البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡـٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ} (5)

المضغة : اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ .

المخلقة : المسوّاة الملساء لا نقص ولا عيب فيها ، يقال : خلق السواك والعود سوّاه وملسه ، من قولهم : صخرة خلقاء أي ملساء .

الطفل : يقال من وقت انفصال الولد إلى البلوغ ، ويقال لولد الوحشية طفل ، ويوصف به المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد ، ويقال أيضاً طفل وطفلان وأطفال وأطفلت المرأة صارت ذا طفل ، والطفل بفتح الطاء الناعم ، وجارية طفلة ناعمة ، وبنان طفل ، وقد طفل الليل أقبل ظلامه ، والطفل بالتحريك بعد العصر إذا طفلت الشمس للغروب ، والطفل أيضاً مطر . وقال المبرد : هو اسم يستعمل مصدراً كالرضا والعدل يقع على الواحد والجمع .

همدت الأرض : يبست ودرست ، والثوب بلي انتهى . وقال الأعشى :

قالت قتيلة ما لجسمك شاحبا *** وأرى ثيابك باليات همدا

البهيج : الحسن السارّ للناظر ، يقال : فلان ذو بهجة أي حسن ، وقد بهج بالضم بهاجة وبهجة فهو بهيج ، وأبهجني : أعجبني بحسنه .

ولما ذكر تعالى من يجادل في قدرة الله بغير علم وكان جدالهم في الحشر والمعاد ذكر دليلين واضحين على ذلك أحدهما في نفس الإنسان وابتداء خلقه ، وتطوره في مراتب سبع وهي التراب ، والنطفة ، والعلقة ، والمضغة ، والإخراج طفلاً ، وبلوغ الأشدّ ، والتوفي أو الرد إلى الهرم .

والثاني في الأرض التي تشاهدون تنقلها من حال إلى حال فإذا اعتبر العاقل ذلك ثبت عنده جوازه عقلاً فإذا ورد خبر الشرع بوقوعه وجب التصديق به وأنه واقع لا محالة .

وقرأ الحسن { من البَعث } بفتح العين وهي لغة فيه كالحلب والطرد في الحلب والطرد ، والكوفيون إسكان العين عندهم تخفيف يقيسونه فيما وسطه حرف حلق كالنهر والنهر والشعر والشعر ، والبصريون لا يقيسونه وما ورد من ذلك هو عندهم مما جاء فيه لغتان .

والمعنى إن ارتبتم في البعث فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم { من تراب } أي أصلكم آدم وسلط الفعل عليهم من حيث هم من ذريته ، أو باعتبار وسائط التولد لأن المني ودم الطمث يتولدان من الأغذية والأغذية حيوان ونبات ، والحيوان يعود إلى النبات ، والنبات من الأرض والماء والنطفة المني .

وقيل { نطفة } آدم قاله النقاش .

والعلقة قطعة الدم الجامدة ومعنى { وغير مخلقة } أي ليست كاملة ولا ملساء فالمضغ متفاوتة لذلك تفاوتوا طولاً وقصراً وتماماً ونقصاناً .

وقال مجاهد { غير مخلقة } هي التي تستسقط وقاله قتادة والشعبي وأبو العالية .

ولما كان الإنسان فيه أعضاء متباينة وكل واحد منها مختص بخلق حسن تضعيف الفعل لأن فيه خلقاً كثيرة .

وقرأ ابن أبي عبلة { مخلقة } بالنصب وغير بالنصب أيضاً نصباً على الحال من النكرة المتقدمة ، وهو قليل وقاسه سيبويه .

قال الزمخشري : و { لنبين لكم } بهذا التدريج قدرتنا وإن من قدر على خلق البشر { من تراب } أولاً { ثم من نطفة } ثانياً ولا تناسب بين التراب والماء ، وقدر على أن يجعل النطفة { علقة } وبينهما تباين ظاهر ثم يجعل العلقة { مضغة } والمضغة عظاماً قدر على إعادة ما أبداه ، بل هذا أدخل في القدرة وأهون في القياس وورود الفعل غير معدي إلى المبين إعلام بأن أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وعلمه ما لا يكتنهه الفكر ولا يحيط به الوصف انتهى .

و { لنبين } متعلق بخلقناكم .

وقيل { لنبين } لكم أمر البعث .

قال ابن عطية : وهو اعتراض بين الكلامين .

وقال الكرماني : يعني رشدكم وضلالكم .

وقيل { لنبين لكم } أن التخليق هو اختيار من الفاعل المختار ، ولولاه ما صار بعضه غير مخلق .

وقرأ ابن أبي عبلة ليبين لكم ويقر بالياء .

وقرأ يعقوب وعاصم في رواية { ونقر } بالنصب عطفاً على { لنبين } .

وعن عاصم أيضاً ثم يخرجكم بنصب الجيم عطفاً على { ونقر } إذا نصب .

وعن يعقوب { ونقر } بفتح النون وضم القاف والراء من قر الماء صبه .

وقرأ أبو زيد النحوي ويقر بفتح الياء والراء وكسر القاف وفي الكلام لابن حبار { لنبين } { ونقر } { ونخرجكم } بالنصب فيهن .

المفضل وبالياء فيهما مع النصب ، أبو حاتم وبالياء والرفع عمر بن شبة انتهى .

قال الزمخشري : والقراءة بالرفع إخبار بأنه تعالى يقر في الأرحام ما يشاء أن يقره من ذلك .

{ إلى أجل مسمى } وهو وقت الوضع وما لم يشأ إقراره مجته الأرحام أو أسقطته .

والقراءة بالنصب تعليل معطوف على تعليل والمعنى { خلقناكم } مدرجين هذا التدريج لغرضين أحدهما : أن نبين قدرتنا والثاني أن { نقر في الأرحام } من نقر حتى يولدوا وينشؤوا ويبلغوا حد التكليف فأكلفهم .

ويعضد هذه القراءة قوله { ثم لتبلغوا أشدكم } انتهى .

وقرأ يحيى بن وثاب { ما نشاء } بكسر النون والأجل المسمى مختلف فيه بحسب جنين جنين فساقط وكامل أمره خارج حياً ووحد { طفلاً } لأنه مصدر في الأصل قاله المبرد والطبري ، أو لأن الغرض الدلالة على الجنس ، أو لأن معنى يخرجكم كل واحد كقولك : الرجال يشبعهم رغيف أي يشبع كل واحد .

وقال الزمخشري : الأشد كمال القوة والعقل والتمييز ، وهو من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل لها واحد كالأشدة والقيود وغير ذلك وكأنها مشدة في غير شيء واحد فبنيت لذلك على لفظ الجمع انتهى .

وتقدم الكلام في الأشد ومقداره من الزمان .

وإن من الناس من قال إنه جمع شدة كأنعم جمع نعمة وأما القيود : فعن أبي عمرو الشيباني إن واحدة قيد { ومنكم من يتوفى } وقرىء { يتوفى } بفتح الياء أي يُسْتَوْفَى أجله ، والجمهور بالضم أي بعد الأشد وقبل الهرم ، وهو { أرذل العمر } والخرف ، فيصير إلى حالة الطفولية ضعيف البنية سخيف العقل ، ولا زمان لذلك محدود بل ذلك بحسب ما يقع في الناس وقد نرى من علت سنه وقارب المائة أو بلغها في غاية جودة الذهن والإدراك مع قوة ونشاط ، ونرى من هو في سن الاكتهال وقد ضعفت بنيته أوضح تعالى أنه قادر على إنهائه إلى حالة الخرف كما أنه كان قادراً على تدريجه إلى حالة التمام ، فكذلك هو قادر على إعادة الأجساد التي درجها في هذه المناقل وإنشائها النشأة الثانية .

و { لكيلا } يتعلق بقوله { يرد } قال الكلبي { لكيلا } يعقل من بعد عقله الأول شيئاً .

وقيل { لكيلا } يستفيد علماً وينسى ما علمه .

وقال الزمخشري : أي ليصير نسَّاءً بحيث إذا كسب علماً في شيء لم ينشب أن ينساه ويزل عنه علمه حتى يسأل عنه من ساعته ، يقول لك من هذا ؟ فتقول : فلان فما يلبث لحظة إلا سألك عنه .

وروى عن أبي عمرو ونافع تسكين ميم { العمر } .

{ وترى الأرض هامدة } هذا هو الدليل الثاني الذي تضمنته ، والدليل الأول الآية ، ولما كان الدليل الأول بعض مراتب الخلقة فيه غير مرتبين قال { إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم } فلم يحل في جميع رتبه على الرؤية ، ولما كان هذا الدليل الثاني مشاهداً للأبصار أحال ذلك على الرؤية فقال { وترى } أيها السامع أو المجادل { الأرض هامدة } ولظهوره تكرر هذا الدليل في القرآن و { الماء } ماء المطر والأنهار والعيون والسواني واهتزازها تخلخلها واضطراب بعض أجسامها لأجل خروج النبات { وربت } أي زادت وانتفخت .

وقرأ أبو جعفر وعبد الله بن جعفر وخالد بن إلياس وأبو عمرو في رواية وربأت بالهمز هنا وفي فصلت أي ارتفعت وأشرفت ، يقال : فلان يربأ بنفسه عن كذا : أي يرتفع بها عنه .

قال ابن عطية : ووجهها أن يكون من ربأت القوم إذا علوت شرفاً من الأرض طليعة فكان الأرض بالماء تتطاول وتعلو انتهى .

ويقال ربيء وربيئة .

وقال الشاعر :

بعثنا ربيئاً قبل ذلك مخملاً *** كذئب الغضا يمشي الضراء ويتقى