معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡـٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ} (5)

ثم ألزم الحجة على منكري البعث فقال : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب } يعني : في شك { من البعث فإنا خلقناكم } يعني : أباكم آدم الذي هو أصل النسل { من تراب ثم من نطفة } يعني : ذريته ، والنطفة هي المني ، وأصلها الماء القليل وجمعها نطاف { ثم من علقة } وهي : الدم الغليظ المتجمد ، الطري وجمعها علق ، وذلك أن النطفة تصير دماً غليظاً ثم تصير لحماً { ثم من مضغة } وهي لحمة قليلة قدر ما يمضع { مخلقة وغير مخلقة } قال ابن عباس وقتادة : { مخلقة } أي : تامة وغير مخلقة غير تامة . أي : ناقصة الخلق . وقال مجاهد : مصورة وغير مصورة ، يعني السقط . وقيل : المخلقة الولد الذي تأتي به المرأة لوقته وغير المخلقة السقط . روي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود قال : إن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه وقال : أي رب مخلقة أو غير مخلقة ؟ فإن قال : غير مخلقة ، قذفها الرحم دماً ولم تكن نسمة ، وإن قال : مخلقة ، قال الملك : أي رب أذكر أم أنثى ، أشقي أم سعيد ؟ ما الأجل ما العمل ما الرزق وبأي أرض تموت ؟ فيقال له : اذهب إلى أم الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك ، فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها ، فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته . { لنبين لكم } كمال قدرتنا وحكمتنا في تصريف أطوار خلقكم ولتستدلوا بقدرته في ابتداء الخلق على قدرته على الإعادة . وقيل : لنبين لكم ما تأتون وما تذرون وما تحتاجون إليه في العبادة . { ونقر في الأرحام ما نشاء } فلا تمجه ولا تسقطه { إلى أجل مسمى } إلى وقت خروجها من الرحم تامة الخلق والمدة . { ثم نخرجكم } من بطون أمهاتكم { طفلاً } أي : صغراً ، ولم يقل : أطفالاً ، لأن العرب تذكر الجمع باسم الواحد . وقيل : تشبيهاً بالمصدر مثل عدل وزور . { ثم لتبلغوا أشدكم } يعني : الكمال والقوة . { ومنكم من يتوفى } من قبل بلوغ الكبر ، { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } أو الهرم والخرف { لكيلا يعلم من بعد علم شيئا } أي : يبلغ من السن ما يتغير عقله فلا يعقل شيئاً . ثم ذكر دليلاً آخر على البعث فقال : { وترى الأرض هامدة } أي : يابسة لا نبات فيها ، { فإذا أنزلنا عليها الماء } المطر ، { اهتزت } تحركت بالنبات وذلك أن الأرض ترتفع بالنبات فذلك تحركها ، { وربت } أي : ارتفعت وزادت ، وربأت بالهمزة ، وكذلك في حم السجدة . أي ارتفعت وعلت . قال المبرد : أراد اهتز وربا نباتها ، فحذف المضاف ، والاهتزاز في النبات أظهر ، يقال : اهتز النبات أي : طال وإنما أنث لذكر الأرض . وقيل : فيه تقديم وتأخير معناه : ربت واهتزت { وأنبتت من كل زوج بهيج } أي : صنف حسن يبهج به من رآه ، أي : يسر ، فهذا دليل آخر على البعث .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡـٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ} (5)

وقوله تعالى : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث } الآية هذه احتجاج على العالم بالبداءة الأولى وضرب الله تعالى في هذه الآية مثلين إذا اعتبرهما الناظر جوز في العقل البعثة من القبور ، ثم ورد خبر الشرع بوجوب ذلك ووقوعه ، و «الريب » الشك ، وقوله تعالى : { إن كنتم } شرط مضمنه التوفيق ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن «البعَث » بفتح العين وهي لغة في البعث عند البصريين وهي عند الكوفيين تخفيف بعث وقوله تعالى : { فإنا خلقناكم من تراب } يريد آدم ثم سلط الفعل عليهم من حيث هم من ذريته ، وقوله تعالى : { ثم من نطفة } يريد المنى الذي يكون من البشر ، و «النطفة » تقع على قليل الماء وكثيره ، وقال النقاش المراد { نطفة } آدم ، وقوله تعالى : { ثم من علقة } ، يريد من الدم تعود النطفة إليه في الرحم أو المقارن للنطفة ، والعلق ، الدم العبيط وقيل العلق ، الشديد الحمرة فسمي الدم لذلك ، وقوله تعالى : { ثم من مضغة } يريد بضعة لحم على قدر ما يمضغ ، وقوله تعالى : { مخلقة } معناه متممة البنية ، { وغير مخلقة } غير متممة أي التي تسقط قاله مجاهد وقتادة والشعبي وأبو العالية فاللفظة بناء مبالغة من خلق ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل واحد منها مختص بخلق حسن في جملته تضعيف الفعل لأن فيه خلقاً كثيرة ، وقرأ ابن أبي عبلة «مخلقةً » بالنصب «وغيرَ » بالنصب في الراء ويتصل بهذا الموضوع من الفقه أن العلماء اختلفوا في أم الولد اذا أسقطت مضغة لم تصور هل تكون أم ولد بذلك فقال مالك والأوزاعي وغيرهما : هي أم ولد بالمضغة إذا علم أنها مضغة الولد ، وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا حتى يتبين فيه خلق ولو عضو واحد ، وقوله تعالى : { لنبين } قالت فرقة معناه لنبين أمر البعث فهو اعتراض بين الكلامين ، وقرأت هذه الفرقة بالرفع في «نقرُّ » ، المعنى ونحن نقر وهي قراءة الجمهور ، وقالت فرقة { لنبين } معناه بكون المضغة غير مخلقة وطرح النساء إياها كذلك نبين للناس أن المناقل في الرحم هي هكذا ، وقرأت هذه الفرقة «ونقرَّ » بالنصب وكذلك قرأت «ونخرجَكم » بالنصب وهي رواية المفضل عن عاصم ، وحكى أبو عمرو الداني أن رواية المفضل هذه هي بالياء في «يقر » وفي «يخرجكم » والرفع على هذا التأويل سائغ ولا يجوز النصب على التأويل الأول ، وقرأ ابن وثاب «ما نِشاء » بكسر النون ، و «الأجل المسمى » هو مختلف بحسب جنين جنين فثم من يسقط وثم من يكمل أمره ويخرج حياً ، وقوله تعالى : { طفلاً } اسم الجنس أي أطفالاً ، واختلف الناس في «الأشد » من ثمانية عشر إلى ثلاثين ، إلى اثنين وثلاثين ، إلى ستة وثلاثين ، إلى أربعين ، إلى خمسة وأربعين ، واللفظ تقال باشتراك ، فأشد الإنسان على العموم غير أشد اليتيم الذي هو الاحتلام{[8305]} ، و «الأشد » في هذه الآية يحتمل المعنيين ، والرد إلى أرذل العمر هو حصول الإنسان في زمانه{[8306]} واختلال قوة حتى لا يقدر على إقامة الطاعات واختلال عقل حتى لا يقدر على إقامة ما يلزمه من المعتقدات ، وهذا أبداً يلحق مع الكبر وقد يكون { أرذل العمر } في قليل من السن بحسب شخص ما لحقته زمانة وقد ذكر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه { أرذل العمر } خمسة وسبعون وهذا فيه نظر وإن صح عن علي رضي الله عنه فلا يتوجه إلا أن يريد على الأكثر فقد نرى كثيراً أبناء ثمانين سنة ليسوا في أرذل العمر ، وقرأ الجمهور «العمر » مشبعة وقرأ نافع «العمر » مخففة الميم واختلف عنه ، وقوله تعالى : { لكيلا يعلم } أي لينسى معارفه وعلمه الذي كان معه فلا يعلم من ذلك شيئاً فهذا مثال واحد يقضي للمعتبر به أن القادر على هذه المناقل المتقن لها قادر على إعادة تلك الأجساد التي أوجدها بهذه المناقل إلى حالها الأولى .

{ وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ }

هذا هو المثال الثاني الذي يعطي للمعتبر فيه جواز بعد الأجساد وذلك أن إحياء الأرض بعد موتها بين فكذلك الأجساد ، و { هامدة } معناه ساكنة دارسة بالية ومنه قيل همد الثوب إذا بلي ، قال الأعشى : [ الكامل ]

قالت قتيلة ما لجسمك شاحباً . . . وأرى ثيابك باليات همدا{[8307]}

واهتزاز الأرض هو حركتها بالنبات وغير ذلك مما يعتريها بالماء ، { وربت } معناه نشزت وارتفعت ومنه الربوة وهو المكان المرتفع ، وقرأ جعفر بن القعقاع{[8308]} «وربأت » بالهمز ، ورويت عن أبي عمرو وقرأها عبد الله بن جعفر{[8309]} وخالد بن إلياس{[8310]} وهي غير وجيهة ووجهها أن تكون من ربأت القوم إذا علوت شرفاً من الأرض طليعة فكأن الأرض بالماء تتطاول وتعلو{[8311]} ، و «الزوج » النوع ، و «البهيج » فعيل من البهجة وهي الحسن قاله وقتادة وغيره .


[8305]:يريد أن أشد الإنسان على العموم هو الاحتلام، وهو غير الذي أشد اليتيم يراد به:القدرة على التصرف وحسن إدراك الأمور، لقوله تعالى في الآية (152) من سورة الأنعام: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده} راجع الجزء الخامس ص 396.
[8306]:الزمانة: المرض.
[8307]:قال الأعشى هذا البيت من قصيدة خاطب بها كسرى حين أراد منهم رهائن بعد أن أغار الحارث بن وعلة على بعض السواد، ومطلعها: أثوى وقصر ليلة ليزودا ومضى وأخلف من قتيلة موعدا ورواية الديوان: "ما لجسمك سايئا" أي يسوء من يراك. والثوب الهامد: المتقطع من طول طيه، ينظر إليه الناظر فيحسبه سليما، فإذا لمسته تناثر قطعا من البلى. وهذا هو الشاهد هنا.
[8308]:هو أبو جعفر القارئ المدني المخزومي، مولاهم، اسمه يزيد بن القعقاع، وقيل: بل اسمه جندب بن صيرور، وقيل: فيروز، قال عنه الحافظ العسقلاني في :تقريب التهذيب": "وهو ثق، من الرابعة، مات سنة سبع وعشرين، وقيل: سنة ثلاثين".
[8309]:هو عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي، أحد الأجود، ولد بأرض الحبشة، وله صحبة، مات سنة ثمانين وله من العمر ثمانون سنة.
[8310]:هو خالد بن إلياس ـ وقيل: ابن إياس ـ بن صخر بن أبي الجهم بن حذيفة، أبو الهيثم العدوي، المدني، إمام المسجد النبوي، قال عنه الحافظ العسقلاني في "تقريب التهذيب": "متروك الحديث، من السابعة".
[8311]:الطليعة الذي يبعثه القوم يقال له: ربيء وربيئة، قال الشاعر: بعثنا ربيئا قبل ذلك مخملا كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقي والأصل أن يؤنث لأنه يقال له: العين إذ هو ينظر بعينه، والعين مؤنثة، أما من ذكره فعلى أنه نقل من الجزء إلى الكل. قال ذلك سيبويه. راجع اللسان.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡـٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ} (5)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

ثم ذكر صنعه ليعتبروا في البعث فقال سبحانه: {يا أيها الناس} يعني: كفار مكة {إن كنتم في ريب من البعث} يعني: في شك من البعث بعد الموت، فانظروا إلى بدء خلقكم {فإنا خلقناكم من تراب} ولم تكونوا شيئا {ثم من نطفة ثم من علقة} مثل الدم {ثم من مضغة مخلقة} يعني: من النطقة مخلقة {وغير مخلقة}... {لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء} فلا يكون سقطا {إلى أجل مسمى} يقول: خروجه من بطن أمه ليعتبروا في البعث، ولا يشكوا فيه أن الذي بدأ خلقكم، لقادر على أن يعيدكم بعد الموت. ثم قال سبحانه: {ثم نخرجكم} من بطون أمهاتكم {طفلا ثم لتبلغوا أشدكم} ثماني عشرة سنة إلى أربعين سنة {ومنكم من يتوفى} من قبل أن يبلغ أشده {ومنكم من يرد} بعد الشباب {إلى أرذل العمر} يعني: الهرم {لكيلا يعلم من بعد علم} كان يعلمه {شيئا} فذكر بدء الخلق، ثم ذكر الأرض الميتة كيف يحيها ليعتبروا في البعث، فإن البعث ليس بأشد من بدء الخلق، ومن الأرض حين يحييها من بعد موتها، فذلك قوله سبحانه: {وترى الأرض هامدة}، يعني: ميتة ليس [فيها] نبت... {فإذا أنزلنا عليها الماء} يعني: المطر {اهتزت} الأرض، يعني: تحركت بالنبات... ثم قال للأرض: {وربت} يعني: وأضعفت النبات {وأنبتت من كل زوج بهيج}، يعني: من كل صنف من النبات حسن.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

هذا احتجاج من الله على الذي أخبر عنه من الناس أنه يجادل في الله بغير علم، اتباعا منه للشيطان المريد وتنبيه له على موضع خطأ قيله وإنكاره ما أنكر من قدرة ربه. قال: يا أيها الناس إن كنتم في شكّ من قدرتنا على بعثكم من قبوركم بعد مماتكم وبلاكُم استعظاما منكم لذلك، فإن في ابتدائنا خلق أبيكم آدم صلى الله عليه وسلم من تراب، ثم إنشائناكم من نطفة آدم، ثم تصريفناكم أحوالاً حالاً بعد حال، من نطفة إلى علقة، ثم من علقة إلى مُضغة، لكم معتبرا ومتعظا تعتبرون به، فتعلمون أن من قدر على ذلك فغير متعذّر عليه إعادتكم بعد فنائكم كما كنتم أحياء قبل الفناء.

واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"مخلّقةٍ وغَيْرِ مُخَلّقَةٍ"؛

فقال بعضهم: هي من صفة النطفة. قال: ومعنى ذلك: فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة مخلقة وغير مخلقة قالوا: فأما المخلقة فما كان خلقا سَوِيّا وأما غير مخلقة فما دفعته الأرحام من النّطَف وألقته قبل أن يكون خلقا... وقال آخرون: معنى قلك: تامة وغير تامة... وقال آخرون: معنى ذلك المضغة مصورة إنسانا وغير مصوّرة، فإذا صوّرت فهي مخَلقة وإذا لم تصوّر فهي غير مخَلقة...

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: المخلقة المصورة خلقا تامّا، وغير مخلقة: السّقط قبل تمام خلقه لأن المخلقة وغير المخلقة من نعت المضغة والنطفة بعد مصيرها مضغة، لم يبق لها حتى تصير خلقا سويّا إلا التصوير وذلك هو المراد بقوله: مُخَلّقَةٍ وغَيرِ مُخَلّقَةٍ خلقا سويّا، وغير مخلقة بأن تلقيه الأم مضغة ولا تصوّر ولا ينفخ فيها الروح.

وقوله: "لِنُبَيّنَ لَكُمْ "يقول تعالى ذكره: جعلنا المضغة منها المخلقة التامة ومنها السقط غير التامّ، لنبين لكم قدرتنا على ما نشاء ونعرّفكم ابتداءنا خلقكم.

وقوله: "وَنُقِرّ في الأرْحامِ ما نَشاءُ إلى أجَلٍ مُسَمّى" يقول تعالى ذكره: من كنا كتبنا له بقاء وحياة إلى أمد وغاية، فإنا نقرّه في رحم أمه إلى وقته الذي جعلنا له أن يمكث في رحمها فلا تسقطه ولا يخرج منها حتى يبلغ أجله، فإذا بلغ وقت خروجه من رحمها أذنا له بالخروج منها، فيخرج...

وقوله: "ثُمّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً" يقول تعالى ذكره: ثم نخرجكم من أرحام أمهاتكم إذا بلغتم الأجل الذي قدرته لخروجكم منها طفلاً صغارا ووحّد «الطفل»، وهو صفة للجميع، لأنه مصدر مثل عدل وزور.

وقوله: "ثُمّ لِتَبْلُغُوا أشُدّكُمْ" يقول: ثم لتبلغوا كمال عقولكم ونهاية قواكم بعمركم...

يقول تعالى ذكره: ومنكم أيها الناس من يُتَوفى قبل أن يبلغ أشدّه فيموت، ومنكم من يُنْسَأ في أجله فيعمر حتى يهرم فيردّ من بعد انتهاء شبابه وبلوغه غاية أشدّه إلى أرذل عمره، وذلك الهرم، حتى يعود كهيئته في حال صباه لا يعقل من بعد عقله الأوّل شيئا. ومعنى الكلام: ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر بعد بلوغه أشدّه لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ كان يعلمه شَيْئا.

وقوله: "وَتَرَى الأرْضَ هامِدَةً" يقول تعالى ذكره: وترى الأرض يا محمد يابسة دارسة الآثار من النبات والزرع. وأصل الهمود: الدروس والدثور... عن ابن جُرَيج، في قوله: وَتَرَى الأرْضَ هامدَةً قال: لا نبات فيها...

وقوله: "فإذَا أنْزَلْنا عَلَيْها المَاء اهْتَزّتْ" يقول تعالى ذكره: فإذا نحن أنزلنا على هذه الأرض الهامدة التي لا نبات فيها المطرَ من السماء "اهْتَزّتْ" يقول: تحركت بالنبات، "وَرَبَتْ" يقول: وأضعفت النبات بمجيء الغيث...

وقوله: "وأنْبَتَتْ مِنْ كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ" يقول جلّ ثناؤه: وأنبتت هذه الأرض الهامدة بذلك الغيث مِنْ كُلّ نوع بهيج. يعني بالبهيج: البهج، وهو الحسن.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

تأويله، والله أعلم، أن كيف تشكون في البعث، وتنكرونه، وليس سبب إنكاركم البعث إلا أن تصيروا تراباً أو ماءً في العاقبة وقد كنتم في مبادئ أحوالكم ترابا وماء، فكيف أنكرتم بعثكم إذا صرتم ترابا؟ أو أن يكون معناه: أن كيف أنكرتم البعث، وقد رأيتم أنه يقلبكم من حال النطفة إلى حال العلقة ومن العلقة إلى المضغة، ولا يقلب من حال إلى حال بلا عاقبة تقصد.

فلو لم يكن بعث كما تزعمون لكان خلقكم وتقليبكم من حال إلى حال عبثا على ما أخبر أن خلق الخلق لا للرجوع إليه عبث قوله: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115] صير خلق الخلق لا للرجوع إليه عبثا، فعلى ذلك الأول.

أو يكون تأويله، والله أعلم، {فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة} إلى آخر الآية؛ ولو اجتمع حكماء البشر وعلماؤهم ليعرفوا السبب الذي خلق البشر من ذلك التراب أو من النطفة ما قدروا عليه، وما وجدوا للبشر فيه أثرا ولا معنى للبشرية فيه، فمن قدر على ابتداء إنشاء هذا العالم من التراب أو من النطفة من غير سبب، يوجد فيه، ولا أثر فهو قادر على إعادتهم، وإعادة الشيء في عقولكم أهون وأيسر من الابتداء. فمن قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر.

وقوله تعالى: {ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة} قال بعضهم: {مخلقة} أي تامة {وغير مخلقة} أي غير تامة خلقا، وهو الأشبه لأن التشديد إنما يذكر لتكثير خلق الفعل، والتخفيف لتقليله. فكأنه قال: {مخلقة} أي قد أتم خلقها من الجوارح والأعضاء {وغير مخلقة} أي غير تامة خلقا بل ناقصة...

وقوله تعالى: {ثم لتبلغوا أشدكم}... وأصل الأشد هو اشتداد كل شيء، وتقوي كل شيء عنه من الجوارح والأعضاء، وكل ما ركب فيه من العقل وغيره. ثم عند ذلك يبين لهم. ويكون قوله: {لنبين لكم} بعد هذا كله إذا بلغوا المبلغ الذي تعرفون تقليبه إياكم من حال إلى حال على ما ذكر.

ثم يحتمل قوله: {لنبين لكم} وجوها:

أحدها: يبين قدرته وسلطانه أن من قدر على تحويلهم من حال التراب إلى حال الإنسانية والبشرية ومن حال النطفة إلى حال العلقة ثم إلى آخر ما ذكر يقدر على البعث والإحياء بعدما صاروا ترابا.

والثاني: يبين علمه في الظلمات الثلاث التي كان الولد فيها: أن كيف قَلَّبَهُ من حال إلى حال في تلك الظلمات ليعلموا أنه لا يخفى عليه شيء.

والثالث: يبين حكمته وتدبيره في خلق الإنسان من التراب ومن النطفة ما لو اجتمع جميع الحكماء من البشر والعلماء ليعرفوا المعنى الذي به خلق الإنسان منه، وصار به بشرا، ما قدروا عليه، ولا عرفوا السبب الذي به صار كذلك ليعلموا أنه حكيم بذاته وعالم قادر بذاته لا بتعليم غيره ولا بأقدار غيره.

فمن كان هذا سبيله لا يعجزه شيء، ينشئ الأشياء من الأشياء ولا من الأشياء على ما شاء وكيف شاء.

وقوله تعالى: {ومنكم من يتوفى} أي يتوفى قبل أن يبلغ أشده. دليله: قوله: {ومنكم من يتوفى} أي من قبل أن يبلغ ذلك المبلغ، وهو الأشد {ومنكم من يرد إلى أرذل العمر} أي إلى وقت يستقذر منه، ويستخبث.

ليس كالصغير، لأن الصغير والطفل مما يؤمل منه في العاقبة المنافع والزيادات، وهذا لا يرجى منه، ولا يؤمل منه العاقبة. كلما مر عليه وقت كان أضعف في عقله ونفسه. ولا كذلك الصغير، وهو ما قال: {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعف وشيبة} [الروم: 54].

قال القتبي: {أرذل العمر} أي الخرف والهرم.

وقوله تعالى: {لكيلا يعلم من بعد علم شيئا} أي لكيلا يعلم من بعدما كان يعلمه شيئا.

ثم ذكر قدرته وسلطانه، فقال: {وترى الأرض هامدة} قال بعضهم: ميتة. وقيل: خاشعة، وقيل: يابسة. وقيل: بالية.

وقوله تعالى: {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} قال الزجاج: {وربت} من الزيادة والنماء. وكذلك قال أبو عوسجة: يقال: ربا يربو، أي زاد، وهو الربا، وربوات من الارتفاع، ربا يربو ربوة كقوله: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرارا ومعين} [المؤمنون: 50].

ثم أضاف الاهتزاز والزيادة إلى الأرض، وهي لا تهتز، ولا تربو. وإنما يربو، ويهتز ما يخرج منها من النبات. لكن أضاف ذلك إليها لما بها كان اهتزاز ذلك النبات، وبها كان النماء، فأضيف إليها، أو إن كان من الارتفاع والربوة فهي ترتفع، وتنتفخ، وتهتز بالمطر.

وقوله تعالى: {وأنبتت من كل زوج بهيج} قيل: البهيج: الحسن. يخبر في هذا عن كل قدرته وسلطانه أن من قدر على إحياء الأرض بعدما كانت يابسة ميتة هو قادر على إحياء الموتى بعد الموت وبعدما صاروا ترابا.

وقوله تعالى: {من كل زوج بهيج} أي من كل جنس حسن بهيج، أي يسر، وهو فعيل بمعنى فاعل. يقال: امرأة ذات خلق باهج.

قال أبو عوسجة: الهَامِدُ البالي، يقال: همد الثوب إذا بلي، والهامد أيضا الخامد، خمدت النار تخمد خمودا.

وقال بعضهم: قوله: {وربت} أي ضاعفت النبات.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

والريب أقبح الشك "فإنا خلقناكم من تراب "قال الحسن: المعنى خلقنا آدم من تراب الذي هو أصلكم وأنتم نسله. وقال قوم: أراد به جميع الخلق، لأنه إذا أراد خلقهم من نطفة، والنطفة يجعلها الله من الغذاء، والغذاء ينبت من التراب والماء، فكان أصلهم كلهم التراب،...

وانما قيل: أرذل العمر، لأن الإنسان لا يرجو بعده صحة وقوة، وإنما يترقب الموت والفناء، بخلاف حال الطفولية، والضعف الذي يرجو معها الكمال والتمام والقوة، فلذلك كان أرذل العمر.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

التبس عليهم جواز بعثه الخَلْق واستبعدوه غاية الاستبعاد، فلم ينكر الحق عليهم إلا بإعراضهم عن تأمل البرهان، واحتجَّ عليهم في ذلك بما قطع حجتهم، فَمَنْ تَبعَ هُداه رَشدَ، ومَنْ أصَرَّ على غَيِّه تَرَدَّى في مهواة هلاكه. واحتجَّ عليهم في جواز البعث بما أقروا به في الابتداء أن الله خَلَقَهم وأنه ينقلهم من حال إلى حال أخرى؛ فبدأهم من نطفة إلى علقة ومنها ومنها... إلى أَنْ نَقَلَهم من حال شبابهم إلى زمان شَيْبهم، ومن ذلك الزمان إلى حين وفاتهم. واحتجَّ أيضاً عليهم بما أشهدهم كيف أنه يحيي الأرض -في حال الربيع- بعد موتها، فتعود إلى ما كانت عليه في الربيع من الخضرة والحياة. والذي يَقْدِرُ على هذه الأشياء يقدر على خَلْق الحياة في الرِّمة البالية والعظام النخرة.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

العلقة: قطعة الدم الجامدة. والمضغة: اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ. والمخلقة: المسواة الملساء من النقصان والعيب. يقال: خلق السواك والعود، إذا سواه وملسه، من قولهم: صخرة خلقاء، إذا كانت ملساء، كأنّ الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة: منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك، فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم، وتمامهم ونقصانهم. وإنما نقلناكم من حال إلى حال ومن خلقة إلى خلقة {لّنُبَيّنَ لَكُمْ} بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولاً، ثم من نطفة ثانياً ولا تناسب بين الماء والتراب، وقدر على أن يجعل النطفة علقة وبينهما تباين ظاهر، ثم يجعل العلقة مضغة والمضغة عظاماً: قدر على إعادة ما أبدأه، بل هذا أدخل في القدرة من تلك، وأهون في القياس...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

... {لكيلا يعلم} أي لينسى معارفه وعلمه الذي كان معه فلا يعلم من ذلك شيئاً. فهذا مثال واحد يقضي للمعتبر به أن القادر على هذه المناقل المتقن لها قادر على إعادة تلك الأجساد التي أوجدها بهذه المناقل إلى حالها الأولى.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أنه سبحانه لما حكى عنهم الجدال بغير العلم في إثبات الحشر والنشر وذمهم عليه فهو سبحانه أورد الدلالة على صحة ذلك من وجهين:

أحدهما: الاستدلال بخلقة الحيوان أولا وهو موافق لما أجمله في قوله: {قل يحييها الذي أنشأها أول مرة}...

ثم إنه سبحانه ذكر من مراتب الخلقة الأولى أمورا سبعة:

المرتبة الأولى: قوله: {فإنا خلقناكم من تراب} وفيه وجهان: أحدهما: إنا خلقنا أصلكم وهو آدم عليه السلام من تراب، لقوله: {كمثل آدم خلقه من تراب} وقوله: {منها خلقناكم}، والثاني: أن خلقة الإنسان من المني ودم الطمث وهما إنما يتولدان من الأغذية، والأغذية إما حيوان أو نبات وغذاء الحيوان ينتهي قطعا للتسلسل إلى النبات، والنبات إنما يتولد من الأرض والماء، فصح قوله: {إنا خلقناكم من تراب}

المرتبة الثانية: قوله: {ثم من نطفة} والنطفة اسم للماء القليل أي ماء كان، وهو ههنا ماء الفحل...

المرتبة الثالثة: قوله: {ثم من علقة} العلقة قطعة الدم الجامدة، ولا شك أن بين الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة.

المرتبة الرابعة: قوله: {ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء}..

ثم للمفسرين فيه أقوال: أحدها: أن يكون المراد من تمت فيه أحوال الخلق ومن لم تتم، كأنه سبحانه قسم المضغة إلى قسمين: أحدهما: تامة الصور والحواس والتخاطيط. وثانيهما: الناقصة في هذه الأمور، فبين أن بعد أن صيره مضغة منها ما خلقه إنسانا تاما بلا نقص، ومنها ما ليس كذلك... والقول الأول أقرب لأنه تعالى قال في أول الآية: {فإنا خلقناكم} وأشار إلى الناس فيجب أن تحمل مخلقة وغير مخلقة على من سيصير إنسانا وذلك يبعد في السقط لأنه قد يكون سقطا ولم يتكامل فيه الخلقة...

المرتبة الخامسة: قوله: {ثم نخرجكم طفلا} وإنما وحد الطفل لأن الغرض الدلالة على الجنس ويحتمل أن يخرج كل واحد منكم طفلا كقوله: {والملائكة بعد ذلك ظهير}.

المرتبة السادسة: قوله: {ثم لتبلغوا أشدكم} والأشد كمال القوة والعقل والتمييز، وهو من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد، وكأنها شدة في غير شيء واحد، فبنيت لذلك على لفظ الجمع، والمراد والله أعلم ثم سهل في تربيتكم وأغذيتكم أمورا لتبلغوا أشدكم، فنبه بذلك على الأحوال التي بين خروج الطفل من بطن أمه وبين بلوغ الأشد ويكون بين الحالتين وسائط،...

المرتبة السابعة: قوله: {ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا} والمعنى أن منكم من يتوف على قوته وكماله، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وهو الهرم والخرف، فيصير كما كان في أول طفوليته ضعيف البنية، سخيف العقل، قليل الفهم... فهذا تمام الاستدلال بحال خلقة الحيوان على صحة البعث.

الوجه الثاني: الاستدلال بحال خلقة النبات على ذلك وهو قوله سبحانه وتعالى: {وترى الأرض هامدة} وهمودها يبسها وخلوها عن النبات والخضرة {فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} والاهتزاز الحركة على سرور، فلا يكاد يقال اهتز فلان لكيت وكيت إلا إذا كان الأمر من المحاسن والمنافع فقوله: {اهتزت وربت} أي تحركت بالنبات وانتفخت.

أما قوله: {وأنبتت من كل زوج بهيج} فهو مجاز لأن الأرض ينبت منها، والله تعالى هو المنبت لذلك، لكنه يضاف إليها توسعا، ومعنى {من كل زوج بهيج} من كل نوع من أنواع النبات من زرع وغرس، والبهجة حسن الشيء ونضارته، والبهيج بمعنى المبهج.

الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :

" ومنكم من يرد إلى أرذل العمر "أي أخسه وأدونه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وعذاب القبر). أخرجه النسائي عن سعد، وقال: وكان يعلمهن بنيه كما يعلم المكتب الغلمان.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما حذر الناس من ذلك اليوم، وأخبر أن منهم من يكذب، وعرف بمآله، فأفهم ذلك أن منهم من يصدق به فيكون له ضد حاله، وكان كثير من المصدقين يعملون عمل المكذبين، أقبل عليهم سبحانه إقبالاً ثانياً رحمة لهم، منبهاً على أنه ينبغي أن لا يكون عندهم نوع من الشك في ذلك اليوم لما عليه من الآيات في الآفاق وفي أنفسهم، فقال دالاً عليه بالأمرين: {يا أيها الناس} أي كافة، ويجوز أن يراد المنكر فقط، وعبر بالناس الذي هو من أسفل الأوصاف لذلك، وإشارة إلى أن المنكر والعامل عمله -وإن كان مصدقاً- هم أكثر الناس، وعبر بأداة الشك إشارة إلى أن الذي يقتضيه الحال جزمهم به فقال: {إن} وبين أنه ما عبر به إلا للتوبيخ، لا للشك في أمرهم، بجعل الشرط ماضياً، ودل ب "كان "وبالظرف على ما تمكن الريب منهم فقال: {كنتم في ريب} أي شك وتهمة وحاجة إلى البيان {من البعث} وهو قيام الأجسام بأرواحها كما كانت قبل مماتها سواء، استعظاماً لأن نقدر عليه {فإنا خلقناكم} بقدرتنا التي لا يتعاظمها شيء {من تراب} لم يسبق له اتصاف بالحياة {ثم من نطفة} حالها أبعد شيء عن حال التراب، فإنها بيضاء سائلة لزجة صافية كما قال

(من ماء دافق} [الطارق: 6] وأصلها الماء القليل -قاله البغوي. وأصل النطف الصب- قاله البيضاوي. {ثم من علقة} أي قطعة دم حمراء جامدة، ليس فيها أهلية للسيلان {ثم من مضغة} أي قطعة لحم صغيرة جداً تطورت إليها النطفة {مخلقة} بخلقة الآدمي التمام {وغير مخلقة} أي أنشأناكم من تراب يكون هذا شأنه، وهو أنا ننقله في هذه الأطوار إلى أن يصير مضغة، فتارة يخلقها ويكون منها آدمياً، وتارة لا يخلقها بل يخرجها من الرحم فاسدة، أو تحرقها حرارته، أو غير مخلقة تخليقاً تاماً بل ناقصاً مع وجود الروح كشق الذي كان شق آدمي، وسطيح الذي كان علواً بلا سفل ونحوهما {لنبين لكم} كمال قدرتنا، وتمام حكمتنا، وأن ذلك ليس كائناً عن الطبيعة، لأنه لو كان عنها لم يختلف، فدل اختلافه على أنه عن فاعل مختار، قادر قهار، وحذف المفعول إشارة إلى أنه يدخل فيه كل ما يمكن أن يحيط به العقول.

ولما كان التقدير: فنجهض منه ما لا نشاء إتمامه، عطف عليه قوله: {ونقر في الأرحام} أي من ذلك الذي خلقناه {ما نشاء} إتمامه {إلى أجل مسمى} قدرناه لإتمامه ما بين ستة أشهر إلى ما نريد من الزيادة على ذلك، بحسب قوة الأرحام وضعفها، وقوة المخلقات وضعفها وكثرة ما تغتذيه من الدماء وقلته، وزكائه وخبثه، إلى غير ذلك من أحوال وشؤون لا يعلمها إلا بارئها، جلت قدرته، وتعالت عظمته، وأما ما لم نشأ إتمامه فإن الأرحام تمجه بقدرتنا وتلقيه دون التمام أو تحرقه فيضمحل {ثم نخرجكم} بعد ذلك {طفلاً} أي في حال الطفولة من صغر الجثة وضعف البدن والسمع والبصر وجميع الحواس، لئلا تهلكوا أمهاتكم بكبر أجرامكم، وعظم أجسامكم، وهو يقع على الجميع، وعبر به دونه للتساوي في ضعف الظاهر والباطن.

ولما ذكر أضعف الضعف ذكر أقوى القوة عاطفاً له عليه لما بينهما من المهلة بأداة التراخي فقال: {ثم} أي نمد أجلكم {لتبلغوا} بالانتقال في أسنان الأجسام فيما بين الرضاع، إلى حال اليفاع، إلى زمان الاحتلام، وقوة الشباب والتمام {أشدكم} أي نهاية كل شدة قدرناها لكل واحد منكم {ومنكم من يتوفى} قبل ما بعد ذلك من سن الشيخوخة {ومنكم من يرد} بالشيخوخة، وبناه للمجهول إشارة إلى سهولته عليه مع استبعاده لولا تكرر المشاهدة عند الناظر لتلك القوة والنشاط وحسن التواصل بين أعضائه والارتباط {إلى أرذل العمر} وهو سن الهرم فينقص جميع قواه {لكيلا يعلم}.

ولما كان السياق للقدرة على البعث الذي هو التحويل من حال الجمادية إلى ضده بغاية السرعة، أثبت "من" الابتدائية للدلالة على قرب زمن الجهل من زمن العلم، فربما بات الإنسان في غاية الاستحضار لما يعلم والحذق فيه فعاد في صبيحة ليلته أو بعد أيام يسيرة جداً من غير كبير تدريج لا يعلم شيئاً، وأفهم إسقاط حرف الانتهاء أنه ربما عاد إليه علمه، وربما اتصل جهله بالموت بخلاف ما مضى في النحل فقال: {من بعد علم} كان أوتيه {شيئاً} بل يصير كما كان طفلاً في ضعف الجواهر والأعراض، لتعلموا أن ذلك كله فعل الإله الواحد المختار، وأنه لو كان فعل الطبيعة لازداد بطول البقاء نمواً في جميع ذلك، وقد علم -بعود الإنسان في ذهاب العلم وصغر الجسم إلى نحو ما كان عليه في ابتداء الخلق- قطعاً أن الذي أعاده إلى ذلك قادر على إعادته بعد الممات، والكون على حال الرفات.

ولما تم هذا الدليل على الساعة محكم المقدمات واضح النتائج، وكان أول الإيجاد فيه غير مشاهد فعبر عنه بما يليق به، أتبعه دليلاً آخر محسوساً، وعطفه على ما أرشد إليه التقدير من نحو قوله: تجدون أيها الناس ما ذكرناه في أنفسكم، فقال: {وترى} فعبر بالرؤية {الأرض} ولما كان في سياق البعث، عبر بما هو أقرب إلى الموت فقال: {هامدة} أي يابسة مطمئنة ساكنة سكون الميت ليس بها شيء من نبت، ولعله أفرد الضمير توجيهاً إلى كل من يصلح أن يخاطب بذلك {فإذا} أي فننزل عليها ماء من مكان لا يوجد فيه ثم ينزل منه إلا بقدرة عظيمة وقهر باهر، فإذا {أنزلنا} بما لنا من العظمة {عليها الماء اهتزت} أي تحركت بنجوم النبات اهتزاز الحي، وتأهلت لإخراجه؛ قال الرازي: والاهتزاز: شدة الحركة في الجهات المختلفة. {وربت} أي انتفخت، وذلك أول ما يظهر منها للعين وزادت ونمت بما يخرج منها من النبات الناشىء عن التراب والماء {وأنبتت} بتقديرنا {من كل زوج} أي صنف عادلناه بصنف آخر جعلناه تمام نفعه به {بهيج} أي مؤنق من أشتات النباتات في اختلاف ألوانها وطعومها، وروائحها وأشكالها، ومنافعها ومقاديرها رائقة المناظر، لائقة في العيون والبصائر...

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} أي: شك واشتباه، وعدم علم بوقوعه، مع أن الواجب عليكم أن تصدقوا ربكم، وتصدقوا رسله في ذلك، ولكن إذا أبيتم إلا الريب، فهاكم دليلين عقليين تشاهدونهما، كل واحد منهما، يدل دلالة قطعية على ما شككتم فيه، ويزيل عن قلوبكم الريب. أحدهما: الاستدلال بابتداء خلق الإنسان، وأن الذي ابتدأه سيعيده. والدليل الثاني، إحياء الأرض بعد موتها.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إن البعث إعادة لحياة كانت، فهو في تقدير البشر -أيسر من إنشاء الحياة. وإن لم يكن- بالقياس إلى قدرة الله -شيء أيسر ولا شيء أصعب. فالبدء كالإعادة أثر لتوجه الإرادة: (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كن فيكون). ولكن القرآن يأخذ البشر بمقاييسهم، ومنطقهم، وإدراكهم، فيوجه قلوبهم إلى تدبر المشهود المعهود لهم، وهو يقع لهم كل لحظة، ويمر بهم في كل برهة؛ وهو من الخوارق لو تدبروه بالعين البصيرة، والقلب المفتوح، والحس المدرك. ولكنهم يمرون به أو يمر بهم دون وعي ولا انتباه. (فإنا خلقناكم من تراب).. والإنسان ابن هذه الأرض. من ترابها نشأ، ومن ترابها تكون، ومن ترابها عاش. وما في جسمه من عنصر إلا له نظيره في عناصر أمه الأرض. اللهم إلا ذلك السر اللطيف الذي أودعه الله إياه ونفخه فيه من روحه؛ وبه افترق عن عناصر ذلك التراب. ولكنه أصلا من التراب عنصرا وهيكلا وغذاء. وكل عناصره المحسوسة من ذلك التراب. والمسافة بين عناصر التراب الأولية الساذجة والنطفة المؤلفة من الخلايا المنوية الحية، مسافة هائلة، تضمر في طياتها السر الأعظم. سر الحياة. السر الذي لم يعرف البشر عنه شيئا يذكر، بعد ملايين الملايين من السنين ثم يبقى بعد ذلك سر تحول تلك النطفة إلى علقة، وتحول العلقة إلى مضغة، وتحول المضغة إلى إنسان!...

وكم بين الطفل الوليد والإنسان الشديد من مسافات في المميزات أبعد من مسافات الزمان! ولكنها تتم بيد القدرة المبدعة التي أودعت الطفل الوليد كل خصائص الإنسان الرشيد، وكل الاستعدادات الكامنة التي تتبدى فيه وتتكشف في أوانها...

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{أرذل العمر}، أي العمر المرذول الذي يكون عبئا على صاحبه...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

حياة الإنسان والطبيعة دليل على البعث تحدثت الآية السابقة عن الجدال بغير علمٍ، ومنشأه فقدان الوعي بالدار الآخرة وعدم التركيز على الجانب الفكري في العقيدة، لذا جاءت هذه الآيات لتؤكد على الدار الآخرة كحقيقةٍ إيمانيةٍ، وعلى الأسلوب العلمي في الاستدلال عليها، ليصبح الجدال من موقع العلم، منفتحاً على المسؤولية يوم القيامة. {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ} أن البعث ليس أمراً بعيداً عن الوقوع، ففي حياة كل واحدٍ منكم حالة بعث من التراب إلى الحياة، ولكن الفرق أن البعث فيكم يتحرك بطريقةٍ تدريجيةٍ، بينما البعث في الآخرة يأتي بشكل كامل ودون مقدّمات.

{وَتَرَى الأرض هَامِدَةً} وهذه صورة أخرى من صور الحياة التي تنطلق من صلب الموت، حيث يتحوّل التراب الميت إلى قوّةٍ خضراء تزهو بالحياة {وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} من أنواع النبات التي تزهو في نضارتها فتبهج القلوب والأبصار.