قوله تعالى : { ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه } يحدث به قلبه فلا يخفى علينا سرائره وضمائره ، { ونحن أقرب إليه } أعلم به ، { من حبل الوريد } لأن أبعاضه وأجزاءه يحجب بعضها بعضاً ، ولا يحجب علم الله شيء ، وحبل الوريد عرق العنق ، وهو عرق بين الحلقوم والعلباوين ، يتفرق في البدن ، والحبل هو الوريد ، فأضيف إلى نفسه لاختلاف اللفظين .
هذه آيات فيها إقامة حجج على الكفار في إنكارهم البعث والجزاء . والخلق : إنشاء الشيء على ترتيب وتقدير حكمي . و : { الإنسان } اسم الجنس . قال بعض المفسرين { الإنسان } هنا آدم عليه السلام و { توسوس } معناه : تتحدث في فكرتها ، وسمي صوت الحلي وسواساً لخفائه ، والوسوسة إنما تستعمل في غير الخير ، وقوله تعالى : { نحن أقرب إليه من حبل الوريد } عبارة عن قدرة الله على العبد ، وكون العبد في قبضة القدرة ، والعلم قد أحيط به ، فالقرب هو بالقدرة والسلطان ، إذ لا ينحجب عن علم الله باطن ولا ظاهر ، وكل قريب من الأجرام فبينه وبين قلب الإنسان حجب . و : { الوريد } عرق كبير في العنق ، يقال : إنهما وريدان عن يمين وشمال . قال الفراء : هو ما بين الحلقوم والعلباوين وقال الحسن : { الوريد } الوتين .
قال الأثرم : هو نهر الجسد هو في القلب الوتين ، وفي الظهر الأبهر ، وفي الذراع والفخذ : الأكحل والنسا وفي الخنصر : إلا سليم ، «والحبل » : اسم مشترك فخصصه بالإضافة إلى { الوريد } ، وليس هذا بإضافة الشيء إلى نفسه بل هي كإضافة الجنس إلى نوعه كما تقول : لا يجوز حي الطير بلحمه .
هذا تفصيل لبعض الخلق الأول بذكر خلق الإنسان وهو أهم في هذا المقام للتنبيه على أنه المراد من الخلق الأول وليبنَى عليه { ونعلم ما توسوس به نفس } الذي هو تتميم لإحاطة صفة العلم في قوله : { قد علمنا ما تنقص الأرض منهم } [ ق : 4 ] ولينتقل منه الإنذار بإحصاء أعمال الناس عليها وهو ما استُرسل في وصفه من قوله : { إذ يتلقى المتلقيان } [ ق : 17 ] الخ .
ووصف البعث وصف الجزاء من قوله : { ونفخ في الصور } إلى قوله : { ولدينا مزيد } [ ق : 20 35 ] .
وتأكيد هذا الخبر باللام و ( قد ) مراعًى فيه المتعاطفات وهي { نعلم ما توسوس به نفسه } لأنهم وإن كانوا يعلمون أن الله خلق الناس فإنهم لا يعلمون أن الله عالم بأحوالهم .
و { الإنسان } يعم جميع الناس ولكن المقصود منهم أولاً المشركون لأنهم المسوق إليهم هذا الخبر ، وهو تعريض بالإنذار كما يدل عليه قوله بعده { ذلك ما كنت منه تحيد } [ ق : 19 ] وقوله : { لقد كنت في غفلة من هذا } [ ق : 22 ] وقوله : { ذلك يوم الوعيد } [ ق : 20 ] .
والبَاء في قوله { به } زائدة لتأكيد اللصوق ، والضمير عائد الصلة كأنه قيل : ما تتكلمه نفسه على طريقة { وامسحوا برؤوسكم } [ المائدة : 6 ] .
وفائدة الإخبار بأن الله يعلم ما توسوس به نفس كل إنسان التنبيه عل سعة علم الله تعالى بأحوالهم كلها فإذا كان يعلم حديث النفس فلا عجب أن يعلم ما تنقص الأرض منهم .
والإخبار عن فعل الخلق بصيغة المضيّ ظاهر ، وأما الإخبار عن علم ما توسوس به النفس بصيغة المضارع فللدلالة على أن تعلق علمه تعالى بالوسوسة متجدد غير منقض ولا محدود لإثبات عموم علم الله تعالى ، والكناية عن التحذير من إضمار ما لا يرضي الله .
وجملة { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } في موضع الحال من ضمير { ونعلم } .
والمقصود منها تأكيد عاملها وتحقيق استمرار العلم بباطن الإنسان ، ومعنى { توسوس } تتكلم كلاماً خفياً همساً . ومصدره الوسواس والوسوسة أطلقت هنا مجازاً على ما يجول في النفس من الخواطر والتقديرات والعزائم لأن الوسوسة أقرب شيء تشبه به تلك الخواطر وأحسن ما يستعار لها لأنها تجمع مختلف أحوال ما يجول في العقل من التقادير وما عداها من نحو ألفاظ التوهم والتفكر إنما يدل على بعض أحوال الخواطر دون بعض .
والحبل : هنا واحد حِبال الجسم . وهي العروق الغليظة المعروفة في الطبّ بالشرايين ، واحدها : شَرْيان بفتح الشين المهملة وتكسر وبسكون الراء وتعرف بالعروق الضوارب ومنبتها من التجْويف الأيسر من تجويفي القلب . وللشرايين عمل كثير في حياة الجسم لأنها التي توصل الدم من القلب إلى أهم الأعضاء الرئيسية مثل الرئة والدماغ والنخاع والكليتين والمعدة والأمعاء . وللشرايين أسماء باعتبار مصابِّها من الأعضاء الرئيسية .
والوريد : واحد من الشرايين وهو ثاني شريانين يخرجان من التجويف الأيسر من القلب .
واسمه في علم الطلب أورطِي ويتشعب إلى ثلاث شعب ثالثتهما تنقسم إلى قسمين قسم أكبر وقسم أصغر . وهذا الأصغير يخرج منه شريانان يسميان السباتِي ويصعدان يميناً ويساراً مع الودَجين ، وكل هذه الأقسام تسمى الوريد . وفي الجسد وَريدان وهما عرقان يكتنفان صفحتي العنق في مقدمهما متصلان بالوَتين يَرِدان من الرأس إليه .
وقد تختلف أسماء أجزائه باختلاف مواقعها من الجسد فهو في العنق يسمى الوريد ، وفي القلب يسمى الوتين ، وفي الظهر يسمى الأبهر ، وفي الذراع والفخذ يسمونه الأكحل والنَّسَا ، وفي الخنصر يدعى الأسلم .
وإضافة { حبل } إلى { الوريد } بيانية ، أي الحبل الذي هو الوريد ، فإن إضافة الأعم إلى الأخص إذا وَقعت في الكلام كانت إضافة بيانية كقولهم : شجر الأراك .
والقرب هنا كناية عن إحاطة العلم بالحال لأن القرب يستلزم الإطلاع ، وليس هو قربا بالمكان بقرينة المشاهدة فآل الكلام إلى التشبيه البليغ تشبيه معقول بمحسوس ، وهذا من بناء التشبيه على الكناية بمنزلة بناء المجاز على المجاز .
ومن لطائف هذا التمثيل أن حبل الوريد مع قربه لا يشعر الإنسان بقربه لخفائه ، وكذلك قرب الله من الإنسان بِعلمه قرب لا يشعر به الإنسان فلذلك اختير تمثيل هذا القرب بقرب حبل الوريد . وبذلك فاق هذا التشبيه لحالة القرب كلَّ تشبيه من نوعه ورد في كلام البلغاء . مثل قولهم : هو منه مقعد القابلة ومعقد الإزار ، وقول زهير :
وقول حنظلة بن سيار وهو حنظلة بن ثعلبة بن سيار العجلي مخضرم :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.