اعلم أنه سبحانه لما أقام الدلائل القاطعة على إثبات الصّانع ، وأبطل القول بالشريك عقبه بما يدلُّ على{[841]} النبوة ، ولما كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مبنية على كون القرآن معجزاً أقام الدلالة على كونه معجزاً . واعلم أن كونه معجزاً يمكن بيانه من طريقين :
الأول : ألا يخلو حاله من أحد وجوه ثلاثة :
إما أن يكون مساوياً لكلام الفصحاء ، أو زائداً على كلام الفصحاء بقدر لا ينقض{[842]} العادة ، أو زائداً عليه بقدر ينقض العادة ، والقسمان الأولان باطلان فتعين الثالث .
وإنما قلنا : إنهما باطلان ؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يأتوا [ بمثل سورة منه ]{[843]} إما مجتمعين ، أو منفردين ، فإذا{[844]} وقع التَّنَازع ، فالشهود والحكام مزيلون الشبهة وذلك نهاية الاحتجاج ؛ لأنه كان من معرفة اللغة والاطلاع على قوانين الفصاحة في الغاية ، وكانوا في محبة إبطال أمره في الغاية حتى بذلوا النفوس والأموال ، وارتكبوا المهالك والمحن ، وكانوا في الحمية والأنفة على حد لا يقلبون الحق ، فكيف الباطل ، وكل ذلك يوجب الإتيان بما يقدح في قوله ، فلما لم يأتوا بمثلها علمنا عجزهم عنها ، فثبت أن القرآن لا يماثل قولهم ، وأنَّ التفاوت بينه وبين كلامهم ليس تفاوتاً معتاداً ، فهو إذن تفاوت ناقص للعادة ، فوجب أن يكون معجزاً .
واعلم أنه قد اجتمع في القرآن وجوه كثيرة ، تدلُّ على أنه أبلغ في الفصاحة النهاية التي لا غاية لها :
أحدها : أن فصاحة العرب أكثرها في وصف المشاهدات مثل وصف بعير ، أو فرس ، أو جارية ، أو ملك ، أو ضربة{[845]} ، أو طعنة أو وصف حرب ، أو وصف غارة ، وليس في القرآن شيء من هذا ، فكان يجب على هذا ألا يحصل فيه شيء من الفصاحة ، التي اتفقت العرب في كلامهم عليها .
وثانيها : أنه - تعالى - راعي فيه [ طريقة ]{[846]} الصِّدق ، وتنزَّه عن الكذب في جميعه ، وكل شاعر ترك الكذب ، ولزم الصدق زكي{[847]} شعره ، ألا ترى لبيد بن ربيعة ، وحسان بن ثابت لما أسلما زكي شعرهما ، [ ولم يكن شعرهما ]{[848]} الإسلامي في الوجوه كشعرهما في الجاهلية ، والقرآن مع لزوم الصدق وتنزُّهه عن الكذب بلغ الغاية في الفصاحة كما ترى .
وثالثها : أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح في القصيدة كلها ، إنما هو بيت أو بيتان والباقي ليس كذلك ، وأما القرآن فكله فصيح ، فعجز الخلق عن بعضه كما عجزوا عن جملته .
ورابعها : أن كل من وصف شيئاً بشعر ، فإن كرره لم يكن كلامه الثَّاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأول ، وأما القرآن ففيه تكرار كثير ، وهو في غاية الفَصَاحة ، ولم يظهر التفاوت أصلاً .
وخامسها : أنهم قالوا : شعر امرئ القيس يحسن عند الطَّرب ، وذكر النِّسَاء ، وصفة الخَيْلِ ، وشعر النابغة عند الخوف ، وشعر الأعشى{[849]} عند الطَّلَبِ ، ووصف الخَمْرِ ، وزهير عند الرَّغْبَةِ والرجاء ، وبالجملة فكل شاعر يحسن كلامه في فَنٍّ ، ويضعف كلامه في غيره ، والقرآن جاء فصيحاً في كل الفنون .
وسادسها : أن القرآن أصل للعلوم كلها ، فعلم الكلام كلّه في القرآن ، وعلم الفقه مأخوذ من القرآن ، وكذا علم أصول الفقه ، وعلم النحو ، واللغة ، وعلم الزهد في الدُّنيا ، وأخبار الآخرة ، واستعمال مكارم الأخلاق .
وأما الطريق الثاني : أن يقول : القرآن لا يخلو إما أن يكون بالغاً في الفصاحة إلى حَدّ الإعجاز ، أو لم يكن ، فإن كان الأول ثبت أنه معجز ، وإن كان الثاني كانت المُعَارضة على هذا التقدير ممكنة ، فعدم إتيانهم بالمُعَارضة ، مع توفُّر داعيهم على الإتيان بها ، أمر خارق للعادة ، فكان ذلك معجزاً ، فثبت أنَّ القرآن معجز على جميع الوجوه .
" إن " حرف شرط يجزم فعلين : شرطاً وجزاءً ، فلا تقول : " إن غربت الشمس " .
فإن قيل : فكيف قال هاهنا : { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ } ، وهذا خطاب مع الكفار ، والله تَعَالَى يعلم أنهم في ريب ، وهم يعلمون ويقرون أنهم في ريب ، ومع ذلك فالتعليق حسن .
فالجواب : الخصائص الإلهية لا تدخل في الأوضاع العربية ، بل الأوضاع العربية مبنيّة على خصائص الخلق ، والله - تعالى - أنزل القرآن بلغة العرب ، وعلى منوالهم ، فكل ما كان في لغة العرب حسناً نزل القرآن على ذلك الوجه ، وما كان نسخاً في لسان العرب لم ينزل في القرآن ، فثبت بهذا أن كل ما جاء في العادة مشكوكاً فيه بين الناس ، حسن تعليقه ، سواء كان من قبل الله - تعالى - أو من قبل غيره ، وسواء كان معلوماً للسَّامع أو المتكلّم أم لا ، وكذلك حسن قولك : إن كان زيد في الدار فأكرمه ، مع أنك تعلم أن زيداً في الدار ؛ لأن حصول زيد في الدار ، شأنه أن يكون في العادة مشكوكاً فيه ، ولا يكون إلاَّ في المحتمل وقوعه ، وهي أم الباب ؛ فلذلك يحذف مجزومها كثيراً ، وقد يحذف الشَّرط والجزاء معاً ؛ قال : [ الرجز ]
قَالَتْ بَنَاتُ العَمِّ : يا سَلْمَى وَإِنْ *** كَانَ فَقِيراً مُعْدماً قَالَتْ : وَإِنْ{[850]}
وتكون " إن " نافية فتعمل وتهمل ، وتكون مخففة وزائدة باطِّراد وعدمه ، وأجاز بعضهم أن تكون بمعنى " إذا " ، وبعضهم أن تكون بمعنى " قد " ، ولها أَحْكَام كثيرة .
و " في ريب " خبر كان ، فيتعلّق بمحذوف ، ومحل " كان " الجزم ، وهي وإن كانت ماضية لفظاً فهي مستقبلة معنى .
وزعم المبرد أنَّ ل " كان " الناقصة حكماً مع " إنْ " ، ليس لغيرها من الأفعال الناقصة ، فزعم أنّه لقوة " كان " أنّ " إنْ " الشرطية لا تقلب معناها إلى الاستقبال ، بل تكون على مَعْنَاها من المُضِيّ ، وتبعه في ذلك أبو البَقَاءِ ، وعلل ذلك بأن كثيراً استعملوها غير دالّة على حدث{[851]} ، وهذا مردود عند الجمهور ، لأن التعليق إنما يكون في المستقبل ، وتأولوا ما ظاهره غير ذلك نحو : { إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ } [ يوسف : 26 ] إما بإضمار " يكن " بعد " إن " ، وإما على التبيين ، والتقدير : " إن يكن قميصه ، أو إن يتبين كونه قميصه " ولما خفي هذا المعنى على بعضهم جعل " إن " هنا بمنزلة " إذ " وقوله : " في ريب " مجاز من حيث إنه جعل الريب ظرفاً محيطاً بهم ، بمنزلة المكان لكثرة وقوعه منهم .
و " مِمَّا " يتعلّق بمحذوف ؛ لأنه صفة لريب ، فهو في محل جَرّ ، و " من " للسَّببية ، أو لابتداء الغاية ، ولا يجوز أن تكون للتبعيض ، ويجوز أن تتعلّق ب " ريب " أي : إن ارتبتم من أجل ، ف " من " هُنا للسَّببية ، و " ما " موصولة أو نكرة موصوفة ، والعائد على كلا القولين محذوف ، أي : نزلناه{[852]} ، والتضعيف في " نَزّلنا " هنا للتعدية مرادفاً لهمزة التعدي ، ويدلّ عليه قراءة{[853]} " أنزلنا " بالهمز ، وجعل الزمخشري التضعيف هنا دالاًّ على نزوله منجماً في أوقات مختلفة .
قال بعضهم : " وهذا الذي ذهب إليه في تضعيف الكلمة هنا ، هو الَّذي يعبر عنه بالتكثير أي يفعل مرة بعد مرة ، فيدل على ذلك بالتضعيف ويعبر عنه بالكثرة " قال : " وذهل{[854]} عن قاعدة ، وهي أن التضعيف الدّال على ذلك من شرطه أن يكون في الأفعال المتعدّية قبل التضعيف غالباً نحو : " جَرَّحْتُ زِيْداً ، وفَتَّحْتُ الباب " ، ولا يقال " جَلَّس زيدٌ " و " نَزَّل " [ لأنه ]{[855]} لم يكن متعدياً قبل التضعيف ، وإنَّ ما جعله متعدياً تضعيفه " .
وقوله : " غالباً " لأنه قد جاء التضعيف دالاًّ على الكثرة في اللاَّزم قليلاً نحو : " مَوَّت المال " ، وأيضاً فالتضعيف الدَّال على الكثرة لا يجعل القاصر متعدياً ، كما تقدم في " مَوَّتَ المال " و " نَزَّل " كان قاصراً ، فصار بالتضعيف متعدياً ، فدلّ على أنَّ تضعيفه للنقل لا للتكثير ، وأيضاً كان يحتاج قوله تعالى : { لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } [ الفرقان : 32 ] إلى تأويل ، وأيضاً فقد جاء التضعيف حيث لا يمكن فيه التكثير ، نحو قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ } [ الأنعام : 37 ] ، { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] إلا بتأويل بعيد جدًّا ، إذ ليس المعنى على أنهم اقترحوا تكرير نزول [ آية ، ولا أنه علق تكرير نزول ]{[856]} مَلَك رسول على تقدير كون ملائكة في الأرض .
وفي قوله : { نَزَّلْنَا } التفات من الغيبة إلى التكلّم ؛ لأن قبله : { اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } فلو جاء الكلام عليه لقيل : " مما نزّل عَلَى عَبْدِهِ " ولكن التفت للتفخيم .
و " عَلَى عَبْدِنَا " متعلّق ب " نَزَّلْنَا " وعُدِّي ب " على " لإفادتها الاستعلاء ، كأن المنزل تمكّن من المنزول{[857]} عليه ولبسه ، ولهذا جاء أكثر القرآن بالتعدّي بها دون " إلى " فإنها تفيد الانتهاء والوصول فقط ، والإضافة في " عبدنا " تفيد التشريف ؛ كقوله : [ السريع ]
يَا قَوْمِ قَلْبي عِنْدَ زَهْرَاءِ *** يَعْرِفُهُ السَّامِعُ وَالرَّائِي
لاَ تَدْعُنِي إلاَّ بِيَا عَبْدَهَا *** فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي{[858]}
وقرئ{[859]} " عبادنا " فقيل : المراد النبي - عليه الصلاة والسلام - وأمته ؛ لأن جدوى{[860]} المنزل حاصل لهم .
وقيل : المراد بهم جميع الأنبياء عليهم السلام .
والعبد : مأخوذ من التعبد ، وهو التذلل ؛ قال طَرَفَةُ : [ الطويل ]
إِلَى أَنْ تَحَامَتْنِي العَشِيرَةُ كُلُّها *** وأُفْرِدْتُ إِفْرَادَ البَعِيرِ المُعَبَّدِ{[861]}
ولما كانت العبادة أشرف الخصال والتسمّي بها أشرف الخطط سمَّى نبيه عبداً .
قوله : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ } جواب الشرط ، والفاء هنا واجبة ؛ لأن ما بعدها لا يصحّ أن يكون شرطاً بنفسه ، وأصل " فأتوا " " إأْتِيُوا " مثل : اضربوا ، فلهمزة الأولى همزة وصل أُتي بها للابتداء بالسَّاكن ، والثَّانية فاء الكلمة ، فلما اجتمع همزتان ، وجب قلب ثانيهما ياءً على حَدّ " إيمان " وبابه ، واستثقلت " الضمة " على " الياء " التي هي " لام " الكلمة فقدرت ، فسكنت " الياء " ، وبعدها " واو " الضمير ساكنة ، فحذفت " الياء " لالتقاء ساكنين ، وضُمّت " التاء " للتجانُسِ ، فوزن " ايتوا " : " افعوا " ، وهذه الهمزة إنما يحتاج إليها ابتداءً ، أما في الدَّرْج فإنه يُسْتَغْنَى عنها ، وتعودُ الهمزةُ التي هي " فاءُ " الكلمة ؛ لأنّها إنّما قُلِبَتْ ياءً للكسرِ الذي كان قبلها ، وقد زال نحو : " فأتوا " وبابه ، وقد تحذف الهمزة التي هي " فاء " الكلمة في الأمر كقوله : [ الطويل ]
فَإِنْ نَحْنُ لَمْ نَنْهَضْ لَكُمْ فَنَبَرَّكُمْ *** فَتُونَا فَعَادُونَا إذاً بَالجَرَائِمِ{[862]}
قال ابن كيسان : " وهو أمر معناه التعجيز ؛ لأنه - تعالى - علم عجزهم عنه " .
و " بسورة " متعلّق بأتُوا ، والسورة واحدة السُّوَر ، وهي طائفة من القُرْآن .
وقيل : السُّورة الدَّرجة الرفيعة ، قال النابغة : [ الطويل ]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَعْطَاكَ سُورَةً *** تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ{[863]}
وسميت سورة القرآن بذلك ؛ لأن قارئها يشرف بها وترفعه ، أو لرفعة شأنها ، وجلالة محلّها في الدِّين ، وإن جعلت واوها منقلبة عن " الهمزة " ، فيكون اشتقاقها من " السُّؤْر " ، وهو البقية ، والفضلة ؛ ومنه : " أَسْأَرُوا في الإِنَاءِ " ؛ قال الأعشى : [ المتقارب ]
فَبَانَتْ وَقَدْ أَسْأَرتْ في الفُؤَا *** دِ صَدْعاً عَلَى نَأْيِهَا مُسْتَطِيرَا{[864]}
أي : أَبْقَتْ ، ويدلّ على ذلك أن " تميماً " وغيرها يهمزون فيقولون : سؤرة بالهمزة .
وسميت سورة القرآن بذلك ؛ لأنها قطعة منه ، وهي على هذا مخفّفة من " الهمز " .
وقيل : اشتقاقها من سُور البناء ؛ لأنها تحيط بقارئها ، وتحفظه كَسُورِ المدينة ، ولكنّ جَمْعَ سُورةِ القرآن سُوَر بفتح الوَاوِ ، وجَمْعَ سُورةِ البناء سُوْر بسكونها ، ففرقوا بينهما في الجمع .
فإن قيل : ما فائدةُ تقطيع القُرْآن سُوَراً ؟
أحدها : ما لأجله بوب المصنِّفون كتبهم أبواباً وفصولاً .
وثانيها : أن الجنس إذا حصل تحته كان إفراد كل نوع من صاحبه أحسن .
وثالثها : أنَّ القارئ إذا ختم سورة ، أو باباً من الكتاب ، ثم أخذ في آخر كان أنشط له ، كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلاً أو طوى فرسخاً نشطه للمسير .
فَصْلٌ في بيان أن ترتيب القرآن توقيفي
قال ابن الخطيب{[865]} : قوله : " فأتوا بسورة " يدلُّ على أن القرآن وما هو عليه من كونه سوراً هو على حدّ ما أنزله الله - تعال- بخلاف قول كثير من أهل الحديث ، أنه نظم على هذا الترتيب في أيام عثمان ، فلذلك صحّ التحدِّي بالقرآن على وجوه :
أحدها : قوله : { فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى } [ القصص : 49 ] .
وثانيها : قوله : { قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء : 88 ] .
وثالثها : قوله : { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [ هود : 13 ] .
ورابعها : قوله : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } [ البقرة : 23 ] ، ونظير هذا لمن يتحدّى صاحبه فيقول : ائتني بمثله ، ائتني بنصفه ، ائتني بربعه ، ائتني بمسألة مثله ، فإن{[866]} هذا هُوَ النّهاية في التحدّي ، وإزالة العُذْر .
قوله : { مِّن مِّثْلِهِ } في الهاء ثلاثة أقوال :
أحدهما : أنها تعود على " ما نَزَّلنا " عند الجمهور كعمرو ، وابن مسعود ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، ومجاهد ، وغيرهم ، فيكون " من مثله " صفة ل " سورة " ، ويتعلّق بمحذوف على ما تقرر : أي بسورة كائنة{[867]} من مثل المنزل في فصاحته ، وإخباره بالغيوب ، وغير ذلك ، ويكون معنى " من " التبعيض .
واختار ابن عطية والمَهْدَويّ أن تكون للبيان ، وأجازا هما وأبو البقاء أن تكون زائدة ولا تجيء إلاَّ على قول الأخفش .
الثاني : أنها تعود على " عَبْدنا " فيتعلّق " من مثله " ب " أتوا " ، ويكون معنى " من " ابتداء الغاية ، ويجوز على هذا الوجه أيضاً أن تكون صفة لسورة أي : " بسورة كائنة من رجل مثل عبدنا أمي{[868]} لا يقرأ ولا يكتب " .
قال القرطبي : و " من " على هذين التأويلين للتبعيض .
الثالث : قال أبو البقاء : " إنها تعود على الأنداد بلفظ المفرد كقوله :
{ وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } [ النحل : 66 ] ولا حاجة تدعو إلى ذلك ، والمعنى يأباه أيضاً .
قال القرطبي : وقيل : يعود على التوراة والإنجيل ، والمعنى : فأتوا بسورة من كتاب مثله ؛ فإنها تصدِّق ما فيه ، والوقف على " مثله " ليس بتام ؛ لأن " وادعوا " نسق عليه .
قوله : { وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم } هذه جملة أمر معطوفة على الأمر قبلها ، فهي في مَحَلّ جزم أيضاً ، ووزن " ادعوا " افعوا ؛ لأن لام الكلمة محذوف دلالة على السكون في الأمر الذي هو جزم في المُضَارع ، و " الواو " ضمير الفاعلين .
و " شهداءكم " مفعول به جمع " شهيد " كظريف .
وقيل : بل جمع " شاهد " ك " شاعر " والأوّل أولى ؛ لاطَِّرَادِ " فعلاء " في " فعيل " دون فاعل ، والشهادة الحضور ، وفي المراد من الشهداء وجهان :
الأول : المراد من الشهداء الأوثان .
والثاني : المراد من الشهداء أكابرهم ، أو من يوافقهم في إنكار أمر محمد عليه الصلاة والسلام ، والمعنى : ادعوا أكابركم ، ورؤساءكم ليعينوكم على المُعَارضة ، أو ليشاهدوا ما تأتون به ، فيكون [ الرد على الجميع أوكد ]{[869]} . و " من دون الله " متعلّق ب " ادعوا " من دون الله شهداءكم ، فلا تستشهدوا بالله ، فكأنه قال : وادعوا من غير الله من يشهد لكم ، ويحتمل أن يتعلّق ب " شهداءكم " والمعنى : ادعوا من اتخذتموه من دون الله ، وزعمتم{[870]} أنهم يشهدون لكم بصحّة عبادتكم إياهم ، وأعوانكم من دون أولياء الله الذين تستعينون بهم دون الله ، أو يكون معنى " من دون الله " بين يدي الله ؛ كقوله : [ الطويل ]
تُرِيكَ القَذَى مِنْ دُونِهَا وَهْيَ دُونَهُ *** لِوَجْهِ أَخِيهَا في الإِنَاءِ قُطُوبُ{[871]}
أي : تريك القذى قُدَّامها وهي قُدَّامه ؛ لرقَّتها وصفَائِها .
واختار أبو البقاء{[872]} أن يكون " من دُونِ الله " حالاً من " شهداءكم " والعامل فيه محذوف قال : " تقديره : شهدائكم منفردين عن الله ، أو عن أنصار الله " .
و " دون " من ظروف الأمكنة ، ولا تتصرّف على المشهور إلا بالجر ب " مِنْ " .
وزعم الأخفش أنها متصرّفة ، وجعل من ذلك قوله تعالى : { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } [ الجن : 11 ] فقال : " دون " مبتدأ و " منّا " خبره ، وإنما بني لإضافته إلى مبنيٍّ ، وقد شذَّ رفعُهُ خبراً في قول الشاعر : [ الطويل ]
أَلَمْ تَر أَنِّي قَدْ حَمَيْتُ حَقِيقَتي *** وبَاشَرْتُ حَدَّ المَوْتِ وَالمَوْتُ دُونُهَا{[873]}
وهو من الأسماء اللاَّزمة للإضافة لفظاً ومعنى .
وأمّا " دون " التي بمعنى رديء فتلك صفة كسائر الصفات ، تقول : " هذا ثوب دُون " ، و " رأيت ثوباً دوناً " أي : رديئاً ، وليست مما نحن فيه .
و " دون " أيضاً نقيض " فوق " ويقال : هذا دون ذاك ، أي : أقرب منه ، ويقال في الأخذ بالشَّيء : دونكه .
قال تميم للحجَّاج : أَقْبِرنا صالحاً - وكان قد صلبه - فقال : دونكموه .
قوله تعالى : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } هذا شرط حذف جوابه للدلالة عليه تقديره : إن كنتم صادقين فافعلوا ، ومتعلّق الصدق محذوف ، والظاهر تقديره هكذا : إن كنتم صادقين في كونكم في رَيْبٍ من المنزل على عبدنا أنه من عندنا .
وقيل : فيما تقدرون عليه من المُعَارضة ، وقد صرّح بذلك عنهم في آية أُخْرَى ، حيث قال تعالى حاكياً عنهم : { لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا } [ الأنفال : 31 ] والصدق ضد الكذب وقد تقدم ، والصّديق مشتقٌّ منه لصدقه في الوُدِّ والنُّصحِ ، والصّدْق من الرماح : الصُّلبة .
قال ابن الخطيب : " وفي أمرهم بأن يستظهروا بالجماد الذي ينطق في معارضة القرآن المعجز بالفصاحة غاية التهكم بهم " .
قال القاضي : هذا التحدّي يبطل القول بالجَبْرِ من وجوه :
أحدها : أنه مبني على تعذُّر مثله ممن يصح الفعل منه ، فمن ينفي كون العبد فاعلاً لم يمكنه إثبات التحدّي أصلاً ، وفي هذا إبطال الاستدلال بالمعجز .
وثانيها : أن تعذُّره على قولهم يكون لفقد القدرة الموجودة ، ويستوي في ذلك ما كان معجزاً ، وما لا يكون ، فلا يصح معنى التحدي على قولهم .
وثالثها : أن ما يضاف إلى العبد فالله - تعالى - هو الخالق له ، فتحديه يعود في التحقيق{[874]} إلى أنه مُتَحَدٍّ لنفسه ، وهو قادرٌ على مثله من غير شك فيجب ألا يثبت الإعجاز على هذا القول .
ورابعها : أنّ المعجز إنما يدلّ بما فيه من بعض العادة ، فإذا كان من قولهم : إن المعتاد أيضاً ليس بفعل لم يثبت هذا الفرق ، فلا يصحّ الاستدلال بالمعجز .
وخامسها : أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم يحتج بأنه - تعالى - إنما خصّه بذلك ، تصديقاً له فيما ادَّعَاه ، ولو لم يكن ذلك من قِبَلِهِ - تعالى - لم يكن داخلاً في الإعجاز ، وعلى قولهم بالجبر لا يصح هذا الفرق ؛ لأن المعتاد وغير المعتاد لا يكون إلاَّ من قبله .
والجواب : أن المطلوب من التحدي أن يأتي الخصم بالمتحدّى به قصداً ، وأن يقع ذلك منه اتفاقاً .
والثاني باطل ؛ لأن الاتفاقيات لا تكون في وُسْعِهِ ، فثبت الأول ، وإذا كان كذلك ثبت أن إتيانه بالمتحدى موقوف على أن يحصل في قلبه{[875]} قصد إليه ، فذاك{[876]} القصد إن كان منه لزم التسلسل ، وهو محال ، وإن كان من الله - تعالى - فحينئذ يعود الجبر ، ويلزمه كل ما أورده علينا ، فبطل كل ما قال .