إن : حرف ثنائي الوضع يكون شرطاً ، وهو أصل أدواته ، وحرف نفي ، وفي إعماله إعمال ما الحجازية خلاف ، وزائداً مطرداً بعد ما النافية ، وقبل مدة الإنكار ، ولا تكون بمعنى إذ خلافا لزاعمه ، ولا يعد من مواضعه المخففة من الثقيلة لأنها ثلاثية الوضع ، ولذلك اختلف حكمها في التصغير .
العبد : لغة المملوك الذكر من جنس الإنسان ، وهو راجع لمعنى العبادة ، وتقدم شرحها .
الإتيان : المجيء ، والأمر منه : ائت ، كما جاء في لفظ القرآن ، وشذ حذف فائه في الأمر قياساً واستعمالاً ، قال الشاعر :
تِ لي آل عوف فاندهم لي جماعة *** وسلٍ آل عوف أي شيء يضيرها
فإن نحن لم ننهض لكم فنبركم *** فتوناً قفوا دوناً إذن بالجرائم
ألم تر أن الله أعطاك سورة ؟ وسميت سورة القرآن بها لأن قارئها يشرف بقراءتها على من لم تكن عنده ، كسور البناء .
وقيل : لتمامها وكمالها ، ومنه قيل للناقة التامة : سورة ، أو لأنها قطعة من القرآن ، من أسأرت ، والسؤر فأصلها الهمز وخففت ، قاله أبو عبيدة ، والهمز فيها لغة .
من مثله : المماثلة تقع بأدنى مشابهة ، وقد ذكر سيبويه ، رحمه الله ، أن : مررت برجل مثلك ، يحتمل وجوهاً ثلاثة ، ولفظه مثل لازمة الإضافة لفظاً ، ولذلك لحن بعض المولدين في قوله :
ومثلك من يملك الناس طراً *** على أنه ليس في الناس مثل
ولا يكون محلاً خلافاً للكوفيين .
وله في باب الصفة ، إذا جرى على مفرد ومثنى ومجموع ، حكم ذكر في النحو .
الشهداء : جمع شهيد ، للمبالغة ، كعليم وعلماء ، ولا يبعد أن يكون جمع شاهد ، كشاعر وشعراء ، وليس فعلاء باب فاعل ، دون : ظرف مكان ملازم للظرفية الحقيقية أو المجازية ، ولا يتصرف فيه بغير من .
قال سيبويه : وأما دونك فلا يرفع أبداً .
قال الفراء : وقد ذكر دونك وظروفاً نحوها لا تستعمل أسماء مرفوعة على اختيار ، وربما رفعوا .
وظاهر قول الأخفش : جواز تصرفه ، خرج قوله تعالى { ومنا دون ذلك } على أنه مبتدأ وبني لإضافته إلى المبنى ، وقد جاء مرفوعاً في الشعر أيضاً ، قال الشاعر :
ألم ترني أني حميت حقيبتي *** وباشرت حد الموت والموت دونها
وتجيء دون صفة بمعنى رديء ، يقال : ثوب دون ، أي رديء ، حكاه سيبويه في أحد قوليه ، فعلى هذا يعرب بوجوه الإعراب ويكون دون مشتركاً .
الصدق : يقابله الكذب ، وهو مطابقة الخبر للمخبر عنه .
{ وإن كنتم في ريب } نزلت في جميع الكفار .
وقال ابن عباس ومقاتل : نزلت في اليهود ، وسبب ذلك أنهم قالوا : هذا الذي يأتينا به محمد لا يشبه الوحي وإنا لفي شك منه ، والأظهر القول الأول .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما احتج تعالى عليهم بما يثبت الوحدانية ويبطل الإشراك ، وعرفهم أن من جعل لله شريكاً فهو بمعزل من العلم والتمييز ، أخذ يحتج على من شك في النبوة بما يزيل شبهته ، وهو كون القرآن معجزة ، وبين لهم كيف يعلمون أنه من عند الله أم من عنده ، بأن يأتوا هم ومن يستعينون به بسورة هذا ، وهم الفصحاء البلغاء المجيدون حوك الكلام ، من الثار والنظام والمتقلبون في أفانين البيان ، والمشهود لهم في ذلك بالإحسان .
ولما كانوا في ريب حقيقة ، وكانت إن الشرطية إنما تدخل على الممكن أو المحقق المبهم زمان وقوعه ، ادعى بعض المفسرين أن إن هنا معناها : إذا ، لأن إذا تفيد مضي ما أضيفت إليه ، ومذهب المحققين أن إن لا تكون بمعنى إذا .
وزعم المبرد ومن وافقه أن لكان الماضية الناقصة معان حكماً ليست لغيرها من الأفعال الماضية ، فلقوة كان زعم أن إن لا يقلب معناها إلى الاستقبال ، بل يكون على معناه من المضي إن دخلت عليه إن ، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من أن كان كغيرها من الأفعال ، وتأولوا ما ظاهره ما ذهب إليه المبرد ، إما على إضمار يكن بعد إن نحو : { إن كان قميصه قدّ } أي إن يكن كان قميصه ، أو على أن المراد به التبيين ، أي أن يتبين كون قميصه قدّ .
فعلى قول أبي العباس يكون كونهم في ريب ماضياً ، ويصير نظير ما لو جاء إن كنت أحسنت إليّ فقد أحسنت إليك ، إذا حمل على ظاهره ولم يتأول .
ولهذا قال بعض المفسرين في قوله : { وإن كنتم في ريب } : جرى كلام الله فيه على التحقيق ، مثال قول الرجل لعبده : إن كنت عبدي فأطعني لأن الله تعالى عالم بما تكنه القلوب ، قال : وبين هذا أن سبب نزول هذه الآية قول اليهود : وإنا لفي شك مما جاء به ، وجعلها بمعنى إذا وكان ماضيه اللفظ والمعنى ، أو مثل قول القائل : إن كنت عبدي فأطعني ، فراراً من جعل ما بعد إن مستقبل المعنى وذلك ممكن ، ولا تنافي بين إن كانوا في ريب فيما مضى وإن تعلق على كونهم في ريب في المستقبل ، لأن الماضي من الجائز أن يستدام ، بأن يظهر لمعتقد الريب فيما مضى خلاف ذلك فيزول عنه الريب ، فقيل : وإن كنتم ، أي : وإن تكونوا في ريب ، باستصحاب الحالة الماضية التي سبقت لكم ، فأتوا ، وهذا مثل من يقول لولده العاق له : إن كنت تعصيني فارحل عني ، فمعناه : إن تكن في المستقبل تعصيني فارحل عني ، لا يريد التعليق على الماضي ، ولا أن إن بمعنى إذا ، إذ لا تنافي بين تقدّم العصيان وتعليق الرحيل على وقوعه في المستقبل ، ولا حاجة إلى جعل ما يثبت حرفيته بمعنى إذا الظرفية .
وقد تقدّم لنا أنه لا تنافي بين قوله تعالى : { لا ريب فيه } وبين قوله : { وإن كنتم في ريب } عند الكلام على قوله : { لا ريب فيه } .
وفي ريب من تنزيل المعاني منزلة الأجرام .
ومن تحتمل ابتداء الغاية والسببية ، ولا يجوز أن تكون للتبعيض .
وما موصولة ، أي من الذي نزلنا ، والعائد محذوف ، أي نزلناه ، وشرط حذفه موجود .
وأجاز بعضهم أن تكون ما نكرة موصوفة ، وقد تقدم لنا الكلام على ما النكرة الموصوفة ، ونزلنا التضعيف فيه هنا للنقل ، وهو المرادف لهمزة النقل .
ويدل على مرادفتهما في هذه الآية قراءة يزيد بن قطيب مما أنزلنا بالهمزة ، وليس التضعيف هنا دالاً على نزوله منجماً في أوقات مختلفة ، خلافاً للزمخشري ، قال : فإن قلت لم قيل : مما نزلنا على لفظ التنزيل دون الإنزال ؟ قلت : لأن المراد النزول على التدريج والتنجيم ، وهو من مجازه لمكان التحدي .
وهذا الذي ذهب إليه الزمخشري في تضعيف عين الكلمة هنا ، هو الذي يعبر عنه بالتكثير ، أي يفعل ذلك مرة بعد مرة ، فيدل على هذا المعنى بالتضعيف ويعبر عنه بالكثرة .
وذهل الزمخشري عن إن ذلك إنما يكون غالباً في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية ، نحو : جرحت زيداً ، وفتحت الباب ، وقطعت ، وذبحت ، لا يقال : جلس زيد ، ولا قعد عمرو ، ولا صوم جعفر ، ونزلنا لم يكن متعدياً قبل التضعيف إنما كان لازماً ، وتعديه إنما يفيده التضعيف أو الهمزة ، فإن جاء في لازم فهو قليل .
قالوا : مات المال ، وموّت المال ، إذا كثر ذلك فيه ، وأيضاً ، فالتضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل ، أما أن يجعل اللازم متعدياً فلا ، ونزلنا قبل التضعيف كان لازماً ولم يكن متعدياً ، فيكون التعدي المستفاد من التضعيف دليلاً على أنه للنقل لا للتكثير ، إذ لو كان للتكثير ، وقد دخل على اللازم ، بقي لازماً نحو : مات المال ، وموّت المال .
وأيضاً فلو كان التضعيف في نزل مفيداً للتنجيم لاحتاج قوله تعالى :
{ لولا نُزِّل عليه القرآن جملة واحدة } إلى تأويل ، لأن التضعيف دال على التنجيم والتكثير ، وقوله : { جملة واحدة } ينافي ذلك .
وأيضاً فالقراءات بالوجهين في كثير مما جاء يدل على أنهما بمعنى واحد .
وأيضاً مجيء نزل حيث لا يمكن فيه التكثير والتنجيم إلا على تأويل بعيد جداً يدل على ذلك .
قال تعالى : { وقالوا لولا نزل عليه آية } وقال تعالى : { قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً } ليس المعنى على أنهم اقترحوا تكرير نزول الآية ، ولا أنه علق تكرير نزول ملك رسول على تقدير كون ملائكة في الأرض ، وإنما المعنى ، والله أعلم ، مطلق الإنزال .
وفي نزلنا التفات لأنه انتقال من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم ، لأن قبله { اعبدوا ربكم } و { فلا تجعلوا لله أنداداً } .
فلو جرى الكلام على هذا السياق لكان مما نزل على عبده ، لكن في هذا الالتفات من التفخيم للمنزل والمنزل عليه ما لا يؤديه ضمير غائب ، لاسيما كونه أتى بنا المشعرة بالتعظيم التام وتفخيم الأمر ونظيره ، { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا } وتعدي نزل بعلى إشارة إلى استعلاء المنزل على المنزل عليه وتمكنه منه ، وأنه قد صار كالملابس له ، بخلاف إلى فإنها تدل على الانتهاء والوصول .
ولهذا المعنى الذي أفادته على تكرار ذلك في القرآن في آيات ، قال تعالى : { نزل عليك الكتاب بالحق } { طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } { هو الذي أنزل عليك الكتاب } وفي إضافة العبد إليه تعالى تنبيه على عظيم قدره ، واختصاصه بخالص العبودية ، ورفع محله وإضافته إلى نفسه تعالى ، واسم العبد عام وخاص ، وهذا من الخاص :
لا تدعني إلا بيا عبدها *** لأنه أشرف أسمائي
ومن قرأ : على عبادنا بالجمع ، فقيل : يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته ، قاله الزمخشري ، وصار نظير قوله تعالى : أن يقولوا : { إنما أنزل الكتاب على ظائفتين من قبلنا } لأن جدوى المنزل والهداية الحاصلة به من امتثال التكاليف ، والموعود على ذلك لا يختص بل يشترك فيه المتبوعون والتباع ، فجعل كأنه نزل عليهم .
وذلك نوع من المجاز يجعل فيه من لم يباشر الشيء إذا كان مكلفاً به منزلة من باشر ، ويحتمل أن يريد به النبيين الذين أنزل عليهم الوحي ، والكتب والرّسول أول مقصود بذلك ، وأسبق داخل في العموم ، لأنه هو الذي طلب معاندوه بالتحدي في كتابه ، ويكون ذلك خطاباً لمنكري النبوات ، كما قال تعالى ، حكاية عن بعضهم : { وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء } ويحتمل أن يراد بالمفرد الجمع .
وتبينه هذه القراءة كقوله تعالى : { واذكر عبدنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار } في قراءة من أفرد ، فيكون إذ ذاك للجنس .
فأتوا بسورة : طلب منهم الإتيان بمطلق سورة ، وهي القطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات ، فلم يقترح عليهم الإتيان بسورة طويلة فتعنتوا في ذلك ، بل سهل عليهم وأراح عليهم بطلب الإتيان بسورة ما ، وهذا هو غاية التبكيت والتخجيل لهم .
فإذا كنتم لا تقدرون أنتم ولا معاضدوكم بالإتيان بسورة من مثله ، فكيف تزعمون أنه من جنس كلامكم ؟ وكيف يلحقكم في ذلك ارتياب أنه من عند الله ؟
وقد تعرض الزمخشري هنا لذكر فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً ، وليس ذلك من علم التفسير ، وإنما هو من فوائد التفصيل والتسوير .
من مثله : الهاء عائدة على ما ، أو على عبدنا ، والراجح الأول وهو قول أكثر المفسرين ورجحانه من وجوه : أحدها : أن الارتياب أولاً إنما جيء به منصباً على المنزل لا على المنزل عليه ، وإن كان الريب في المنزل ريباً في المنزل عليه بالالتزام ، فكان عود الضمير عليه أولى .
الثاني : أنه قد جاء في نظير هذه الآية وهذا السياق قوله : { فأتوا بسورة من مثله } ، { فأتوا بعشر سور مثله مفتريات } { على أن يأتوا مثل هذا القرآن لا يأتون بمثله } الثالث : اقتضاء ذلك كونهم عاجزين عن الإتيان ، سواء اجتمعوا أو انفردوا ، وسواء كانوا أميين أم كانوا غير أميين ، وعوده على المنزل يقتضي كون آحاد الآدميين عاجزاً عنه ، لأنه لا يكون مثله إلا الشخص الواحد الأمي .
فأما لو اجتمعوا أو كانوا قارئين فلا شك أن الإعجاز على الوجه الأول أقوى ، فإذا جعلنا الضمير عائداً على المنزل ، فمن : للتبعيض وهي في موضع الصفة لسورة أي بسورة كائنة من مثله .
ويظهر من كلام الزمخشري تناقض في من هذه قال : من مثله متعلق بسورة صفة لها ، أي بسورة كائنة من مثله فقوله متعلق بسورة يقتضي أن يكون معمولاً لها ، وقوله صفة لها ، أي بسورة كائنة من مثله يقتضي أن لا يكون معمولاً لها فتناقض كلامه ودافع آخره أوله ، ولكن يحمل على أنه لا يريد التعلق الصناعي كتعلق الباء في نحو : مروري بزيد حسن ، لكنه يريد التعلق المعنوي ، أي تعلق الصفة بالموصوف ، واحترز من القول الآخر أنها تتعلق بقوله : فأتوا ، فلا يكون من مثله عائداً على المنزل ، على ما سيأتي تبيينه إن شاء الله .
وأجاز المهدوي وأبو محمد بن عطية أن تكون لبيان الجنس على تقدير أن يكون الضمير عائداً على المنزل ، وتفسر المثلية بنظمه ورصفه وفصاحة معانيه التي تعرفونها ، ولا يعجزهم إلا التأليف الذي خص به القرآن ، أو في غيوبه وصدقه ، وأجازا على هذا الوجه أيضاً أن تكون زائدة ، وستأتي الأقوال في تفسير المثلية على عود الضمير إلى المنزل ، إن شاء الله .
وقد اختلف النحويون في إثبات هذا المعنى لمن ، والذي عليه أصحابنا أن من لا تكون لبيان الجنس ، والفرق بين كونها للتبعيض ولبيان الجنس مذكور في كتب النحو .
وأما كونها زائدة في هذا الموضع فلا يجوز ، على مذهب الكوفيين وجمهور البصريين .
وفي المثلية على كون الضمير عائداً على المنزل أقوال : الأول : من مثله في حسن النظم ، وبديع الرصف ، وعجيب السرد ، وغرابة الأسلوب وإيجازه وإتقان معانيه .
الثاني : من مثله في غيوبه من إخباره بما كان وبما يكون .
الثالث : في احتوائه على الأمر ، والنهي ، والوعد ، والوعيد ، والقصص ، والحكم ، والمواعظ ، والأمثال .
الرابع : من مثله في صدقه وسلامته من التبديل والتحريف .
الخامس : من مثله ، أي كلام العرب الذي هو من جنسه .
السادس : في أنه لا يخلق على كثرة الرد ، ولا تمله الأسماع ، ولا يمحوه الماء ، ولا تغنى عجائبه ، ولا تنتهي غرائبه ، ولا تزول طلاوته على تواليه ، ولا تذهب حلاوته من لهوات تاليه .
السابع : من مثله في دوام آياته وكثرة معجزاته .
الثامن : من مثله ، أي مثله في كونه من كتب الله المنزلة على من قبله ، تشهد لكم بأن ما جاءكم به ليس هو من عند الله ، كما قال تعالى : { قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } وإن جعلنا الضمير عائداً على المنزل عليه ، فمن متعلقة بقوله : فأتوا من مثل الرسول بسورة .
ومعنى من على هذا الوجه ابتداء الغاية ، ويجوز أن تكون في موضع الصفة فتتعلق بمحذوف .
وهي أيضاً لابتداء الغاية ، أي بسورة كائنة من رجل مثل الرسول ، أي ابتداء كينونتها من مثله .
وفي المثلية على كون الضمير عائداً على المنزل على أقوال : الأول : من مثله من أمي لا يحسن الكتابة على الفطرة الأصلية .
الثاني : من مثله لم يدارس العلماء ، ولم يجالس الحكماء ، ولم يؤثر عنه قبل ذلك تعاطي الأخبار ، ولم يرحل من بلده إلى غيره من الأمصار .
الثالث : من مثله على زعمكم أنه ساحر شاعر مجنون .
الرابع : من مثله من أبناء جنسه وأهل مدرته ، وذكر المثل في قوله : من مثله هو على سبيل الفرض على أكثر الأقوال التي فسرت بها المماثلة ، إذا كان الضمير عائداً على المنزل ، وعلى بعضها لا يكون على سبيل الفرض ، وهو على قول من فسر أنه أراد بالمثل : كلام العرب الذي هو من جنسه ، وأما إذا كان عائداً على المنزل عليه فليس على سبيل الفرض ، لوجود أمي لا يحسن الكتابة ، ولوجود من لم يدارس العلماء ، ولوجود من هو ساحر على زعمهم ذلك في المنزل عليه .
واختار الزمخشري أن لا مثل ولا نظير .
قال بعد أن فسر المثل على تقدير عود الضمير على المنزل : فأتوا بسورة مما هو على صفته في البيان الغريب وعلو الطبقة في حسن النظم ، وعلى تقدير عوده على المنزل عليه ، أو فأتوا ممن هو على حاله من كونه بشراً عربياً أو أمياً لم يقرأ الكتب ولم يأخذ من العلماء ، قال الزمخشري ، ولا قصد إلى مثل ونظير هنالك ، ولكنه نحو قول القبعثري للحجاج ، وقال له : لأحملنك على الأدهم مثل الأمير حمل على الأدهم والأشهب .
أراد من كان على صفة الأمير من السلطان والقوة وبسطة اليد ، ولم يقصد أحداً يجعله مثلاً للحجاج .
وعلى ما فسرت به المماثلة إذ جعل الضمير عائداً على المنزل عليه ، وقد تقدم بيان وجود المثل ، وعلى أنه عائد على المنزل يمكن وجوده في بعض تفاسير المماثلة .
فقول الزمخشري : لا مثل ولا نظير مع تفسيره المماثلة في كونه بشراً عربياً أو أمياً لم يقرأ الكتب ليس بصحيح ، لأن المماثل في هذا الشيء الخاص موجود .
ولما طلب منهم المعارضة بسورة على تقدير حصولهم في ريب من كونه من عند الله ، لم يكتف بقولهم ذلك بأنفسهم ، حتى طلب منهم أن يدعو شهداءهم على الاجتماع على ذلك والتظافر والتعاون والتناصر ، فقال : { وادعوا شهداءكم } ، وفسر هنا ادعوا : باستغيثوا .
قال أبو الهيثم : الدعاء طلب الغوث ، دعا : استغاث وباستحضروا دعا فلان فلاناً إلى الحاكم ، استحضره ، وشهداؤهم : آلهتهم ، فإنهم كانوا يعتقدون أنهم يشهدون لهم عند الله ، قاله ابن عباس ، والسدي ، ومقاتل ، والفراء ، أو من يشهدهم ويحضرهم من الأعوان والأنصار ، قاله ابن قتيبة .
وروي عن ابن عباس ، أو من يشهد لكم ، أن ما تأتون به مثل القرآن ، روي عن مجاهد وكونه جمع شهيد أحسن من جمع شاهد لجريانه على قياس جمع فعيل نحو : هذا ولما في فعيل من المبالغة وكأنه أشار إلى أن يأتوا بشهداء بالغين في الشهادة يصلحون أن تقام بهم الحجة .
{ من دون الله } : تتعلق بادعوا ، أي وادعوا من دون الله شهداءكم ، أي لا تستشهدوا بالله فتقولوا : الله يشهد أن ما ندعيه حق ، كما يقول العاجز عن إقامة البينة : بل ادعوا من الناس الشهداء الذين شهادتهم تصحح بها الدعاوى ، فكأنه قال : وادعوا من غير الله من يشهد لكم ، ويحتمل أن يتعلق من دون الله ب ( شهداءكم ) .
والمعنى : ادعوا من اتخذتموهم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أنكم على الحق ، أو أعوانكم من دون الله ، أي من دون أولياء الله الذين يستعينون بهم دون الله ، أو يكون معنى من دون الله : بين يدي الله ، كما قال الأعشى :
تريك القذى من دونها وهي دونه***
أي تريك القذى قدامها ، وهي قدام القذى لرقتها وصفائها .
وأمره تعالى إياهم بالمعارضة وبدعاء الأنصار والأعوان ، مع علمه أنهم لا يقدرون على ذلك ، أمر تهكم وتعجيز .
وقد بين تعالى بعد ذلك أن ذلك لا يقع منهم سيما تفسير الشهداء بآلهتهم لأنها جماد لا تنطق ، فالأمر بأن يستعينوا بما لا ينطق في معارضة المعجز غاية التهكم بهم ، فظاهر قوله : { إن كنتم صادقين } معناه : في كونكم في ريب من المنزل على عبدنا أنه من عندنا ، وقيل : فيما تقتدرون عليه من المعارضة .
{ لو نشاء لقلنا مثل هذا } لكن لم يجر ذكر المعارضة في هذه الآية ، إلا أن كونهم في ريب يقتضي عندهم أنه ليس من عند الله ، وما لم يكن من عند الله فهو عندهم تمكن معارضته ، فيحتمل أن يكون المعنى : إن كنتم صادقين في القدرة على المعارضة .
ولما كان أمره تعالى إياهم بالإتيان بسورة من مثله أمر تهكم وتعجيز لأنهم غير قادرين على ذلك ، انتقل إلى إرشادهم ، إذ ليسوا بقادرين على المعارضة ، وأمرهم باتقاء النار التي أعدت لمن كذب ، وأتى بإن ، وإن كان من مواضع إذا تهكماً بهم ، كما يقول القائل : إن غلبتك لم أبق عليك ، وهو يعلم أنه غالب ، أو أتى بإن على حسب ظنهم ، وإن المعجز منهم كان قبل التأمل ، كالمشكوك فيه عندهم لاتكالهم على فصاحتهم .