محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡـٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ} (5)

ثم بين تعالى الحجة القاطعة لما يجادلون فيه ، بقوله :

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ } أي من إمكانه وكونه مقدورا له تعالى . أو من وقوعه { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ } أي خلقنا أول آبائكم ، او أول موادكم وهو المني ، من تراب . إذ خلق من أغذية متولدة منه . وغاية أمر البعث أنه خلق من التراب { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } أي تولدت من الأغذية الترابية { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } أي قطعة من دم جامد { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } أي قطعة من اللحم بقدر ما يمضغ { مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } أي مصورة وغير مصورة . والمراد تفصيل حال المضغة وكونها أولا قطعة لم يظهر فيها شيء من الأعضاء . ثم ظهرت بعد ذلك شيئا فشيئا { لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ } أي بهذا التدرج ، قدرتنا وحكمتنا ، وأن ما قبل التغير والفساد والتكون مرة ، قبلها أخرى . وأن من قدر على تغييره وتصويره أولا ، قدر على ذلك ثانيا . { وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى } وهو وقت الوضع .

قال أبو السعود : استئناف مسوق لبيان حالهم ، بعد تمام خلقهم . وعدم نظم هذا وما عطف عليه في سلك الخلق المعلل بالتبيين ، مع كونهما من متمماته ، ومن مبادئ التبيين أيضا . لما أن دلالة الأول على كمال قدرته تعالى على جميع المقدورات ، التي من جملتها البعث المبحوث عنه ، أجلى وأظهر . أي ونحن نقر في الأرحام بعد ذلك ما نشاء أن نقره فيها إلى أجل مسمى .

{ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ } أي كمال قوتكم وعقلكم . قال أبو السعود علة ل { نُخْرِجُكُمْ } معطوفة على علة أخرى مناصبة لها . كأنه قيل : ثم نخرجكم لتكبروا شيئا فشيئا . ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والتمييز { وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى } أي بعد بلوغ الأشد أو قبله { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ } وهو الهرم والخرف والأرذل الأردأ { لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا } أي من بعد علم كثير ، شيئا من الأشياء ، أو شيئا من العلم ، مبالغة في انتقاص علمه وانتكاس حاله واللام لام العاقبة .

قال البيضاوي : والآية – يعني { ثم نخرجكم } إلخ – استدلال ثان على إمكان البعث ، بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة . فإن من قدر على ذلك قدر على نظائره .

ثم أشار تعالى إلى حجة أخرى على صحة البعث ، بقوله : { وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً } أي ميتة يابسة ، { فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء } أي المطر { اهْتَزَّتْ } أي تحركت بالنبات { وَرَبَتْ } أي انتفخت وعلت ، لما يتداخلها من الماء ويعلو من نباتها { وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ } أي صنف { بَهِيجٍ } أي حسن رائق يسر ناظره وهذه الحجة الثالثة ، لظهورها وكونها مشاهدة معاينة ، يكررها الله تعالى في كتابه الكريم .