعف بأنه عدول عن الظاهر .

وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني : ما أنزل صيغة عموم ، فالمعنى : من أتى بضد حكم الله في كل ما أنزل الله ، والفاسق لم يأت بضد حكم الله إلا في القليل وهو العمل ، أما في الاعتقاد والإقرار فهو موافق .

وضعف بأنه لو كان كذلك لم يتناول هذا الوعيد اليهود بسبب مخالفاتهم حكم الله في الرجم .

وأجمع المفسرون على أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في واقعة الرجم ، فدل على سقوطه هذا .

وقال عكرمة : إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه ، أما من عرف أنه حكم الله وأقر بلسانه أنه حكم الله ، إلا أنه أتى بما يضاد ، فهو حاكم بما أنزل الله ، لكنه تارك له ، فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية .