معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (23)

قوله تعالى : { وإن كنتم في ريب } . أي وإن كنتم في شك ، لأن الله تعالى عليم أنهم شاكون .

قوله تعالى : { مما نزلنا } . يعني القرآن .

قوله تعالى : { على عبدنا } . محمد .

قوله تعالى : { فأتوا } . أمر تعجيز .

قوله تعالى : { بسورة } . والسورة قطعة من القرآن معلومة الأول والآخر ، من أسأرت أي أفضلت ، حذفت الهمزة ، وقيل : السورة اسم للمنزلة الرفيعة ، ومنه سور البلد لارتفاعه ، سميت سورة لأن القارئ ينال بقراءتها منزلة رفيعة حتى يستكمل المنازل باستكماله سور القرآن .

قوله تعالى : { من مثله } . أي مثل القرآن ومن ، صلة كقوله تعالى : ( قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ) وقيل : الهاء في مثله راجعة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، يعني : من مثل محمد صلى الله عليه وسلم أمي لا يحسن الخط والكتابة .

قوله تعالى : { وادعوا شهداءكم } . أي واستعينوا بآلهتكم التي تعبدونها .

قوله تعالى : { من دون الله } . وقال مجاهد : ناساً يشهدون لكم .

قوله تعالى : { إن كنتم صادقين } أن محمداً صلى الله عليه وسلم تقوّله من تلقاء نفسه فلما تحداهم عجزوا فقال { فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين } .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (23)

{ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة } لما قرر وحدانيته تعالى وبين الطريق الموصل إلى العلم بها ، ذكر عقيبه ما هو الحجة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو القرآن المعجز بفصاحته التي بذت فصاحة كل منطق وإفحامه ، من طولب بمعارضته من مصاقع الخطباء من العرب العرباء مع كثرتهم وإفراطهم في المضادة والمضارة ، وتهالكهم على المعازة والمعارة ، وعرف ما يتعرف به إعجازه ويتيقن أنه من عند الله كما يدعيه . وإنما قال : { مما نزلنا } لأن نزوله نجما منجما بحسب الوقائع على ما ترى عليه أهل الشعر والخطابة مما يريبهم ، كما حكى الله عنهم فقال { وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } . فكان الواجب تحديهم على هذا الوجه إزاحة للشبهة وإلزاما للحجة ، وأضاف العبد إلى نفسه تعالى تنويها بذكره ، وتنبيها على أنه مختص به منقاد لحكمه تعالى ، وقرئ " عبادنا " يريد محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته . والسورة الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات ، وهي إن جعلت واوها أصلية منقولة من سور المدينة لأنها محيطة بطائفة من القرآن مفرزة محوزة على حيالها ، أو محتوية على أنواع من العلم احتواء سور المدينة على ما فيها ، أو من السورة التي هي الرتبة ، قال النابغة :

ولرهط حراب وقد سورة *** في المجد ليس غرابها بمطار

لأن السور كالمنازل والمراتب يترقى فيها القارئ ، أولها مراتب في الطول والقصر والفضل والشرف وثواب القراءة . وإن جعلت مبدلة من الهمزة فمن السورة التي هي البقية والقطعة من الشيء . والحكمة في تقطيع القرآن سورا : إفراد الأنواع ، وتلاحق الأشكال ، وتجاوب النظم ، وتنشيط القارئ وتسهيل الحفظ ، والترغيب فيه . فإنه إذا ختم سورة نفس ذلك عنه ، كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلا أو طوى بريدا ، والحافظ متى حذفها اعتقد أنه أخذ من القرآن حظا تاما ، وفاز بطائفة محدودة مستقلة بنفسها ، فعظم ذلك عنده وابتهج به إلى غير ذلك من الفوائد .

{ من مثله } صفة سورة أي : بسورة كائنة من مثله ، والضمير لما نزلنا ، و{ من } للتبعيض أو للتبيين . وزائدة عند الأخفش أي بسورة مماثلة للقرآن العظيم في البلاغة وحسن النظم . أو لعبدنا ، و{ من } للابتداء أي : بسورة كائنة ممن هو على حاله عليه الصلاة والسلام من كونه بشرا أميا لم يقرأ الكتب ولم يتعلم العلوم . أو صلة { فأتوا } ، والضمير للعبد صلى الله عليه وسلم ، والرد إلى المنزل أوجه لأنه المطابق لقوله تعالى : { فأتوا بسورة من مثله } ولسائر آيات التحدي ، ولأن الكلام فيه لا في المنزل عليه فحقه أن لا ينفك عنه ليتسق الترتيب والنظم ، ولأن مخاطبة الجم الغفير بأن يأتوا بمثل ما أتى به واحد من أبناء جلدتهم أبلغ في التحدي من أن يقال لهم : ليأت بنحو ما أوتي به هذا آخر مثله ، ولأنه معجز في نفسه لا بالنسبة إليه لقوله تعالى : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } . ولأن رده إلى عبدنا يوهم إمكان صدوره ممن لم يكن على صفته ، ولا يلائمه قوله تعالى .

{ وادعوا شهداءكم من دون الله } فإنه أمر بأن يستعينوا بكل من ينصرهم ويعينهم . والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر ، أو القائم بالشهادة ، أو الناصر ، أو الإمام . وكأنه سمي به لأنه يحضر النوادي وتبرم بمحضره الأمور ، إذ التركيب للحضور إما بالذات أو بالتصور ، ومنه قيل : للمقتول في سبيل الله شهيد لأنه حضر ما كان يرجوه ، أو الملائكة حضروه . ومعنى { دون } أدنى مكان من الشيء ومنه تدوين الكتب ، لأنه إدناء البعض من البعض ، ودونك هذا أي : خذه من أدنى مكان منك ، ثم استعير للرتب فقيل : زيد دون عمرو أي : في الشرف ومنه الشيء الدون ، ثم اتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد وتخطي أمر إلى آخر ، قال تعالى : { لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين } أي لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين . قال أمية :

يا نفس مالك دون الله من واق *** . . .

أي إذا تجاوزت وقاية الله فلا يقيك غيره ، و{ من } متعلقة ب{ ادعوا } . والمعنى { وادعوا } للمعارضة من حضركم ، أو رجوتم معونته من إنسكم وجنكم وآلهتكم غير الله سبحانه وتعالى ، فإنه لا يقدر على أن يأتي بمثله إلا الله . أو { وادعوا } من دون الله شهداء يشهدون لكم بأن ما أتيتم به مثله ، ولا تستشهدوا بالله فإنه من ديدن المبهوت العاجز عن إقامة الحجة . أو ب{ شهدائكم } أي الذين اتخذتموهم من دون الله أولياء وآلهة ، وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة . أو الذين يشهدون لكم بين يدي الله تعالى على زعمكم من قول الأعشى :

تريك القذى من دونها وهي دونه *** . . .

ليعينوكم وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد في معارضة القرآن العزيز غاية التبكيت والتهكم بهم . وقيل : { من دون الله } أي من دون أوليائه ، يعني فصحاء العرب ووجوه المشاهد ليشهدوا لكم أن ما أتيتم به مثله ، فإن العاقل لا يرضى لنفسه أن يشهد بصحة ما اتضح فساده وبان اختلاله .

{ إن كنتم صادقين } أنه من كلام البشر ، وجوابه محذوف دل عليه ما قبله . والصدق : الإخبار المطابق ، وقيل : مع اعتقاد المخبر أنه كذلك عن دلالة أو أمارة ، لأنه تعالى كذب المنافقين في قولهم : { إنك لرسول الله } ، لما لم يعتقدوا مطابقته ، ورد بصرف التكذيب إلى قولهم { نشهد } ، لأن الشهادة إخبار عما علمه وهم ما كانوا عالمين به .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (23)

انتقال لإثبات الجزء الثاني من جزئي الإيمان بعد أن تم إثبات الجزء الأول من ذلك بما قدمه من قوله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } [ البقرة : 21 ] الخ . فتلك هي المناسبة التي اقتضت عطف هذه الجملة على جملة : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم ، } ولأن النهي عن أن يجعلوا لله أنداداً جاء من عند الله فهم بمظنة أن ينكروا أن الله نهى عن عبادة شفعائه ومقربيه لأنهم من ضَلالهم كانوا يدَّعون أن الله أمرهم بذلك قال تعالى : { وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم } [ الزخرف : 20 ] فقد اعتلوا لعبادة الأصنام بأن الله أقامها وسائط بينه وبينهم ، فزادت بهذا مناسبةُ عطف قوله : { وإن كنتم في ريب } عقب قوله : { فلا تجعلوا لله أنداداً } [ البقرة : 22 ] . وأتى بإنْ في تعليق هذا الشرط وهو كونهم في ريب وقد علم في فن المعاني اختصاص إن بمقام عدم الجزم بوقوع الشرط ، لأن مدلول هذا الشرط قد حَفَّ به من الدلائل ما شأنه أن يقلَع الشرط من أصله بحيث يكون وقوعه مفروضاً فيكون الإتيان بإن مع تحقق المخاطب علم المتكلم بتحقق الشرط توبيخاً على تحقق ذلك الشرط ، كأن ريبهم في القرآن مستضعف الوقوع .

ووجه ذلك أن القرآن قد اشتطت ألفاظه ومعانيه على ما لو تدبره العقل السليم لجزم بكونه من عند الله تعالى فإنه جاء على فصاحة وبلاغة ما عهدوا مثلهما من فحول بلغائهم ، وهم فيهم متوافرون متكاثرون حتى لقد سجد بعضهم لبلاغته واعترف بعضهم بأنه ليس بكلام بشر . وقد اشتمل من المعاني على ما لم يطرقه شعراؤهم وخطباؤهم وحكماؤهم ، بل وعلى ما لم يبلغ إلى بعضه علماء الأمم . ولم يزل العلم في طول الزمان يظهر خبايا القرآن ويبرهن على صدق كونه من عند الله فهذه الصفات كافية لهم في إدراك ذلك وهم أهل العقول الراجحة والفطنة الواضحة التي دلت عليها أشعارهم وأخبارهم وبداهتهم ومناظرتهم ، والتي شهد لهم بها الأمم في كل زمان ، فكيف يبقى بعد ذلك كله مسلك للريب فيه إليهم فضلاً عن أن يكونوا منغمسين فيه .

ووجه الإتيان بفي الدالة على الظرفية الإشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط بهم إحاطة الظرف بالمظروف . واستعارة { في } لمعنى الملابسة شائعة في كلام العرب كقولهم هو في نعمة .

وأتى بفعل نَزَّل دون أنزل لأن القرآن نزل نجوماً . وقد تقدم في أول التفسير أن فعَّل يدل على التقضي شيئاً فشيئاً على أن صاحب « الكشاف » قد ذكر أن اختياره هنا في مقام التحدي لمراعاة ما كانوا يقولون { لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة } [ الفرقان : 32 ] فلما كان ذلك من مثارات شبههم ناسب ذكره في تحديهم أن يأتوا بسورة مثله منجمة .

والسورة قطعة من القرآن معينة فتميزه عن غيرها من أمثالها بمبدأ ونهاية تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام أو عدة أغراض .

وجعلُ لفظ سورة اسماً جنسياً لأجزاء من القرآن اصطلاحٌ جاء به القرآن . وهي مشتقة من السور وهو الجدار الذي يحيط بالقرية أو الحظيرة ، فاسم السورة خاص بالأجزاء المعينة من القرآن دون غيره من الكتب وقد تقدم تفصيله في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير ، وإنما كان التحدي بسورة ولم يكن بمقدار سورة من آيات القرآن لأن من جملة وجوه الإعجاز أموراً لا تظهر خصائصها إلا بالنظر إلى كلام مستوفى في غرض من الأغراض وإنما تنزل سور القرآن في أغراض مقصودة فلا غنى عن مراعاة الخصوصيات المناسبة لفواتح الكلام وخواتمه بحسب الغرض ، واستيفاء الغرض المسوق له الكلام ، وصحة التقسيم ، ونكت الإجمال والتفصيل ، وأحكام الانتقال من فن إلى آخر من فنون الغرض ، ومناسبات الاستطراد والاعتراض والخروج والرجوع ، وفصل الجمل ووصلها ، والإيجاز والإطناب ، ونحو ذلك مما يرجع إلى نكت مجموع نَظم الكلام ، وتلك لا تظهر مطابقتها جلية إلا إذا تم الكلام واستَوفَى الغرضُ حقه ، فلا جرم كان لنظم القرآن وحسن سَبكه إعجازٌ يفوت قدرة البشر هو غير الإعجاز الذي لِجُمله وتراكيبه وفصَاحةِ ألفاظه . فكانت السورة من القرآن بمنزلة خطبة الخطيب وقصيدة الشاعر لا يُحكم لها بالتفوق إلا باعتبارات مجموعها بعد اعتبار أجزائها . قال الطيبي في « حاشية الكشاف » عند قوله تعالى : { فلم تقتلوهم } في سورة الأنفال ( 17 ) ، ولسر النظم القرآني كان التحدي بالسورة وإن كانت قصيرة دون الآيات وإن كانت ذوات عدد .

والتنكير للإفراد أو النوعية ، أي بسورة واحدة من نوع السور وذلك صادق بأقل سورة ترجمت باسم يخصها ، وأقل السور عددَ آيات سورةُ الكوثر ، وقد كان المشركون بالمدينة تبعاً للمشركين بمكة وكان نزول هذه السورة في أول العهد بالهجرة إلى المدينة فكان المشركون كلهم ألْباً على النبيء يتداولون الإغراء بتكذيبه وصد الناس عن اتباعه ، فأعيد لهم التحدي بإعجاز القرآن الذي كان قد سبق تحديهم به في سورة يونس وسورة هود وسورة الإسراء .

وقد كان التحدي أولاً بالإتيان بكتابٍ مثل ما نزل منه ففي سورة الإسراء ( 88 ) : { قُل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } فلما عجزوا استُنزلوا إلى الإتيان بعشْرِ سور مثله في سورة هود ، ثم استنزلوا إلى الإتيان بسورة من مثله في سورة يونس .

والمِثْل أصله المَثيل والمُشابه تمامَ المشابهة فهو في الأصل صفة يتبع موصوفاً ثم شاع إطلاقه على الشيء المشابه المكافىء .

والضمير في قوله : { من مثله } يجوز أن يعود إلى { مَا نَزّلنا } أي من مِثل القرآن ، ويجوز أن يعود إلى { عبدنا } فإن أعيد إلى { ما نزلنا } أي من مثل القرآن فالأظهر أن { من } ابتدائية أي سورة مأخوذة من مثل القرآن أي كتاب مثل القرآن والجار والمجرور صفة لسورة ، ويحتمل أن تكون { من } تبعيضية أو بيانية أو زائدة ، وقد قيل بذلك كله ، وهي وجوه مرجوحة ، وعلى الجميع فالجار والمجرور صفة لسورة ، أي هي بعض مثل ما نزلنا ، ومِثل اسم حينئذٍ بمعنى المماثل ، أو سورة مثل ما نزلنا و ( مثل ) صفةٌ على احتمالي كون { من } بيانية أو زائدة ، وكل هذه الأوجه تقتضي أن المِثل سواء كان صفة أو اسماً فهو مثل مقدَّر بناء على اعتقادهم وفرضهم ولا يقتضي أن هذا المثل موجود لأن الكلام مسوق مساق التعجيز .

وإن أُعيد الضمير لعبدنا فمن لتعدية فعل { ائتوا } وهي ابتدائية وحينئذٍ فالجار والمجرور ظرف لغو غير مستقر . ويجوز كون الجار والمجرور صفة لسورة على أنه ظرف مستقر والمعنى فيهما ائتوا بسورة منتزعة من رجل مثل محمد في الأمية ، ولفظ مثل إذن اسْم .

وقد تبين لك أن لفظ { مثل } في الآية لا يحتمل أن يكون المراد به الكناية عن المضاف إليه على طريقة قوله تعالى : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] بناء على أن لفظ ( مِثل ) كناية عن المضاف إليه إذ لا يستقيم المعنى أن يكون التقدير فأتوا بسورة من القرآن ، أو من محمد خلافاً لمن توهم ذلك من كلام « الكشاف » وإنما لفظ مثل مستعمل في معناه الصريح إلا أنه أشبه المكنَّى به عن نفس المضافِ هُو إليه من حيث إن المِثل هنا على تقدير الاسمية غير متحقق الوجود إلا أن سبب انتفاء تحققه هو كونه مفروضاً فإن كون الأمر للتعجيز يقتضي تعذر المأمور ، فليس شيء من هاته الوجوه بمقتضٍ وجود مثل للقرآن حتى يُراد به بعض الوجوه كما توهمه التفتزاني .

وعندي أن الاحتمالات التي احتملها قوله : { من مثله } كلها مرادة لرد دعاوى المكذبين في اختلاف دعاويهم فإن منهم من قال : القرآن كلامُ بشر ، ومنهم من قال : هو مكتتب من أساطير الأولين ، ومنهم من قال : إنما يعلمه بشر . وهاته الوجوه في معنى الآية تُفند جميع الدعاوى فإن كان كلام بشر فأتوا بمماثله أو بمثله ، وإن كان من أساطير الأولين فأتوا أنتم بجزء من هذه الأساطير ، وإن كان يُعلمه بشر فأتوا أنتم من عنده بسورة فما هو ببخيل عنكم إن سألتموه . وكل هذا إرخاء لعنان المعارضة وتسجيل للإعجاز عند عدمها . فالتحدي على صدق القرآن هو مجموع مماثلةِ القرآن في ألفاظه وتراكيبه ، ومماثلة الرسول المنزَّل عليه في أنه أمي لم يسبق له تعليم ولا يعلم الكتب السالفة ، قال تعالى : { أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب } [ العنكبوت : 51 ] . فذلك معنى المماثلة فلو أتوا بشيء من خُطبِ أو شعر بلغائهم غير مشتمل على ما يشتمل عليه القرآن من الخصوصيات لم يكن ذلك إتياناً بما تحداهم به ، ولو أتوا بكلام مشتمل على معان تشريعية أو من الحكمة من تأليف رجل عالم حكيم لم يكن ذلك إتياناً بما تحداهم به .

فليس في جعل { من } ابتدائية إيهام إجْزاء أن يأتوا بشيء من كلام بلغائهم لأن تلك مماثلة غير تامة .

وقولُه تعالى : { وادعوا شهداءكم من دون الله } معطوف على { فأتوا بسورة } أي ائتوا بها وادعوا شهداءكم . والدعاء يستعمل بمعنى طلب حضور المدعو ، وبمعنى استعطافه وسؤاله لفعل ما ، قال أبو فراس يخاطب سيف الدولة ليفديه من أسر ملك الروم :

دَعَوْتُك للجفن القريح المسهد *** لديّ وللنوم الطريد المشرد

والشهداء جمع شهيد فعيل بمعنى فاعل من شهد إذا حضر ، وأصله الحاضر قال تعالى : { ولا يَأْبَ الشهداء إذا ما دُعُوا } [ البقرة : 282 ] ثم استعمل هذا اللفظ فيما يلازمه الحضور مجازاً أو كناية لا بأصل وضع اللفظ ، وأطلق على النصير على طريقة الكناية فإن الشاهد يؤيد قول المشهود فينصره على معارضه ولا يطلق الشهيد على الإمام والقدوة وأثبته البيضاوي ولا يعرف في كتب اللغة ولا في كلام المفسرين . ولعله انجر إليه من تفسير « الكشاف » لحاصل معنى الآية فتوهمه معنى وضعياً فالمراد هنا ادعوا آلهتكم بقرينة قوله : { من دون الله } أي ادعوهم من دون الله كدأبكم في الفزع إليهم عند مهماتكم معرضين بدعائهم واستنجادهم عن دعاء الله واللجأ إليه ففي الآية إدماج توبيخهم على الشرك في أثناء التعجيز عن المعارضة وهذا الإدماج من أفانين البلاغة أن يكون مراد البليغ غرضين فيقرن الغرض المسوق له الكلام بالغرض الثاني وفيه تظهر مقدرة البليغ إذ يأتي بذلك الاقتران بدون خروج عن غرضه المسوق له الكلام ولا تكلف . قال الحرث بن حلّزة :

آذنتنا ببينها أسماءُ *** رب ثاوٍ يَمَلّ منه الثّواءُ

فإن قوله رب ثاو عند ذكر بعد الحبيبة والتحسر منه كناية عن أن ليست هي من هذا القبيل الذي يمل ثواؤه . وقد قضى بذلك حق إرضائها بأنه لا يحفل بإقامة غيرها ، وقد عد الإدماج من المحسنات البديعة وهو جدير بأن يعد في الأبواب البلاغية في مبحث الإطناب أو تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ، فإن آلهتهم أنصار لهم في زعمهم .

ويجوز أن يكون المراد ادعوا نصراءكم من أهل البلاغة فيكون تعجيزاً للعامة والخاصة ، وادعوا من يشهد بمماثلة ما أتيتم به لما نزلنا ، على نحو قوله تعالى : { قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا } [ الأنعام : 150 ] ويكون قوله : { من دون الله } على هذه الوجوه حالاً من الضمير في { ادعوا } أو من { شهداءكم } أي في حال كونكم غير داعين لذلك الله أو حال كون الشهداء غير الله بمعنى اجعلوا جانب الله الذي أنزل الكتاب كالجانب المشهود عليه فقد أذناكم بذلك تيسيراً عليكم لأن شدة تسجيل العجز تكون بمقدار تيسير أسباب العمل ، وجوز أن يكون { دون } بمعنى أمام وبين يدي يعني ادعوا شهداءكم بين يدي الله ، واستشهد له بقول الأعشى :

تريك القَذى من دونها وهي دونهُ *** إذا ذاقَها من ذاقها يتمطِّق{[94]}

كما جوز أن يكون { من دون الله } بمعنى من دون حزب الله وهم المؤمنون أي أحضروا شهداء من الذين هم على دينكم فقد رضيناهم شهوداً فإن البارع في صناعة لا يرضى بأن يشهد بتصحيح فاسدها وعكسه إباءَة أن ينسب إلى سوء المعرفة أو الجور ، وكلاهما لا يرضاه ذو المروءة وقديماً كانت العرب تتنافر وتتحاكم إلى عقلائها وحكامها فما كانوا يحفظون لهم غلطاً أو جوراً . وقد قال السموأل :

إنا إذا مالت دواعي الهوى *** وأنصت السامع للقائل

لا نجعل الباطـل حقاً ولا *** نلظ دون الحق بالباطل{[95]}

نخاف أن تسفه أحلامنـا *** فنخمُل الدهر مع الخامل

وعلى هذا التفسير يجىء قول الفقهاء إن شهادة أهل المعرفة بإثبات العيوب أو بالسلامة لا تشترط فيها العدالة ، وكنت أعلل ذلك في دروس الفقه بأن المقصود من العدالة تحقق الوازع عن شهادة الزور ، وقد قام الوازع العلمي في شهادة أهل المعرفة مقام الوازع الديني لأن العارف حريص ما استطاع أن لا يؤثر عنه الغلط والخطأ وكفى بذلك وازعاً عن تعمده وكفى بعلمه مظنة لإصابة الصواب فحصل المقصود من الشهادة .

وقوله : { إن كنتم صادقين } اعتراض في آخر الكلام وتذييل . أتى بإن الشرطية التي الأصل في شرطها أن يكون غير مقطوع بوقوعه لأن صدقهم غير محتمل الوقوع وإن كنتم صادقين في أن القرآن كلام بشر وإنكم أتيتم بمثله .

والصدق ضد الكذب وهما وصفان للخبر لا يخلو عن أحدهما فالصدق أن يكون مدلول الكلام الخبري مطابقاً ومماثلاً للواقع في الخارج أي في الوجود الخارجي احترازاً عن الوجود الذهني ، والكذب ضد الصدق وهو أن يكون مدلول الكلام الخبري غير مطابق أي غير مماثل للواقع في الخارج ، والكلام موضوع للصدق وأما الكذب فاحتمال عقلي والإنشاء لا يوصف بصدق ولا كذب إذ لا معنى لمطابقته لما في نفس الأمر لأنه إيجاد للمعنى لا للأمور الخارجية . هذا معنى الصدق والكذب في الإطلاق المشهور . وقد يطلق الكذب صفة ذم فيلاحظ في معناه حينئذٍ أن مخالفته للواقع كانت عن تعمد فتوهم الجاحظ أن ماهية الكذب تتقوم من عدم مطابقة الخبر للواقع وللاعتقاد معاً وسرى هذا التقوم إلى ماهية الصدق فجعل قوامها المطابقة للخارج والاعتقاد معاً ومن هنا أثبت الواسطة بين الصدق والكذب ، وقريب منه قول الراغب ، ويشبه أن يكون الخلاف لفظياً ومحل بسطه في علمي الأصول والبلاغة .

والمعنى إن كنتم صادقين في دعوى أن القرآن كلام بشر ، فحذف متعلق { صادقين } لدلالة ما تقدم عليه ، وجواب الشرط محذوف تدل عليه جملة مقدرة بعد جملة : { وادعوا شهداءكم من دون الله } إذ التقدير فتأتون بسورة من مثله ودل على الجملة المقدرة قوله قبلها : { فأتوا بسورة من مثله } وتكون الجملة المقدرة دليلاً على جواب الشرط فتصير جملة { إن كنتم صادقين } تكريراً للتحدي .

وفي هذه الآية إثارة لحماسهم إذ عرض بعدم صدقهم فتتوفر دواعيهم على المعارضة .


[94]:- يصف الخمر في الصفاء بأنها تريك القذى أمامها من شدة ما تكبر حجمه في نظر العين وهي بينك وبين القذى. وقوله يتمطق أي يحرك فكيه ولسانه تلذذا بحسن طعمها. وهذا البيت من قصيدته القافية المشهورة.
[95]:- لظ بالشيء يلظ، والظ به يلظ هما بمعنى لزمه وثابر عليه.
 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (23)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

هذا من الله عزّ وجلّ احتجاج لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي قومه من العرب ومنافقيهم وكفار أهل الكتاب وضلالهم... وضُرباءَهم يعني بها... وإن كنتم... في شكّ وهو الريب مما نزّلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان أنه من عندي، وأني الذي أنزلته إليه، فلم تؤمنوا به ولم تصدّقوه فيما يقول، فأتوا بحجة تدفع حجته لأنكم تعلمون أن حجة كل ذي نبوّة على صدقه في دعواه النبوّة أن يأتي ببرهان يعجز عن أن يأتي بمثله جميع الخلق، ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه وبرهانه على نبوّته، وأن ما جاء به من عندي، عَجْزُ جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم عن أن تأتوا بسورة من مثله. وإذا عجزتم عن ذلك، وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والدراية، فقد علمتم أن غيركم عما عجزتم عنه من ذلك أعجز. كما كان برهان من سلف من رسلي وأنبيائي على صدقه وحجته على نبوّته من الآيات ما يعجز عن الإتيان بمثله جميع خلقي. فيتقرّر حينئذ عندكم أن محمدا لم يتقوّله ولم يختلقه، لأن ذلك لو كان منه اختلاقا وتقوّلاً لم يعجزوا وجميع خلقه عن الإتيان بمثله، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يَعْدُ أن يكون بشرا مثلكم، وفي مثل حالكم في الجسم وبسطة الخلق وذرابة اللسان، فيمكن أن يظن به اقتدار على ما عجزتم عنه، أو يتوهم منكم عجز عما اقتدر عليه...

عن قتادة:"فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ" يعني من مثل هذا القرآن حقّا وصدقا لا باطل فيه ولا كذب.

فمعنى قول قتادة أن الله جل ذكره قال لمن حاجّه في نبيه صلى الله عليه وسلم من الكفار: فأتوا بسورة من مثل هذا القرآن من كلامكم أيتها العرب، كما أتى به محمد بلغاتكم ومعاني منطقكم... لأن الله جل ثناؤه قال في سورة أخرى: "أمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فأتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ"...

"وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"...

عن ابن عباس: "وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ "يعني أعوانكم على ما أنتم عليه، "إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ"...

وأما الشهداء فإنها جمع شهيد، كالشركاء جمع شريك، والخطباء جمع خطيب. والشهيد يسمى به الشاهد على الشيء لغيره بما يحقق دعواه، وقد يسمى به المشاهد للشيء كما يقال فلان جليس فلان، يعني به مجالسه، ونديمه يعني به منادمه، وكذلك يقال: شهيده يعني به مشاهده. فإذا كانت الشهداء محتملة أن تكون جمع الشهيد الذي هو منصرف للمعنيين اللذين وصفت، فأولى وجهيه بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن يكون معناه: واستنصروا على أن تأتوا بسورة من مثله أعوانَكم وشهداءَكم الذين يشاهدونكم ويعاونونكم على تكذيبكم الله ورسوله ويظاهرونكم على كفركم ونفاقكم إن كنتم محقين في جحودكم أن ما جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم اختلاق وافتراء، لتمتحنوا أنفسكم وغيركم: هل تقدرون على أن تأتوا بسورة من مثله، فيقدر محمد على أن يأتي بجميعه من قبل نفسه اختلاقا؟... و...ذلك كما قال جل ثناؤه: "قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتِ الإنْسُ والجِنّ على أنْ يأتُوا بِمِثْلِ هَذَا القُرْآنِ لا يأتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرا"، فأخبر جل ثناؤه في هذه الآية أن مثل القرآن لا يأتي به الجن والإنس ولو تظاهروا وتعاونوا على الإتيان به وتحدّاهم بمعنى التوبيخ لهم في سورة البقرة، فقال تعالى: "وَإنْ كُنْتُمْ في رَيْبٍ مِمّا نَزّلْنَا على عَبْدِنَا فأتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِين" يعني بذلك: إن كنتم في شك في صدق محمد فيما جاءكم به من عندي أنه من عندي، فأتوا بسورة من مثله، وليستنصر بعضكم بعضا على ذلك إن كنتم صادقين في زعمكم حتى تعلموا أنكم إذا عجزتم عن ذلك أنه لا يقدر على أن يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم ولا من البشر أحد، ويصح عندكم أنه تنزيلي ووحيي إلى عبدي...

أحكام القرآن للجصاص 370 هـ :

... فيه أكبر دلالة على صحة نبوَّة نبينا عليه السلام من وجوه:

أحدها أنه تحداهم بالإتيان بمثله، وقرَّعهم بالعجز عنه مع ما هم عليه من الأنفة والحميَّة، وأنه كلام موصوف بلغتهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم منهم تعلم اللغة العربية، وعنهم أخذ، فلم يعارضه منهم خطيب، ولا تكلفه شاعر، مع بذلهم الأموال والأنفس في توهين أمره، وإبطال حججه، وكانت معارضته لو قدروا عليها أبلغ الأشياء في إبطال دعواه وتفريق أصحابه عنه؛ فلما ظهر عجزُهم عن معارضته دلَّ ذلك على أنه من عندِ الله الذي لا يُعجزه شيء، وأنه ليس في مقدور العباد مثله، وإنما أكبر ما اعتذروا به أنه من أساطير الأولين وأنه سحرٌ، فقال تعالى: {فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين} [الطور: 34] وقال: {فأتوا بعشر سور مثله مفتريات} [هود: 13] فتحداهم بالنظم دون المعنى في هذه الصورة، وأظهر عجزهم عنه فكانت هذه معجزةً باقية لنبينا صلى الله تعالى عليه وسلم إلى قيام الساعة، أبان الله تعالى بها نبوَّة نبيّه وفضَّله بها على سائر الأنبياء، لأن سائرَ معجزات الأنبياء تقضَّت بانقضائهم، وإنما يُعلم كونُها معجزة من طريق الأخبار، وهذه معجزة باقية بعده، كل من اعترض عليها بعد قرّعناه بالعجز عنه، فتبين له حينئذ موضع الدلالة على تثبيت النبوة، كما كان حكم من كان في عصره من لزوم الحجة به وقيام الدلالة عليه.

والوجه الآخر من الدلالة أنه معلوم عند المؤمنين بالنبي عليه السلام وعند الجاحدين لنبوته أنه كان من أتم الناس عقلاً، وأكملهم خلقاً، وأفضلهم رأياً، فما طعن عليه أحدٌ في كمال عقله ووُفور حلمه وصحة فهمه وجودة رأيه؛ وغيرُ جائز على من كان هذا وصفه أن يدَّعي أنه نبي الله قد أرسله إلى خلقه كافةً، ثم جعل علامة نبوته ودلالة صدقه كلاماً يُظهره ويقرِّعهم به، مع علمه بأن كل واحد منهم يقدر على مثله، فيظهر حينئذ كذبه وبطلانُ دعواه، فدلَّ ذلك على أنه لم يتحدَّهم بذلك ولم يقرِّعهم بالعجز عنه إلا وهو من عند الله لا يقدر العبادُ على مثله.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

لما احتج عليهم بما يثبت الوحدانية ويحققها، ويبطل الإشراك ويهدمه، وعلم الطريق إلى إثبات ذلك وتصحيحه، وعرفهم أنّ من أشرك فقد كابر عقله وغطى على ما أنعم عليه من معرفته وتمييزه، عطف على ذلك ما هو الحجة على إثبات نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وما يدحض الشبهة في كون القرآن معجزة، وأراهم كيف يتعرفون أهو من عند الله كما يدعي، أم هو من عند نفسه كما يدعون. بإرشادهم إلى أن يحزروا أنفسهم ويذوقوا طباعهم وهم أبناء جنسه وأهل جلدته.

فإن قلت: لم قيل: {مِّمَّا نَزَّلْنَا} على لفظ التنزيل دون الإنزال؟ قلت: لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم، وهو من محازه لمكان التحدي، وذلك أنهم كانوا يقولون: لو كان هذا من عند الله مخالفاً لما يكون من عند الناس، لم ينزل هكذا نجوماً سورة بعد سورة وآيات غب آيات، على حسب النوازل وكفاء الحوادث وعلى سنن ما نرى عليه أهل الخطابة والشعر، من وجود ما يوجد منهم مفرقاً حيناً فحيناً، وشيئاً فشيئاً حسب ما يعنّ لهم من الأحوال المتجددة والحاجات السانحة، لا يلقي الناظم ديوان شعره دفعة، ولا يرمي الناثر بمجموع خطبه أو رسائله ضربة، فلو أنزل الله لأنزله خلاف هذه العادة جملة واحدة: قال الله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً واحدة} [الفرقان: 32]، فقيل: إن ارتبتم في هذا الذي وقع إنزاله هكذا على مهل وتدريج، فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه، وهلموا نجماً فرداً من نجومه: سورة من أصغر السور، أو آيات شتى مفتريات. وهذه غاية التبكيت. ومنتهى إزاحة العلل.

والسورة: الطائفة من القرآن المترجمة التي أقلها ثلاث آيات. وواوها إن كانت أصلاً، فإما أن تسمى بسورة المدينة وهي حائطها، لأنها طائفة من القرآن محدودة محوّزة على حيالها، كالبلد المسوّر، أو لأنها محتوية على فنون من العلم وأجناس من الفوائد، كاحتواء سورة المدينة على ما فيها. وإما أن تسمى بالسورة التي هي الرتبة..

فإن قلت: ما فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً؟ قلت: ليست الفائدة في ذلك واحدة. ولأمر ما أنزل الله التوراة والإنجيل والزبور وسائر ما أوحاه إلى أنبيائه على هذا المنهاج مسوّرة مترجمة السور. وبوّب المصنفون في كل فنّ كتبهم أبواباً موشحة الصدور بالتراجم.

ومن فوائده: أنّ الجنس إذا انطوت تحته أنواع، واشتمل على أصناف، كان أحسن وأنبل وأفخم من أن يكون بياناً واحداً.

ومنها أن القارئ إذا ختم سورة أو باباً من الكتاب، ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأهز لعطفه، وأبعث على الدرس والتحصيل منه لو استمر على الكتاب بطوله. ومثله المسافر، إذا علم أنه قطع ميلاً، أو طوى فرسخاً، أو انتهى إلى رأس بريد: نفس ذلك منه ونشطه للسير. ومن ثم جزأ القرّاء القرآن أسباعاً وأجزاء وعشوراً وأخماساً.

ومنها أن الحافظ إذا حذفه السورة، اعتقد أنه أخذ من كتاب الله طائفة مستقلة بنفسها لها فاتحة وخاتمة، فيعظم عنده ما حفظه، ويجل في نفسه ويغتبط به،. ومنه حديث أنس رضي الله عنه: «كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران، جد فينا" ومن ثمة كانت القراءة في الصلاة بسورة تامة أفضل.

ومنها أنّ التفصيل سبب تلاحق الأشكال والنظائر وملاءمة بعضها لبعض. وبذلك تتلاحظ المعاني ويتجاوب النظم، إلى غير ذلك من الفوائد والمنافع

{مِّن مِّثلِهِ} متعلق بسورة صفة لها أي بسورة كائنة من مثله.

و [رد] الضمير لما نزلنا... أوجه، لقوله تعالى: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ}. {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مّثْلِهِ} [هود: 11]، {على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرءان لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} [الإسراء: 88]، ولأن القرآن جدير بسلامة الترتيب والوقوع على أصح الأساليب، والكلام مع ردّ الضمير إلى المنزل أحسن ترتيباً... ولأنّ هذا التفسير هو الملائم لقوله:

{وادعوا شُهَدَاءكُم} والشهداء جمع شهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة.

ومعنى {دُونِ} أدنى مكان من الشيء. ومنه الشيء الدون، وهو الدنيّ الحقير، ودوّن الكتب، إذا جمعها، لأن جمع الأشياء إدناء بعضها من بعض وتقليل المسافة بينها. يقال: هذا دون ذاك، إذا كان أحط منه قليلاً. ودونك هذا: أصله خذه من دونك. أي من أدنى مكان منك فاختصر واستعير للتفاوت في الأحوال والرتب فقيل زيد دون عمرو في الشرف والعلم...، واتسع فيه فاستعمل في كل تجاوز حدّ إلى حدّ وتخطى حكم إلى حكم. قال الله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين} [آل عمران: 28] أي لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين..

وفي أمرهم أن يستظهروا بالجماد الذي لا ينطق في معارضة القرآن بفصاحته: غاية التهكم بهم.

وادعوا شهداءكم من دون الله، أي من دون أوليائه ومن غير المؤمنين، ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله. وهذا من المساهلة وإرخاء العنان والإشعار بأنّ شهداءهم وهم مدارة القوم، الذين هم وجوه المشاهد وفرسان المقاولة والمناقلة، تأبى عليهم الطباع وتجمح بهم الإنسانية والأنفة أن يرضوا لأنفسهم الشهادة بصحة الفاسد البين عندهم فساده واستقامة المحال الجلي في عقولهم إحالته،

وتعليقه بالدعاء في هذا الوجه جائز. وإن علقته بالدعاء فمعناه: ادعوا من دون الله شهداءكم، يعني لا تستشهدوا بالله ولا تقولوا: الله يشهد أنّ ما ندعيه حق، كما يقوله العاجز عن إقامة البينة على صحة دعواه، وادعوا الشهداء من الناس الذين شهادتهم بينة تصحح بها الدعاوى عند الحكام. وهذا تعجيز لهم وبيان لانقطاعهم وانخذالهم. وأنّ الحجة قد بهرتهم ولم تبق لهم متشبثاً غير قولهم: الله يشهد أنا صادقون.

وقولهم هذا: تسجيل منهم على أنفسهم بتناهي العجز وسقوط القدرة. وعن بعض العرب أنه سئل عن نسبه فقال: قرشيّ والحمد لله. فقيل له: قولك «الحمد لله» في هذا المقام ريبة. أو ادعوا من دون الله شهداءكم: يعني أنّ الله شاهدكم لأنه أقرب إليكم من حبل الوريد، وهو بينكم وبين أعناق رواحلكم. والجن والإنس شاهدوكم فادعوا كل من يشهدكم واستظهروا به من الجن والإنس إلا الله تعالى، لأنه القادر وحده على أن يأتي بمثله دون كل شاهد من شهدائكم، فهو في معنى قوله: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن...} [الإسراء: 88] الآية.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

الريب الشك، وهذه الآية تقتضي أن الخطاب المتقدم إنما هو لجماعة المشركين الذي تحدوا...

واختلف المتأولون على من يعود الضمير في قوله {مثله}: فقال جمهور العلماء: هو عائد على القرآن ثم اختلفوا. فقال الأكثر: من مثل نظمه ورصفه وفصاحة معانيه التي يعرفونها ولا يعجزهم إلا التأليف الذي خُصَّ به القرآن، وبه وقع الإعجاز على قول حذاق أهل النظر.

أحكام القرآن لابن الفرس 595 هـ :

هذا هو التحدي الذي لا معنى للمعجزة إلا به، ولا خلاف أنه صلى الله عليه وسلم تحدى العرب بالقرآن لأنه أمر متواتر. وقد قال الله تعالى: {فاتوا بعشر سور مثله مفتريات} [هود: 13]...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما ثبتت هذه الأدلة فوجب امتثال ما دعت إليه ولم يبق لمتعنت شبهة إلا أن يقول: لا أفعل حتى أعلم أن هذا الكتاب الذي تقدم أنه الهدى كلام الله، قال مبيناً إنه من عنده نظماً كما كان من عنده معنى محققاً ما ختم به التي قبلها من أن من توقف عما دعا إليه من التوحيد وغيره لا علم له بوجه، وأتى بأداة الشك سبحانه مع علمه بحالهم تنبيهاً على أنه من البعيد جداً أن يجزم بشكهم بعد هذا البيان {وإِن} أي فإن كنتم من ذوي البصائر الصافية والضمائر النيرة علمتم بحقية هذه المعاني وجلالة هذه الأساليب وجزالة تلك التراكيب أن هذا كلامي، فبادرتم إلى امتثال ما أمر والانتهاء عما عنه زجر. {وإن كنتم في ريب} أي شك محيط بكم من الكتاب الذي قلت -ومن أصدق مني قيلاً- إنه {لا ريب فيه}.

وأشار هنا أيضاً إلى عظمته وعظمة المنزل عليه بالنون التفاتاً من الغيبة إلى التكلم فقال: {مما نزلنا} قال الحرالي:: من التنزيل وهو التقريب للفهم بتفصيل وترجمة ونحو ذلك -انتهى. {على عبدنا} أي الخالص لنا الذي لم يتعبد لغيرنا قط، فلذلك استحق الاختصاص دون عظماء القريتين وغيرهم، فارتبتم في أنه كلامنا نزل بأمرنا وزعمتم أن عبدنا محمداً أتى به من عنده لتوهمكم أن فيما سمعتم من الكلام شيئاً مثله لأجل الإتيان به منجماً أو غير ذلك من أحواله.

{فأتوا} أي على سبيل التنجيم أو غيره، قال الحرالي:: الآتي بالأمر يكون عن مكنة وقوة {بسورة} أي نجم واحد. قال الحرالي: السورة تمام جملة من المسموع يحيط بمعنى تام بمنزلة إحاطة السور بالمدينة- انتهى. وتفصيل القرآن إلى سور وآيات، لأن الشيء إذا كان جنساً وجعلت له أنواع واشتملت أنواعه على أصناف كان أحسن وأفخم لشأنه وأنبل ولا سيما إذا تلاحقت الأشكال بغرابة الانتظام، وتجاوبت النظائر بحسن الالتِئام، وتعانقت الأمثال بالتشابه في تمام الأحكام وجمال الأحكام، وذلك أيضاً أنشط للقارئ وأعظم عنده لما يأخذه منه مسمى بآيات معدودة أو سورة معلومة وغير ذلك {من مثله} أي من الكلام الذي يمكنكم أن تدعوا أنه مثل ما نزلنا كما قال: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله} [الإسراء: 88] فإن عبدنا منكم ونشأ بين أظهركم، فهو لا يقدر على أن يأتي بما لا تقدرون على مثله إلا بتأييد منا.

ولما كانوا يستقبحون الكذب قال: {وادعوا شهداءكم} أي من تقدرون على دعائه من الموجودين بحضرتكم في بلدتكم أو ما قاربها، والشهيد كما قال الحرالي: من يكثر الحضور لديه واستبصاره فيما حضره -انتهى.

{من دون الله} أي لينظروا بين الكلامين فيشهدوا بما تؤديهم إليه معرفتهم من المماثلة أو المباينة فيزول الريب ويظهر إلى الشهادة الغيب أو ليعينوكم على الإتيان بمثل القطعة المحيطة التي تريدون معارضتها. قال الحرالي:: والدون منزلة القريب فالقريب من جهة سفل، وقد عقلت العرب أن اسم الله لا يطلق على ما ناله إدراك العقل فكيف بالحس! فقد تحققوا أن كل ما أدركته حواسهم ونالته عقولهم فإنه من دون الله- انتهى.

ففي التعبير به توبيخ لهم بأنهم لم يرضوا بشهادته سبحانه.

وحكمة الإتيان بمن التبعيضية في هذه السورة دون بقية القرآن أنه سبحانه لما فرض لهم فيها الريب الذي يلزم منه زعمهم أن يكونوا اطلعوا له على مثيل أو سمعوا أن أحداً عثر له على شبيه اقتضى الحال الإتيان بها ليفيد أن المطلوب منهم في التحدي قطعة من ذلك المثل الذي ادعوه حكيمة المعاني متلائمة المباني منتظم أولها بآخرها كسور المدينة في صحة الانتظام وحسن الالتئام والإحاطة بالمباني التي هي كالمعاني والتقاء الطرفين حتى صار بحيث لا يدرى أوله من آخره سواء كانت القطعة المأتي بها تباري آية أو ما فوقها لأن آيات القرآن كسورة يعرف من ابتدائها ختامها ويهدي إلى افتتاحها تمامها، فالتحدي هنا منصرف إلى الآية بالنظر الأول وإلى ما فوقها بالنظر الثاني.

والمراد بالسورة هنا مفهومها اللغوي، لأنها من المثل المفروض وهو لا وجود له في الخارج حتى يكون لقطعه اصطلاح في الأسماء معروف، ولأن معرفة المعنى الاصطلاحي كانت مخصوصاً بالمصدقين ولو أريد التحدي بسورة من القرآن لقيل: فائتوا بمثل سورة منه، ولما كان هذا هو المراد قصرهم في الدعاء على من بحضرتهم من الشهداء وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة يونس عليه السلام وبقية السور المذكورة فيها هذا المعنى ما يتم به هذا الكلام. وفي قوله: {إن كنتم صادقين} إيماء إلى كذبهم في دعوى الشك فيه.

قال الحرالي:: والصادق الذي يكون قول لسانه وعمل جوارحه مطابقاً لما احتوى عليه قلبه مما له حقيقة ثابتة بحسبه، وقال: اتسقت آية تنزيل الوحي بآية إنزال الرزق لما كان نزول ما نزل على الرسول المخصص بذلك ينبغي اعتباره بمقابلة نزول الرزق، لأنهما رزقان: أحدهما ظاهر يعم الكافر في نزوله، والآخر وهو الوحي رزق باطن يخص الخاصة بنزوله ويتعين له أيهم أتمهم فطرة وأكملهم ذاتاً؛ ولم يصلح أن يعم بنزول هذا الرزق الباطن كعموم الظاهر، فتبطل حكمة الاختصاص في الرزقين، فإن نازعهم ريب في الاختصاص فيفرضون أنه عام فيحاولون معارضته، وكما أنهم يشهدون بتمكنهم من الحس عند محاولته عمومه فكذلك يجب أن يشهدوا بعجزهم عن سورة من مثله تحقق اختصاص من نزل عليه به وأجرى ذكره باسم العبودية إعلاماً بوفائه بأنحاء التذلل وإظهاراً لمزية انفراده بذلك دونهم ليظهر به سبب الاختصاص.

وانتظم النون في {نزلنا} من يتنزل بالوحي من روح القدس والروح الأمين ونحو ذلك، لأنها تقتضي الاستتباع، واقتضت النون في لفظ {عبدنا} ما يظهره النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الانقياد والاتباع وما اقتضاه خلقه العظيم من خفض الجناح، حتى أنه يوافق من وقع على وجه من الصواب من أمته صلى الله عليه وسلم، وحتى أنه يتصف بأوصاف العبد في أكله كما قال:"آكل كما يأكل العبد" انتهى.

والتحدي بسورة يشمل أقصر سورة كالكوثر ومثلها في التحدي آية مستقلة توازيها وآيات، كما قاله الإمام جلال الدين محمد بن أحمد المحلي في شرح جمع الجوامع، وسبقه الإمام شمس الدين محمد بن عبد الدائم البرماوي فنظمه في القنية في الأصول ونقله في شرحها عن ظاهر كلام إمام الحرمين في الشامل وعن كلام الفقهاء في الصداق فيما لو أصدقها تعليم سورة فلقنها بعض آية، وسبقهما العلامة سعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني فقال في تلويحه على توضيح صدر الشريعة: المعجز هو السورة أو مقدارها هكذا ذكر الذين تكلموا في الإعجاز من الأصوليين وغيرهم أن التحدي وقع بسورة من القرآن، والصواب أنه إنما وقع بقطعة آية فما فوقها، لأن المراد بالسورة مفهومها اللغوي لا الاصطلاحي كما تقدم بيانه.

والحاصل أنه لما كان في آيات المنافقين ذكر الأمثال وكانوا قد استغربوا بعض أمثال القرآن وجعلوها موضعاً للشك من حيث كانت موضعاً لليقين فقالوا: لو كان هذا من عند الله لما ذكر فيه أمثال هذه الأمثال، لأنه أعظم من أن يذكر ما دعاهم إلى المعارضة في هذه السورة المدنية بكل طريق يمكنهم، وأخبرهم بأنهم عاجزون عنها وأن عجزهم دائم تحقيقاً لأنهم في ذلك الحال معاندون لا شاكون.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحة ما جاء به، فقال: {وإن كنتم} معشر المعاندين للرسول، الرادين دعوته، الزاعمين كذبه في شك واشتباه، مما نزلنا على عبدنا، هل هو حق أو غيره؟ فهاهنا أمر نصف، فيه الفيصلة بينكم وبينه، وهو أنه بشر مثلكم،.. وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم، لا يكتب ولا يقرأ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله، وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه، فإن كان الأمر كما تقولون، فأتوا بسورة من مثله، واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم، فإن هذا أمر يسير عليكم، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة، والعداوة العظيمة للرسول، فإن جئتم بسورة من مثله، فهو كما زعمتم، وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز، ولن تأتوا بسورة من مثله، ولكن هذا التقييم على وجه الإنصاف والتنزل معكم، فهذا آية كبرى، ودليل واضح [جلي] على صدقه وصدق ما جاء به، فيتعين عليكم اتباعه، واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [والشدة]، أن كانت وقودها الناس والحجارة، ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب، وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله. فاحذروا الكفر برسوله، بعد ما تبين لكم أنه رسول الله.

وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي، وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن، قال تعالى {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}

وكيف يقدر المخلوق من تراب، أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه، أن يأتي بكلام ككلام الكامل، الذي له الكمال المطلق، والغنى الواسع من كل الوجوه؟ هذا ليس في الإمكان، ولا في قدرة الإنسان، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [بأنواع] الكلام، إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء، ظهر له الفرق العظيم.

وفي قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} إلى آخره، دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة: [هو] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق إن كان صادقا في طلب الحق.

وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه، فهذا لا يمكن رجوعه، لأنه ترك الحق بعد ما تبين له، لم يتركه عن جهل، فلا حيلة فيه.

وكذلك الشاك غير الصادق في طلب الحق، بل هو معرض غير مجتهد في طلبه، فهذا في الغالب أنه لا يوفق.

وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم، دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم، قيامه بالعبودية، التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين.

كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء، فقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} وفي مقام الإنزال، فقال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}.

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

دعا الله سبحانه وتعالى الناس جميعا أن يعبدوه، وذكر لهم سبحانه وتعالى من النعم الظاهرة، والقدرة القاهرة التي يخضع لها الوجود ما يدل على أنه وحده الذي يستحق أن يعبد، فالذين يعبدونهم مما يجعلونهم أندادا لله تعالى لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ولكن الإيمان لا يتم إلا بالإيمان بالرسول الذي جاء بالحق والذي بعث رحمة للعالمين، وقد أتى لهم بما يدل على أن الله تعالى بعثه إليهم، وهو القرآن الكريم الذي يعجز البشر على أن يأتوا بمثله، وهو الكتاب الجدير وحده بأن يسمى كتابا؛ لأنه كتاب الله تعالى إلى خليقته يهديهم إلى سبل السلام، وهو برهان محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الخالد إلى يوم الدين، فالمعجزات المادية الحسية تنتهي بانتهاء زمانها، أما القرآن الكريم، فإنه قائم إلى يوم الدين، يتحدى الناس في كل جيل أن يأتوا بمثله، ولقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة) لأن معجزته التي تحدى بها أن يأتوا بمثلها مازالت قائمة لم ينقض زمانها، ولقد كان للنبي صلى الله عليم وسلم خوارق حسية جرت على يده، ولكنه ما تحدى بها، بل تحدى بالقرآن لأنه معجزته الخالدة الباقية: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء 88].

هذه الآيات التي نتكلم متسامين إلى معانيها هي مما تحدى القرآن الكريم بها العرب بعد أن ذكر قدرة الله ونعمه التي تثبت وحدانيته في العبودية. هذه الآيات من التحدي الشامخ التي أثبتت عجزهم.

قال تعالى: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا} ذكر سبحانه وتعالى احتمال أن يكونوا في ريب من أن القرآن من عند الله، وأنه الدلالة الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: {وإن كنتم في ريب} عبر سبحانه بأداة الشرط التي لا تدل على وقوع الريب قطعا "إذ"؛ لأن التعبير ب "إن" يدل على الشك في فعل الشرط، لا على تحققه للإشارة – إلى أنهم لو كانوا في شك من أمر القرآن حقيقة، وأنهم يستطيعون أن يأتوا بمثله، كما كانوا يقولون {لو نشاء لقلنا مثل هذا...} [الأنفال 31] ما كان ذلك مبنيا على تفكير سليم، إذ إن أي تدبر وتفكير في معانيه يزيل كل ريب، ويوجه إلى الحقيقة توجيها مستقيما، لا مجال فيه لأي ريب أو أي شك.

وهنا يسأل سائل: لقد وصف القرآن الكريم في أول السورة بأنه لا ريب فيه؟. ونقول في الجواب عن ذلك: إن الريب منهم لا منه في ذاته، فهو في ذاته يعلو عن الريب، لأنه يعلو عن المثل والشبيه في تساوق ألفاظه ومعانيه، وجمال فواصله، ورنة نغمه، وحلاوة موسيقاه، وكل ما اشتمل عليه مما أدهش المشركين، وحاروا، ولم يجدوا محيصا من الإذعان والسكوت والانتقال من العجز الذليل إلى الاضطهاد والإيذاء.

وقوله تعالى: {وإن كنتم في ريب} بالتعبير بكان المصورة لما وقع منهم، إشارة إلى أنه لا ريب فيه لذاته، وإنما الريب من عقولهم المنحرفة. ونفوسهم الوثنية، التي استهوتها الأحجار فعبدتها. فالشك منهم، والقرآن أعلى من ذلك، ولا ريب فيه، وفي أنه من العزيز الحكيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

وقد يقال: إنهم لم يكونوا في ريب من أمره، بل كانوا حازمين بأنه ليس من عند الله، بدليل قوله تعالى: {إن كنتم صادقين} في تكذيبهم، فنقول في ذلك: إنهم كانوا جازمين في تكذيب أنه من عند الله تعالى، ولكن النص القرآني ينبههم إلى أن حالهم في مثل إدراكهم البياني وذوقهم البلاغي، وكونهم مقاول العرب، وأهل الفصاحة والبيان والدربة في القول، ومعرفة موازينه، وتنبههم الآية الكريمة إلى أن مثلهم في حالهم لا ينبغي أن يجزموا منكرين، بل يترددوا حتى يصلوا إلى الحقيقة، في أمر هذا النوع من القول الذي لا ينهد إلى مكانته قول من أقوالهم.

وإن الثابت في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان له أثر في نفوسهم، وأحسوا بأنه فوق ما يقوله البشر، فقال بعضهم: "إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وأسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، ما يقول هذا بشر"، وكانوا يتفاهمون فيما بينهم على ألا يسمعوه: {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} [فصلت 26] فإذا اتفقوا على ذلك ذهب كل واحد منهم سرا إلى حيث يسمعونه، وكل يظن أنه وحده الذي جاء يسمع إليه، فإذا هم يلتقون، وينقضون ما اتفقوا عليه.

ولذلك سموه سحرا، وسموا النبي صلى الله عليه وسلم ساحرا.

ولذلك نقول: إن ذكر القرآن الكريم لهم بأنهم كانوا في ريب منه وخصوصا أهل العلم بالبيان منهم وصف صادق، فما كانوا مؤمنين به، وما كانوا منكرين إنكارا قاطعا بأنه ليس من عند الله؛ ولذلك لم يعرف عن أحد من عقلائهم أنه أراد أن يأتي بمثله، وإن تنكير الريب دليل على أنه ريب ليس بالقوي، أو الشديد، وذلك لكمال وضوح الأدلة الدالة على أنه ليس من طاقة أحد أن يأتي بمثله، وإن الشك إن كان منهم فليس له محل ولا مسوغ.

ومن في قوله تعالى: {مما نزلنا} معناها بيان موضع الشك الذي يثور عندهم، فيقال في شك من الأمر باعتبار أن موضوع الشك هو الأمر، وقوله تعالى: {نزلنا} تدل على التنزيل منجما زمنا بعد زمن، ولم ينزل دفعة واحدة، وكانوا يثيرون الشك حوله بسبب ذلك، وقد قال تعالى فيما حكى عنهم: {وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا} [الفرقان 32] فكان مما يثير ريبهم الباطل أن القرآن لم ينزل دفعة، ولكنه نزل منجما ليثبت به قلب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالت كلماته: {مما نزلنا على عبدنا} وهو محمد صلى الله عليه وسلم ذكره بالعبودية لله تعالى، وفي ذلك تشريف للنبي صلى الله عليه وسلم، وبيان لحماية الله تعالى له، وبيان أن الرسالة لا تبعده عن مقام العبودية فهو عبد لله تعالى، ولن يستنكف أن يكون عبدا لله تعالى، وأن الله تعالى عاصمه في رسالته من الناس كما قال تعالى: {والله يعصمك من الناس} [المائدة 67].