الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (23)

قولُه تعالى : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ } : إنْ حرف شرطٍ يَجْزِم فعلينِ شرطاً وجزاءً ، ولا يكونُ إلا في المحتملِ وقوعُه ، وهي أمُّ ألبابِ ، فلذلك يُحْذَفُ مجزومُها كثيراً ، وقد يُحْذَفُ الشرطُ والجزاءِ معاً ، قال :

قالَتْ بناتُ العَمِّ يا سَلْمى وإنْ *** كانَ فقيراً مُعْدِماً قالَتْ : وإنْ

أي : وإن كان فقيراً تزوجتُه ، وتكونُ " إنْ " نافيةً لتعملُ وتُهْمَلُ ، وتكون مخففةً وزائدةً باطِّراد وعدمِه ، وأجاز بعضُهم أن تكونَ بمعنى إذْ ، وبعضُهم أن تكونَ بمعنى قد ، ولها أحكامٌ كثيرة . و " في ريب " خبر كان ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ ، ومحلُّ " كان " الجزمُ ، وهي وإن كانَتْ ماضيةً لفظاً فهي مستقبلةٌ معنى .

وزعم المبردُ أنَّ ل " كان " الناقصةِ حكماً مع " إنْ " ليس لغيرها من الأفعالِ الناقصةِ فزعم أن لقوةِ " كان " أنَّ " إنْ " الشرطية لا تَقْلِبُ معناها إلى الاستقبال ، بل تكونُ على معناها من المضيِّ ، وتبعه في ذلك أبو البقاء ، وعَلَّلَ ذلك بأنه كثُر استعمالُها غيرَ دالَّةٍ على حَدَثٍ . وهذا مردودٌ عند الجمهورِ لأن التعليقَ إنما يكون في المستقبلِ ، وتأوَّلوا ما ظاهرُه غيرُ ذلك ، نحو : { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ } [ يوسف : 26 ] : إمَّا بإضمار " يَكُنْ " بعد " إنْ " ، وإمَّا على التبيين ، والتقديرُ : إنْ يكُنْ قميصُه أو إن يَتبيَّنْ كونُ قميصِه ، ولمَّا خَفِيَ هذا المعنى على بعضهم جَعَل " إنْ " هنا بمنزلة " إذْ " .

وقوله : " في ريبٍ " مجازٌ من حيث إنه جَعَلَ الريبَ ظرفاً محيطاً بهم ، بمنزلةِ المكانِ لكثرةِ وقوعِه منهم . و " مِمَّا " يتعلقُ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لريب فهو في محلِّ جَرٍّ . و " مِنْ " للسببية أو ابتداءِ الغاية ، ولا يجوزُ أن تكونَ للتبعيضِ ، ويجوز أن تتعلَّق بريب ، أي : إن ارتَبْتُمْ من أجل ، ف " مِنْ " هنا للسببيةِ " وما " موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفةٌ ، والعائدُ على كلا القولين محذوفٌ أي : نَزَّلناه . والتضعيفُ في " نزَّلنا " هنا للتعدية مرادفاً لهمزةِ التعدِّي ، ويَدُلُّ عليه قراءةُ " أنْزَلْنا " بالهمز ، وجَعَلَ الزمخشري التضعيفَ هنا دالاًّ على نزولِه مُنَجَّماً في أوقاتٍ مختلفة . قال بعضُهم : " وهذا الذي ذهبَ إليه في تضعيفِ الكلمة هنا هو الذي يُعَبَّر عنه بالتكثير ، أي يَفْعَلُ [ ذلك ] مرةً بعد مرةٍ ، فَيُدَلُّ على ذلك بالتضعيفِ ، ويُعَبَّرُ عنه بالكثرةِ " . قال : " وذَهَلَ عن قاعدةٍ وهي أن التضعيفَ الدالَّ على ذلك من شرطه أن يكونَ في الأفعال المتعديةِ قبل التضعيفِ غالباً نحو : جَرَّحْتُ زيداً وفتَّحْتُ الباب ، ولا يُقال : جَلَّس زيدٌ ، ونَزَّل لم يكن متعدياً قبلَ التضعيفِ ، وإنَّ ما جَعَلَه متعدياً تضعيفُه .

وقولُه " غالباً " لأنه قد جاء التضعيفُ دالاًّ على الكثرة في اللازم قليلاً نحو : " مَوَّت المالُ " وأيضاً فالتضعيفُ الدالُّ على الكثرةِ لاَ يَجْعَلُ القاصرَ متعدياً كما تقدَّم في موَّت المال ، ونَزَّل كان قاصراً فصار بالتضعيفِ متعدِّياً ، فدلَّ على أن تضعيفه للنقل لا للتكثير ، وأيضاً كان يَحْتاج قولُه/ تعالى : { لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } [ الفرقان : 32 ] إلى تأويل ، وأيضاً فقد جاء التضعيفُ حيث لا يمكنُ فيه التكثيرُ نحو قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ } [ الأنعام : 37 ] { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَآءِ مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] إلا بتأويل بعيدٍ جداً ، إذ ليس المعنى على أنهم اقترحوا تكرير نزول آيةٍ ، ولا أنه عَلَّق تكريرَ نزولِ مَلَكٍ رسولٍ على تقديرِ كونِ ملائكةٍ في الأرض .

وفي قوله : " نَزَّلْنا " التفاتٌ من الغَيْبةِ إلى التكلُّمِ لأنَّ قبلَه : { اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } ، فلو جاء الكلامُ عليه لقيل : ممَّا نَزَّلَ على عبدِه ، ولكنه التفت للتفخيمِ . و " على عبدنا " متعلِّقٌ بنزَّلنا ، وعُدِّي ب " على " لإفادتها الاستعلاءَ ، كأنَّ المُنَزَّل تَمَكَّنَ من المنزولِ عليه ولبسه ، ولهذا جاء أكثرُ القرآن بالتعدِّي بها ، دونَ " إلى " ، فإنها تفيدُ الانتهاء والوصولَ فقط ، والإِضافة في " عبدِنا " تفيدُ التشريف كقوله :

يا قومِ قلبي عندَ زهْراءِ *** يَعْرِفُه السامعُ والرائي

لا تَدْعُني إلاَّ بيا عبدَها *** فإنه أَشْرَفُ أسمائي

وقُرئ : " عبادِنا " ، فقيل : المرادُ النبيُّ عليه السلام وأمته ، لأنَّ جَدْوَى المنزَّلِ حاصلٌ لهم . وقيل : المرادُ بهم جميعُ الأنبياءِ عليهم السلام .

قوله تعالى : " فَأْتُواْ " جوابُ الشرط ، والفاءُ هنا واجبةٌ لأنَّ ما بعدها لا يَصِحُّ أن يكونَ شرطاً بنفسِه ، وأصلُ فأْتُوا : اإْتِيُوا مثل : اضْربوا فالهمزة الأولى همزةُ وصلٍ أُتي بها للابتداءِ بالساكنِ ، والثانيةُ فاءُ الكلمةِ ، اجتمع همزتان ، وَجَبَ قَلْبُ ثانيهما ياءً على حدِّ " إيمان " وبابِه ، واستُثْقِلَتِ الضمةُ على الياءِ التي هي لامُ الكلمةِ فَقُدِّرَتْ ، فَسَكَنَتِ الياءُ وبعدها واوُ الضميرِ ساكنةٌ فَحُذِفَتِ الياءُ لالتقاءِ الساكنينِ ، وضُمَّتِ التاءُ للتجانُسِ فوزنُ ايتوا : افْعُوا ، وهذه الهمزةُ إنما يُحتاجُ إليها ابتداءً ، أمَّا في الدَّرْجِ فإنه يُسْتَغْنى عنها وتعودُ الهمزةُ التي هي فاءُ الكلمةِ لأنها إنما قُلِبَت ياءً للكسر الذي كان قبلها ، وقد زال نحو : " فَأْتوا " وبابِه وقد تُحْذَفُ الهمزةُ التي هي فاءُ الكلمةِ في الأمرِ كقوله :

فإنْ نحنُ نَنْهَضْ لكم فَنَبُرَّكُمْ *** فَتُونا فعادُونا إذاً بالجرائمِ

يريد : فَأْتونا كقوله : فَأْتوا . وبسورة متعلق ب أتوا " .

قوله تعالى : { مِّن مِّثْلِهِ } في الهاء ثلاثةُ أقوالٍ ، أحدُها : أنها تعودُ على ما نَزَّلنا ، فيكون مِنْ مثله صفةً لسورة ، ويتعلّقُ بمحذوفٍ على ما تقرَّر ، أي : بسورةٍ كائنةٍ من مثلِ المنزَّل في فصاحتِه وإخبارِه بالغُيوبِ وغيرِ ذلك ، ويكونُ معنى " مِنْ " التبعيضَ ، وأجاز ابن عطية والمهدوي أن تكون للبيان ، وأجازا هما وأبو البقاء أن تكون زائدةً ، ولا تجيء إلا على قول الأخفش .

الثاني : أنها تعودُ على " عبدِنا " فيتعلَّقُ " من مثله " بأْتُوا ، ويكون معنى " مِنْ " ابتداءَ الغاية ، ويجوز على هذا الوجه أيضاً أن تكونَ صفةً لسورة ، أي : بسورةٍ كائنة من رجلٍ مثلِ عبدِنا . الثالث : قال أبو البقاء : " إنها تعود على الأنداد بلفظِ المفرد كقوله : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] قلت : ولا حاجةَ تَدْعو إلى ذلك ، والمعنى يَأْباه أيضاً .

والسُّورة : الدرجةُ الرفيعة ، قال النابغة :

ألم ترَ أنَّ الله أعطاكَ سُورةً *** ترى كلَّ مَلْكٍ دونَها يَتَذَبْذَبُ

وسُمِّيَتْ سورةُ القرآنِ بذلك لأنَّ صاحبَها يَشْرُفُ بها وَترْفَعُه . وقيل : اشتقاقُها من السُّؤْر وهو البَقِيَّة ، ومنه " أَسْأَروا في الإِناء " قال الأعشى :

فبانَتْ وقد أَسْأَرَتْ في الفؤا *** دِ صَدْعاً على نَأَيِها مُسْتطيرا

أي : أَبْقَتْ ، ويَدُلُّ على ذلك أنَّ تميماً وغيرَها يهمزون فيقولون : سُؤْرة بالهمز ، وسُمِّيت سورةُ القرآن بذلك لأنها قطعةٌ منه ، وهي على هذا مخففةٌ من الهمزة ، وقيل : اشتقاقُها من سُورِ البِناءِ لأنها تُحيط بقارئها وتحفظُه كسُورِ المدينة ، ولكنَّ جَمْعَ سُورةِ القرآن سُوَر بفتح الواو ، وجَمْعَ سُورةِ البِناء سُوْر بسكونِها فَفرَّقوا بينها في الجمعِ .

قوله تعالى : { وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم } هذه جملةُ أمرٍ معطوفةٌ على الأمر قبلها ، فهي في محلِّ جَزْم أيضاً . ووزنُ ادْعُوا : افْعُوا لأن لام الكلمةِ محذوفٌ دلالةً على السكونِ في الأمر/ الذي هو جَزْم في المضارع ، والواوُ ضميرُ الفاعِلِين و " شهداءَكم " مفعولٌ به جمعُ شهيد كظريف ، وقيل : بل جمعُ شاهد كشاعر والأولُ أَوْلى لاطِّراد فُعَلاء في فَعِيل دونَ فاعلِ والشهادةُ : الحضور .

و { مِّن دُونِ اللَّهِ } متعلقٌ بادْعُوا ، أي : ادْعُوا مِنْ دونِ الله شهداءكم ، فلا تستشهدوا بالله ، فكأنه قال : وادعُوا من غير الله مَنْ يشهَدْ لكم ، ويُحتمل أَنْ يَتَعَلَّقَ ب " شهداءَكم " ، والمعنى : ادعُوا مَن اتخذتموه آلهةً مِنْ دونِ الله وَزَعَمْتُم أنهم يَشْهدون لكم بصحةِ عبادتِكم إياهم ، أو أعوانكم مِنْ دون أولياء الله ، أي الذين تستعينون بهم دونَ الله . أو يكونُ معنى " مِنْ دونِ الله " بين يدي الله كقوله :

تُريك القَذَى مِنْ دونِها وهي دونَه *** لوجهِ أخيها في الإِناءِ قُطُوبُ

أي : تريكَ القذى قُدَّامها وهي قُدَّامه لرقتِها وصفائها .

واختار أبو البقاء أن يكون { مِّن دُونِ اللَّهِ } حالاً من " شهداءكم " ، والعاملُ فيه محذوفٌ ، قال : " تقديرُه : شهداءَكم منفردين عنِ الله أو عن أنصارِ الله " .

و " دونَ " مْنِ ظروف الأمكنة ، ولا تَتَصَرَّف على المشهورِ إلا بالجرِّ ب " مِنْ " ، وزعم الأخفش أنها متصرِّفة ، وجَعَل من ذلك قولَه تعالى :

{ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } [ الجن : 11 ] قال : " دونَ " مبتدأ ، و " منَّا " خبرُه ، وإنما بُني لإِضافتِه إلى مبني ، وقد شَذَّ رفعُه خبراً في قولِ الشاعر :

ألم تَرَ أنِّي قد حَمَيْتُ حقيقتي *** وباشَرْتُ حدَّ الموتِ والموتُ دونُها

وهو من الأسماءِ اللازمةِ للإِضافةِ لفظاً ومعنىً . وأمّا " دون " التي بمعنى رديء فتلك صفةٌ كسائرِ الصفات ، تقول : هذا ثوبٌ دونٌ ، ورأيت ثوباً دوناً ، أي : رديئاً ، وليستْ ممَّا نحن فيه .

قوله تعالى : { إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } هذا شرطٌ حُذِفَ جوابُه للدلالة عليه ، تقديره : إنْ كنتم صادِقين فافعلوا ، ومتعلَّقُ الصدقِ محذوفٌ ، والظاهرُ تقديرُه هكذا : إنْ كنتم صادقين في كونكم في رَيْبٍ من المنزَّل على عبدِنا أنه من عندنا . وقيل : فيما تَقْدِرون عليه من المعارضة ، وقد صَرَّح بذلك عنهم في آية أخرى حيث قال تعالى حاكياً عنهم : { لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا } [ الأنفال : 31 ] . والصدقُ ضدُّ الكذبِ ، وقد تقدَّم فَيُعْرَفُ مِنْ هناك ، والصديقُ مشتقٌّ منه لصِدْقِه في الودِّ والنصحِ ، والصِّدْقُ من الرماح : الصُّلبة .