تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡـٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ} (5)

الآية 5 : وقوله تعالى : { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة } أي خلقنا أصلكم من تراب ، وخلقنا أولاده من نطفة { ثم من علقة } الآية .

تأويله ، والله أعلم ، أن كيف تشكون في البعث ، وتنكرونه ، وليس سبب إنكاركم البعث إلا أن تصيروا تراباً أو ماءً في العاقبة وقد كنتم في مبادئ أحوالكم ترابا وماء ، فكيف أنكرتم بعثكم إذا صرتم ترابا ؟ أو أن يكون معناه : أن كيف أنكرتم البعث ، وقد رأيتم /345-ب/ أنه يقلبكم من حال النطفة إلى حال العلقة ومن العلقة إلى المضغة ، ولا يقلب من حال إلى حال بلا عاقبة تقصد .

فلو لم يكن بعث كما تزعمون لكان خلقكم وتقليبكم من حال إلى حال عبثا على ما أخبر أن خلق الخلق لا للرجوع إليه عبث قوله : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون } [ المؤمنون : 115 ] صير خلق الخلق لا للرجوع إليه عبثا . فعلى ذلك الأول .

أو يكون تأويله ، والله أعلم { فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة } إلى آخر الآية . ولو اجتمع حكماء البشر وعلماؤهم ليعرفوا السبب الذي خلق البشر من ذلك التراب أو من النطفة ما قدروا عليه ، وما وجدوا للبشر فيه أثرا ولا معنى للبشرية فيه . فمن قدر على ابتداء إنشاء هذا العالم من التراب أو من النطفة من غير سبب ، يوجد فيه ، ولا أثر [ فهو قادر ]{[12898]} على إعادتهم . وإعادة الشيء في عقولكم أهون وأيسر من الابتداء . فمن قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر .

وقوله تعالى : { ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة } قال بعضهم : { مخلقة } أي تامة { وغير مخلقة } أي غير تامة خلقا ، وهو الأشبه لأن التشديد إنما يذكر لتكثير خلق{[12899]} الفعل ، والتخفيف لتقليله . فكأنه قال : { مخلقة } أي قد أتم خلقها من الجوارح والأعضاء { وغير مخلقة } أي غير تامة خلقا بل ناقصة .

وقوله تعالى : { لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى } كأن قوله : { ونقر في الأرحام ما نشاء } موصول{[12900]} بقوله : { ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة } { ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى } من ستة أشهر إلى سنتين أو ما شاء الله .

[ وقوله تعالى ] {[12901]} : { ثم نخرجكم } من الأرحام بعد الإقرار فيها { طفلا } قال بعضهم : ثم نخرج كلا منكم طفلا . وقال بعضهم : واسم الطفل يجمع ، ويفرد .

[ وقوله تعالى ] {[12902]} : { ثم لتبلغوا أشدكم } قال بعضهم : الأشد هو ثلاث وثلاثون سنة . وقال بعضهم : هو من ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة .

وأصل الأشد هو اشتداد كل شيء ، وتقوي كل شيء عنه من الجوارح والأعضاء ، وكل ما ركب فيه من العقل وغيره . ثم عند ذلك يبين لهم . ويكون قوله : { لنبين لكم } بعد هذا كله إذا بلغوا المبلغ الذي تعرفون تقليبه إياكم{[12903]} من حال إلى حال على ما ذكر .

ثم يحتمل قوله : { لنبين لكم }وجوها :

أحدها : يبين قدرته وسلطانه أن من قدر على تحويلهم من حال التراب إلى حال الإنسانية والبشرية ومن حال النطفة إلى حال العلقة ثم إلى آخر ما ذكر يقدر{[12904]} على البعث والإحياء بعدما صاروا ترابا .

والثاني{[12905]} : يبين علمه في الظلمات الثلاث التي{[12906]} كان الولد فيها : أن كيف قَلَّبَهُ من حال إلى حال في تلك الظلمات ليعلموا أنه لا يخفى عليه شيء .

والثالث{[12907]} : يبين حكمته وتدبيره في خلق الإنسان من التراب ومن النطفة ما لو اجتمع جميع الحكماء من البشر والعلماء ليعرفوا المعنى الذي به خلق الإنسان منه ، وصار به بشرا ، ما قدروا عليه ، ولا عرفوا السبب الذي به صار كذلك ليعلموا أنه حكيم بذاته وعالم قادر بذاته لا بتعليم غيره ولا بأقدار غيره .

فمن كان هذا سبيله لا يعجزه شيء ، ينشئ الأشياء من الأشياء ولا من الأشياء على ما شاء وكيف شاء .

وقوله تعالى : { ومنكم من يتوفى } أي يتوفى قبل أن يبلغ أشده . دليله : قوله : { ومنكم من يتوفى } أي من قبل أن يبلغ ذلك المبلغ ، وهو الأشد { ومنكم من يرد إلى أرذل العمر } أي إلى وقت يستقذر منه ، ويستخبث .

ليس كالصغير ، لأن الصغير والطفل مما يؤمل منه في العاقبة المنافع والزيادات ، وهذا{[12908]} لا يرجى منه ، ولا يؤمل منه العاقبة . كلما مر عليه وقت كان أضعف في عقله ونفسه . ولا كذلك الصغير ، وهو ما قال : { الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعف وشيبة } [ الروم : 54 ] .

قال القتبي : { أرذل العمر } أي الخرف والهرم .

وقوله تعالى : { لكيلا يعلم من بعد علم شيئا } أي لكيلا يعلم من بعدما كان يعلمه شيئا .

ثم ذكر قدرته وسلطانه ، فقال : { وترى الأرض هامدة } قال بعضهم : ميتة . وقيل : خاشعة ، وقيل : يابسة . وقيل : بالية .

وقوله تعالى : { فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } قال الزجاج : { وربت } من الزيادة والنماء . وكذلك قال أبو عوسجة : يقال : ربا يربو ، أي زاد ، وهو الربا ، وربوات من الارتفاع ، ربا يربو ربوة كقوله : { وآويناهما إلى ربوة ذات قرارا ومعين } [ المؤمنون : 50 ] .

ثم أضاف الاهتزاز والزيادة إلى الأرض ، وهي لا تهتز ، ولا تربو . وإنما يربو ، ويهتز ما يخرج منها من النبات . لكن أضاف ذلك إليها لما بها كان اهتزاز ذلك النبات ، وبها كان النماء ، فأضيف إليها ، أو إن كان من الارتفاع والربوة فهي ترتفع ، وتنتفخ ، وتهتز بالمطر .

وقوله تعالى : { وأنبتت من كل زوج بهيج } قيل : البهيج : الحسن . يخبر في هذا [ عن ] {[12909]} كل قدرته وسلطانه أن من قدر على إحياء الأرض بعدما كانت يابسة ميتة [ هو قادر ] {[12910]} على إحياء الموتى بعد الموت وبعدما صاروا ترابا .

وقوله تعالى : { من كل زوج بهيج } أي من كل جنس حسن بهيج ، أي يسر ، وهو فعيل بمعنى فاعل . يقال : امرأة ذات خلق باهج .

قال أبو عوسجة : الهَامِدُ البالي ، يقال : همد{[12911]} الثوب إذا بلي ، والهامد أيضا الخامد ، خمدت النار تخمد خمودا .

وقال بعضهم : قوله : { وربت } أي ضاعفت{[12912]} النبات .


[12898]:في الأصل و م: لقادر.
[12899]:في الأصل و م: خلقها.
[12900]:في الأصل و م: موصولا.
[12901]:ساقطة من الأصل و م.
[12902]:ساقطة من الأصل و م.
[12903]:في الأصل و م: وإياهم.
[12904]:في الأصل و م: قدر.
[12905]:في الأصل و م: و.
[12906]:في الأصل و م: الذي.
[12907]:في الأصل و م: أو.
[12908]:الواو ساقطة من الأصل و م.
[12909]:ساقطة من الأصل وم.
[12910]:في الأصل وم:لقادر.
[12911]:من م، في الأصل: همدت.
[12912]:في الأصل وم: أضعفت.