السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡـٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ} (5)

ثم ألزم الحجة منكري البعث بقوله تعالى : { يا أيها الناس } أي : كافة ويجوز أن يراد به المنكر فقط { إن كنتم في ريب } أي : شك وتهمة وحاجة إلى البيان { من البعث } وهو قيام الأجسام بأرواحها كما كانت قبل مماتها فتفكروا في خلقتكم الأولى لتعلموا أنّ القادر على خلقكم أوّلاً قادر على خلقكم ثانياً ، ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر مراتب الخلقة الأولى أموراً سبعة :

المرتبة الأولى : قوله تعالى : { فإنّا خلقناكم } بقدرتنا التي لا يتعاظمها شيء { من تراب } لم يسبق له اتصاف بالحياة ، وفي الخلق من تراب وجهان ؛ أحدهما : أنا خلقنا أصلكم وهو آدم عليه الصلاة والسلام من تراب كما قال تعالى : { كمثل آدم خلقه من تراب } [ آل عمران ، 59 ] ، الثاني : من الأغذية والأغذية إمّا حيوانية وإما نباتية وغذاء الحيوان ينتهي إلى النبات قطعاً للتسلسل والنبات إنما يتولد من الأرض والماء ، فصح قوله تعالى : { إنا خلقناكم من تراب } .

المرتبة الثانية : قوله تعالى : { ثم من نطفة } وحالها أبعد شيء عن حال التراب فإنها بيضاء سائلة لزجة صافية كما قال تعالى : { من ماء دافق } [ الطارق ، 6 ] وأصلها الماء القليل ؛ قاله البغوي ، وأصل النطف الصب ؛ قاله البيضاوي .

المرتبة الثالثة : قوله تعالى : { ثم من علقة } أي : قطعة دم حمراء جامدة ليس فيها أهلية للسيلان ، ولا شك أن بين الماء وبين الدم الجامد مباينة شديدة .

المرتبة الرابعة : قوله تعالى : { ثم من مضغة } أي : قطعة لحم صغيرة وهي في الأصل قدر ما يمضغ { مخلقة } أي : مسوّاة لا نقص فيها ولا عيب يقال : خلق السواك والعود سوّاه وملسه من قولهم صخرة خلقاء إذا كانت ملساء { وغير مخلقة } أي : وغير مسوّاة ، فكأنّ الله تعالى يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة وأملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصانهم ، هذا قول قتادة والضحاك ، وقال مجاهد : المخلقة الولد الذي يخرج حياً وغير المخلقة السقط ، وقال قوم : المخلقة المصوّرة وغير المخلقة غير المصوّرة ، وهو الذي يبقى لحماً من غير تخطيط وتشكيل ، واحتجوا بما روى علقمة عن عبد الله بن مسعود موقوفاً عليه قال : إن النطفة إذا استقرّت في الرحم أخذها ملك بكفه ، وقال : أي رب مخلقة أو غير مخلقة ، فإن قال : غير مخلقة قذفها في الرحم دماً ، ولم تكن نسمة ، وإن قال : مخلقة قال الملك : أي رب ذكر أم أنثى ، وشقيّ أم سعيد ، ما الأجل ما العمل ما الرزق بأي أرض تموت ؟ فيقال له : اذهب إلى أمّ الكتاب فإنك تجد فيها كل ذلك فيذهب فيجدها في أمّ الكتاب فينسخها ، فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفتها ، والذي أخرجاه في الصحيحين عنه قال : حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمّه أربعين يوماً نطفه ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله ملكاً يكتب رزقه وأجله وعمله وشقيّ أو سعيد ، ثم ينفخ فيه الروح ، فوالذي لا إله غيره إنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها » فكأنه تعالى يقول : إنما نقلناكم من حال إلى حال ، ومن خلقه إلى خلقة { لنبيّن لكم } بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا ، وإنّ من قدر على خلق البشر من التراب والماء أوّلاً ، ثم من نطفة ثانياً ، ولا تناسب بين التراب والماء وقدر على أن يجعل النطفة علقة وبينهما تباين ظاهر ، ثم يجعل العلقة مضغة والمضغة عظاماً قدر على إعادة ما أبدأه بل هو أدخل في القدرة من تلك وأهون في القياس ، وورود الفعل غير معدّى إلى المبين إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يحيط به الوصف ولا يكتنهه الذكر { ونقرّ في الأرحام } أي : من ذلك الذي خلقناه { ما نشاء } إتمامه { إلى أجل مسمى } هو وقت الوضع وأدناه بعد ستة أشهر وأقصاه آخر أربع سنين بحسب قوّة الأرحام وضعفها ، وقوّة المخلقات وضعفها وكثرة تغذيه من الدماء ، وقلته إلى غير ذلك من أحوال وشؤون لا يعلمها إلا باريها جلت قدرته وتعالت عظمته ، وما لم نشأ إقراره مجته الأرحام وأسقطته دون التمام ، أو تحرقه فيضمحل .

المرتبة الخامسة : قوله تعالى : { ثم نخرجكم طفلاً } وهو معطوف على نبين ، ومعناه خلقناكم مدرّجين هذا التدريج لغرضين أحدهما : أن نبين قدرتنا ، والثاني : أن نقرّ في الأرحام من نقرّ حتى تولدوا في حال الطفولية من صغر الجثة وضعف البدن والسمع والبصر ، وجميع الحواس لئلا تهلكوا أمهاتكم بكبر أجرامكم وعظم أجسامكم .

المرتبة السادسة : قوله تعالى : { ثم } أي : نمدّ أجلكم { لتبلغوا } بهذا الانتقال في أسنان الأجسام من الرضاع إلى المراهقة إلى البلوغ إلى الكهولة { أشدكم } أي : الكمال والقوّة ، وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين جمع شدّة كالأنعم جمع نعمة كأنه شدّة في الأمور .

المرتبة السابعة : قوله تعالى : { ومنكم من يتوفى } أي : عند بلوغ الأشدّ أو قبله { ومنكم من يردّ } بالشيخوخة وبناه للمجهول إشارة إلى سهولته عليه لاستبعاده لولا تكرار المشاهدة عند الناظر لتلك القوّة والنشاط وحسن التواصل بين أعضائه والارتباط { إلى أرذل } أي : أخس { العمر } وهو سنّ الهرم فتنقص جميع قواه { لكيلا يعلم من بعد علم } كان أوتيه { شيئاً } أي : ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما علمه وينكر من عرفه حتى يسأل عنه من ساعته يقول لك : من هذا ؟ فتقول : فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه .

فإن قيل : هذه الحالة لا تحصل للمؤمنين لقوله تعالى : { ثم رددناه أسفل سافلين 5 إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } [ التين ، 5 – 6 ] أجيب : بأن معنى قوله تعالى : { ثم رددناه أسفل سافلين } هو دلالة على الذمّ ، فالمراد به ما يجري مجرى العقوبة ، ولذلك قال تعالى : { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ، لكن قال عكرمة : من قرأ القرآن لم يصر إلى هذه الحالة ، وقد علم بعود الإنسان في ذهاب العلم وصغر الجسم إلى نحو ما كان عليه في ابتداء الخلق قطعاً أن الذي أعاده إلى ذلك قادر على إعادته بعد الممات ، ولما تم هذا الدليل على الساعة بحكم المقدّمات وأصح النتائج ، وكان أوّل الإيجاد فيه غير مشاهد ذكر الله تعالى دليلاً آخر على البعث مشاهداً بقوله : { وترى الأرض هامدة } أي : يابسة ساكنة سكون الميت { فإذا أنزلنا } أي : بما لنا من القدرة { عليها الماء اهتزت } أي : تحركت وتأهلت لإخراج النبات { وربت } أي : ارتفعت ، وذلك أوّل ما يظهر منها للعين ، وزادت ونمت بما يخرج منها من النبات الناشئ عن التراب والماء ، وقوله تعالى : { وأنبتت } مجاز ؛ لأنّ الله تعالى هو المنبت وأضيف إلى الأرض توسعاً أي : أنبتت بتقديرنا لا أنها المنبتة { من كل زوج } أي : صنف { بهيج } أي : حسن نضير من أشتات النبات في اختلاف ألوانها وطعومها وروائحها وأشكالها ومنافعها ومقاديرها ، قال الجلال المحلي : من زائدة ، ولم أرَ من ذكر ذلك من المفسرين .

تنبيه : في الآية إشارة إلى أنّ النبات كما يتوجه من نقص إلى كمال ، فكذلك الإنسان المؤمن يترقى من نقص إلى كمال ، ففي المعاد يصل إلى كماله الذي أعدّ له من البقاء والغنى والعلم والصفاء والخلود في دار السلام مبرأ عن عوارض هذا العالم ،