فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَإِن كُنتُمۡ فِي رَيۡبٖ مِّمَّا نَزَّلۡنَا عَلَىٰ عَبۡدِنَا فَأۡتُواْ بِسُورَةٖ مِّن مِّثۡلِهِۦ وَٱدۡعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ} (23)

{ ريب } شك

{ شهداءكم } أعوانكم .

{ سورة } قطعة من القرآن مشتملة على جملة من آياته .

في آيتين كريمتين سبقتا ساق الله تعالى البرهان على أنه- دون سواه- هو الخالق للأولين والآخرين ، وأنه الرزاق ذو القوة المتين ، فلا حجة لمشرك يتخذ أندادا لرب العالمين ؛ ثم بعد ذلك الكلمات التامات الصادقات العادلات- وكل كلمات ربنا تامة وصدق وعدل- أقام الله الحكيم فيها الحجة على أنه منزل الكتاب العزيز ، فمن ارتاب في أنه كلام الذي ليس كمثله شيء فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين فيما ادعوه من أنه من قول البشر ؛ - قال الله جل ثناؤه لهم : وإن كنتم أيها المشركون من العرب ، والكفار من أهل الكتابين{[169]} في شك ، وهو الريب مما نزلنا على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم من النور والبرهان وآيات الفرقان أنه من عندي ، وأنا الذي أنزلته إليه ، فلم تؤمنوا به ولم تصدقوه فيما يقول فاتوا بحجة تدفع حجته لأنكم تعلمون أن حجة كل ذي نبوة على صدقه في دعواه أن يأتي ببرهان يعجز عن أن يأتي بمثله جميع الخلق ومن حجة محمد صلى الله عليه وسلم على صدقه ، وبرهانه على صحة نبوته وأن ما جاء به من عندي عجز جميعكم وجميع من تستعينون به من أعوانكم وأنصاركم عن أن تأتوا بسورة من مثله ، وإذا عجزتم عن ذلك وأنتم أهل البراعة في الفصاحة والبلاغة والدراسة فقد علمتم أن غيركم عما عجزتم عنه من ذلك أعجز . . . فيتقرر حينئذ عندكم أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يتقوله ولم يختلقه ، لأن ذلك لو كان منه اختلاقا وتقولا لم تعجزوا وجميع خلقي عن الإتيان بمثله ، لأن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يعد أن يكون بشرا مثلكم . . . ){[170]} – ومع حرصهم على التشكيك في الإسلام وكتابه أعجزهم أن يجيئوا بقرآن مثله ، وقال المولى الحكيم سبحانه : { فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين }{[171]} ، وعجزوا عن الإتيان بعشر سور من مثل{[172]} سوره الكريمة وحاجهم القرآن فحجهم إذ ادعوا زورا وافتراء أن النبي ابتدعه من عند نفسه ، أو اكتتبه من أساطير الأولين ، فأكذبهم رب العالمين بقوله المبين : { أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين . فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله . . . }{[173]} ؛ روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أعطى من الآيات ما آمن على مثله البشر وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة ) ؛ - أي : الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه ؛ وصدق الله العظيم : { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا }{[174]} .


[169]:التوراة و الإنجيل فأهل التوراة كما هو معلوم اليهود و أهل الإنجيل هم النصارى.
[170]:ما بين العارضتين من جامع البيان في تفسير القرآن لابن جرير الطبري.
[171]:سورة الطور الآية 34. و قبلها الآية المباركة {أم يقولون تَقَوَّلَهُ بل لا يؤمنون}.
[172]:مما أورد صاحب روح المعاني {وإن كنتم } عطف على قوله {... اعبدوا ربكم} .. وتوجيه الربط بأنه لما أوجب سبحانه وتعالى العبادة و نفي الشرك بإزالة تلك الآيات والانقياد لما يمكن بدون التصديق بأنها من عنده سبحانه أرشدهم بما يوجب هذا العلم.... وكلمة {إن} إلى معنى الاستقبال ...و{مما} من فيها ابتدائية صفة ريب و لا يجوز ان تكون للتبعيض.. و {ما} موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن الكتاب.. وفي الآية التفات من الغائب إلى ضمير المتكلم إذ الضمائر في الآية السابقة كانت للغائبين {اعبدوا} و {فلا تجعلوا} و إلا لقال مما نزل على عبده لكنه عدل سبحانه إلى ذلك تفخيما للمنزل أو المنزل عليه لاسيما وقد تأتي ب{نا} المشعرة بالتعظيم التام وتفخيم الأمر رعاية لرفعة شأنه عليه الصلاة والسلام والفاء منم {فاتوا} جوابية.. والأمر من باب التعجيز... كما في قوله تعالى:{..فات بها من المغرب..} و هو الإتيان بمعنى المجيء و{ادعوا..} الدعاء النداء والاستعانة..و{دون} ظرف مكان لا ينصرف.. ومعناها أقرب مكان من الشيء فهو كعند على أنها تنبئ عن دنو كثير وانحطاط يسير.. والوقود ما يوقد به النار... {الحجارة} صح عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم ولمثل ذلك حكم الرفع حجارة الكبريت وفيها من شدة الحر أو كثرة الالتهاب وسرعة الإيقاد ومزيد الالتصاق بالأبدان... ما نعوذ بالله منه ومما أورد صاحب تفسير غرائب القران جاء فصيحا في كل فن من فنون الكلام فانظر في الترغيب إلى قوله {فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين..} وفي الترهيب {.. وخاب كل جبار عنيد من وراءه جهنم ويسقى من ماء صديد يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت..} و في الزجر {فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا..} وفي الوعظ {أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون} وفي الإلهيات {الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال} والأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث صلاة الخسوف (إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقودا ورأيت النار فلم أر كاليوم منظرا قط) يدل على وجودهما فإن قيل علام عطف هذا الأمر؟ كأنه يعني قول الحق سبحانه {وبشر} ولم يسبق أمر ولا نهي يصح عطفه عليه؟ قلنا ليس الذي اعتمد بالعطف هو الأمر حتى يطلب له مشاكل من أمر أو نهي إنما المتعمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين على جملة وصف عقاب الكافرين.. وقال بعض المحققين إنه معطوف على قل مقدرا {يا أيها الناس} فإن تقدير القول في القرآن مع وجود القرينة غير عزيز أي غير نادر الحصول كقوله تعالى {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا} أي يقولان ربنا ثم المأمور في قوله {وبشر} إما الرسول وإما كل من له استئهال أنيبشر... واستدل بهذه الآية من قال عن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان وإلا لزم التكرار ولمن زعم أن الإيمان هو المجموع أن يقول عطف بعض الأجزاء على الكل جائز لغرض من الأغراض كقوله تعالى{وملائكته ورسله وجبريل وميكال..}
[173]:من سورة هود الآية 13و من الآية 14.
[174]:من سورة الإسراء الآية 88.