فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡـٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ} (5)

ثم ذكر سبحانه ما هو المقصود من الاحتجاج على الكفار بعد فراغه من تلك المقدمة فقال :

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ( 5 ) } .

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ } قرأ الجمهور بسكون العين وقرئ بفتحها وهي لغة ، وشكهم يحتمل أن يكون في وقوعه أو في مكانه . والمعنى إن كنتم في شك من الإعادة بعد الموت فانظروا في مبدأ خلقكم أي خلق أبيكم آدم ليزول عنكم الريب ويرتفع الشك وتدحض الشبهة الباطلة .

{ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ } في ضمن خلق أبيكم آدم وهذا أول تطور الإنسان في أطوار سبعة وهي التراب والنطفة والعلقة والمضغة والإخراج طفلا وبلوغ الأشد والتوفي أو الرد إلى أرذل العمر كما سيأتي تفصيل ذلك { ثم } خلقناكم { من نطفة } أي من مني سمي نطفة لقلته والنطفة القليل من الماء ، وقد يقع على الكثير منه والنطفة القطرة ، يقال نطف ينطف أي قطر ، وليلة نطوف أي دائمة القطر { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } وهي الدم الجامد والعلق الدم العبيط أي الطري أو المتجمد وقيل الشديد الحمرة ، والمراد الدم الجامد المتكون من مني { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } وهي القطعة من اللحم قدر ما يمضغ الماضي يتكون من العلقة { مخلقة } أي مستبينة الخلق ظاهرة التصوير { وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } أي لم يستبن خلقها ولا ظهر تصويرها .

قال ابن عباس : المخلقة ما كان حيا تام وغير المخلقة ما كان سقطا ، وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين ، وقال ابن الأعرابي : مخلقة يريد قد بدا خلقه وغير مخلقة لم تصور ، قال الأكثر ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه فهو المخلقة وهو الذي ولد لتمام ، وما سقط كان غير مخلقة أي غير حي بإكمال خلقته بالروح ، قال الفراء : مخلقة تام الخلق وغير مخلقة السقط .

وأخرج البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم ، عن ابن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها " {[1227]} ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدا .

{ لنبين لكم } أي خلقناكم على هذا النمط البديع ، لنبين لكم ، كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم لتستدلوا بها في ابتداء الخلق على إعادته { ونقر } مستأنف أي نثبت { فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء } فلا يكون سقطا ، ولم يقل من نشاء لأنه يرجع إلى الحمل وهو جماد قبل أن ينفخ فيه الروح ، وقرئ ما نشاء بكسر النون { إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } وهو وقت الولادة { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ } من بطون أمهاتكم { طفلا } أي أطفالا وإنما أفرده إرادة للجنس الشامل للواحد والمتعدد .

قال الزجاج : طفلا في معنى أطفالا ، ودل عليه ذكر الجماعة ، يعني في { نخرجكم } والعرب كثيرا ما تطلق اسم واحد على الجماعة ، والمعنى نخرج كل واحد منكم نحو القوم يشبعهم رغيف أي كل واحد منهم .

وقال المبرد : هو اسم يستعمل مصدرا كالرضا والعدل ، فيقع على الواحد ، والجمع قال الله تعالى : { أو الطفل الذين لم يظهروا } ؛ ثم قيل نصبه على التمييز ، قاله ابن جرير وفيه بعد ، والظاهر أنه على الحال والطفل يطلق على الولد الصغير من وقت انفصاله إلى البلوغ ، وأما الطفل بالفتح فهو الناعم والمرأة طفلة .

{ ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ } كأنه قيل نخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا ، ثم لتبلغوا إلى الأشد ، وقيل أن ثم زائدة ، والأشد هو كمال العقل ، وكمال القوة والتمييز ، قيل وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين ، وهو في الأصل جمع شدة كأنعم جمع نعمة ، وقد تقدم الكلام على هذا مستوفي في الأنعام { وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى } أي يموت قبل بلوغ الأشد الكبر ، وقرئ مبنيا للفاعل أيضا .

{ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ } أي أخسه وأدونه وهو الهرم والخرف وهو خمس وسبعون سنة قاله علي ، وقيل ثمانون سنة ، وقال قتادة : تسعون سنة حتى لا يعقل ، ولهذا قال سبحانه { لِكَيْلَا يَعْلَمَ } أي يعقل { من بعد علم } أي بعد عقله الأول { شيئا } من الأشياء أو شيئا من العلم ، والمعنى أنه يصير من بعد ان كان ذا علم بالأشياء وفهم لها لا علم له ولا فهم كهيئته الأولى في أوان الطفولية من سخافة الرأي وقلة الفقه والعقل والفهم فينسى ما يعلمه ، وينكر ما يعرفه ، ومثله قوله تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين } وقوله : { ومن نعمره ننكسه في الخلق } قال عكرمة : من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة أي فهذا الرد والنكس خاص بغير قارئ القرآن والعلماء ، وأما هؤلاء فلا يردون في آخر عمرهم إلى الأرذل بل يزداد عقلهم كلما طال عمرهم .

{ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً } هذه حجة أخرى على البعث فإنه سبحانه احتج بإحياء الأرض بإنزال الماء على إحياء الأموات ، والهامدة اليابسة التي لا تنبت شيئا ، قال ابن قتيبة : أي ميتة يابسة كالنار إذا طفئت ، وقيل دارسة ، والهمود السكون والخشوع والدروس ، وقيل هي التي ذهب عنها الندى ، وقيل هالكة ، ومعاني هذه الأقوال متقاربة .

{ فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء } أي ماء المطر والأنهار والبحار والعيون والسواقي { اهتزت } أي تحركت في رأي العين ، والاهتزاز شدة الحركة ، يقال هززت الشيء فاهتز أي حركته فتحرك ، والمعنى تحركت بالنبات ، لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة حقيقية ، فسماه اهتزازا مجازا ، وقال المبرد المعني اهتز نباتها ، واهتزازه شدة حركته ، والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض { وربت } أي ارتفعت ، وقيل انتفخت وزادت ، والمعنى واحد وأصله الزيادة ، يقال : ربا الشيء يربو ربوا إذا زاد ، ومنه الربا والربوة وربأت أي ارتفعت حتى صارت بمنزلة الرابية ، وهو الذي يحفظ القوم على مكان مشرف ، ويقال له راب ورابية وربيئة .

{ وأنبتت } أي أخرجت { مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أي من كل صنف حسن ولون مستحسن سار للناظرين إليه والبهجة الحسن ، قاله ابن عباس ، يعني الشيء المشرق الجميل و { من } زائدة ، والإسناد مجازي ، لأن المنبت في الحقيقة هو الله تعالى .


[1227]:مسلم 2643 ـ البخاري 1514.