فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّنَ ٱلۡبَعۡثِ فَإِنَّا خَلَقۡنَٰكُم مِّن تُرَابٖ ثُمَّ مِن نُّطۡفَةٖ ثُمَّ مِنۡ عَلَقَةٖ ثُمَّ مِن مُّضۡغَةٖ مُّخَلَّقَةٖ وَغَيۡرِ مُخَلَّقَةٖ لِّنُبَيِّنَ لَكُمۡۚ وَنُقِرُّ فِي ٱلۡأَرۡحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَىٰٓ أَجَلٖ مُّسَمّٗى ثُمَّ نُخۡرِجُكُمۡ طِفۡلٗا ثُمَّ لِتَبۡلُغُوٓاْ أَشُدَّكُمۡۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرۡذَلِ ٱلۡعُمُرِ لِكَيۡلَا يَعۡلَمَ مِنۢ بَعۡدِ عِلۡمٖ شَيۡـٔٗاۚ وَتَرَى ٱلۡأَرۡضَ هَامِدَةٗ فَإِذَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡهَا ٱلۡمَآءَ ٱهۡتَزَّتۡ وَرَبَتۡ وَأَنۢبَتَتۡ مِن كُلِّ زَوۡجِۭ بَهِيجٖ} (5)

ثم ذكر سبحانه ما هو المقصود من الاحتجاج على الكفار بعد فراغه من تلك المقدّمة ، فقال : { يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ منَ البعث } قرأ الحسن : «البعث » بفتح العين وهي لغة ، وقرأ الجمهور بالسكون ، وشكهم يحتمل أن يكون في وقوعه أو في إمكانه . والمعنى : إن كنتم في شكّ من الإعادة فانظروا في مبدأ خلقكم ، أي خلق أبيكم آدم ، ليزول عنكم الريب ، ويرتفع الشكّ وتدحض الشبهة الباطلة { فَإِنَّا خلقناكم من تُرَابٍ } في ضمن خلق أبيكم آدم «ثُمَّ » خلقناكم { مِن نُطْفَةٍ } أي من منيّ ، سمي نطفة لقلته ، والنطفة : القليل من الماء . وقد يقع على الكثير منه ، والنطفة : القطرة ، يقال : نطف ينطف ، أي قطر . وليلة نطوف ، أي دائمة القطر { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } والعلقة : الدم الجامد ، والعلق : الدم العبيط ، أي الطريّ أو المتجمد ، وقيل : الشديد الحمرة والمراد : الدم الجامد المتكوّن من المنيّ { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } وهي القطعة من اللحم ، قدر ما يمضغ الماضغ تتكوّن من العلقة { مُّخَلَّقَةٍ } بالجرّ صفة لمضغة ، أي مستبينة الخلق ظاهرة التصوير { وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } أي : لم يستبن خلقها ولا ظهر تصويرها . قال ابن الأعرابي : مخلقة يريد قد بدأ خلقه ، وغير مخلقة : لم تصوّر . قال الأكثر : ما أكمل خلقه بنفخ الروح فيه فهو المخلقة وهو الذي ولد لتمام ، وما سقط كان غير مخلقة أي غير حيّ بإكمال خلقته بالروح . قال الفراء : مخلقة : تامّ الخلق ، وغير مخلقة : السقط ، ومنه قول الشاعر :

أفي غير المخلقة البكاء *** فأين الحزم ويحك والحياء

واللام في { لنُبَيّنَ لَكُمْ } متعلق بخلقنا ، أي خلقناكم على هذا النمط البديع لنبين لكم كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم { وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَاء } روى أبو حاتم عن أبي زيد عن المفضل عن عاصم أنه قرأ بنصب " نقرّ " عطفاً على " نبين " ، وقرأ الجمهور : «نقر » بالرفع على الاستئناف ، أي ونحن نقرّ . قال الزجاج : نقرّ بالرفع لا غير ، لأنه ليس المعنى فعلنا ذلك لنقرّ في الأرحام ما نشاء ، ومعنى الآية : ونثبت في الأرحام ما نشاء فلا يكون سقطاً { إلى أَجَلٍ مُسَمًّى } وهو وقت الولادة ، وقال ما نشاء ، ولم يقل : من نشاء ، لأنه يرجع إلى الحمل وهو جماد قبل أن ينفخ فيه الروح ، وقرئ «ليبين » «ويقرّ » و«يخرجكم » بالتحتية في الأفعال الثلاثة ، وقرأ ابن أبي وثاب : «ما نشاء » بكسر النون { ثُمَّ نُخْرِجكُمْ طِفْلاً } أي نخرجكم من بطون أمهاتكم طفلاً ، أي أطفالاً ، وإنما أفرده إرادة للجنس الشامل للواحد والمتعدد . قال الزجاج : طفلاً في معنى أطفالاً ، ودلّ عليه ذكر الجماعة : يعني في : نخرجكم ، والعرب كثيراً ما تطلق اسم الواحد على الجماعة ، ومنه قول الشاعر :

يليحنني من حبها ويلمنني *** إن العواذل لسن لي بأمير

وقال المبرد : هو اسم يستعمل مصدراً كالرضا والعدل ، فيقع على الواحد والجمع ، قال الله سبحانه : { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُوا } [ النور : 31 ] . قال ابن جرير : هو منصوب على التمييز كقوله : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْء منْهُ نَفْساً } [ النساء : 4 ] . وفيه بعد ، والظاهر انتصابه على الحال بالتأويل المذكور ، والطفل يطلق على الصغير من وقت انفصاله إلى البلوغ { ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ } قيل : هو علة لنخرجكم معطوف على علة أخرى مناسبة له ، كأنه قيل : نخرجكم لتكبروا شيئاً فشيئاً ثم لتبلغوا إلى الأشدّ ؛ وقيل : إن " ثم " زائدة والتقدير : لتبلغوا ؛ وقيل : إنه معطوف على " نبين " . والأشدّ هو : كمال العقل وكمال القوّة والتمييز . قيل : وهو ما بين الثلاثين إلى الأربعين . وقد تقدم الكلام في هذا مستوفى في الأنعام { وَمِنكُمْ مَن يتوفى } يعني : قبل بلوغ الأشدّ ، وقرئ «يتوفّى » مبنياً للفاعل . وقرأ الجمهور : «يتوفى » مبنياً للمفعول { وَمِنكُم مَن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } أي أخسه وأدونه ، وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل ، ولهذا قال سبحانه : { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } أي شيئاً من الأشياء ، أو شيئاً من العلم ، والمعنى : أنه يصير من بعد أن كان ذا علم بالأشياء وفهم لها ، لا علم له ولا فهم ، ومثله قوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رددناه أَسْفَلَ سافلين } [ التين : 4 ، 5 ] ، وقوله : { وَمَن نّعَمّرْهُ نُنَكّسْهُ فِي الخلق } [ يس : 68 ] . { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً } هذه حجة أخرى على البعث ، فإنه سبحانه احتج بإحياء الأرض بإنزال الماء على إحياء الأموات ، والهامدة : اليابسة التي لا تنبت شيئاً ، قال ابن قتيبة : أي ميتة يابسة كالنار إذا طفئت . وقيل : دارسة ، والهمود : الدروس ، ومنه قول الأعشى :

قالت قتيلة ما لجسمك شاحباً *** وأرى ثيابك باليات همودا

وقيل : هي التي ذهب عنها الندى ؛ وقيل : هالكة ، ومعاني هذه الأقوال متقاربة { فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ } المراد بالماء هنا : المطر ، ومعنى : اهتزّت : تحركت . والاهتزاز : شدّة الحركة ، يقال : هززت الشيء فاهتزّ ، أي حركته فتحرك ، والمعنى : تحركت بالنبات ؛ لأن النبات لا يخرج منها حتى يزيل بعضها من بعض إزالة حقيقة ، فسماه اهتزازاً مجازاً . وقال المبرد : المعنى : اهتزّ نباتها فحذف المضاف . واهتزازه شدة حركته ، والاهتزاز في النبات أظهر منه في الأرض . ومعنى ربت : ارتفعت ، وقيل : انتفخت . والمعنى واحد ، وأصله : الزيادة ، يقال : ربا الشيء يربو ربواً : إذا زاد ، ومنه الربا والربوة . وقرأ يزيد بن القعقاع وخالد بن إلياس : «وربأت » أي ارتفعت حتى صارت بمنزلة الرابية ، وهو الذي يحفظ القوم على مكان مشرف يقال له : رابىء ورابئة وربيئة { وَأَنبَتَتْ } أي أخرجت { مِن كُلّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أي من كلّ صنف حسن ولون مستحسن ، والبهجة : الحسن .

/خ7