قوله تعالى : { إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك } ، قال الحسن : ذكر النعمة شكرها ، وأراد بقوله : { نعمتي } ، أي نعمي ، لفظه واحد ومعناه جمع . كقوله تعالى : { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } .
قوله تعالى : { وعلى والدتك } ، مريم ، ثم ذكر النعم فقال :
قوله تعالى : { إذ أيدتك } ، قويتك .
قوله تعالى : { بروح القدس } ، يعني جبريل عليه السلام .
قوله تعالى : { تكلم الناس } ، يعني :وتكلم الناس .
قوله تعالى : { في المهد } ، صبيا .
قوله تعالى : { وكهلاً } ، نبياً قال ابن عباس : أرسله الله وهو ابن ثلاثين سنة ، فمكث في رسالته ثلاثين شهراً ، ثم رفعه الله إليه .
قوله تعالى : { وإذ علمتك الكتاب } ، يعني الخط .
قوله تعالى : { والحكمة } ، يعني : العلم والفهم .
قوله تعالى : { والتوراة والإنجيل وإذ تخلق } ، تجعل وتصور .
قوله تعالى : { من الطين كهيئة الطير } ، كصورة الطير .
قوله تعالى : { بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا } حيا يطير .
قوله تعالى : { بإذني وتبرئ } وتصحح .
قوله تعالى : { الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى } ، من قبورهم أحياء .
قوله تعالى : { بإذني وإذ كففت } ، منعت وصرفت .
قوله تعالى : { بني إسرائيل } ، يعني اليهود .
قوله تعالى : { عنك } ، حين هموا بقتلك .
قوله تعالى : { إذ جئتهم بالبينات } ، يعني : بالدلالات الواضحات والمعجزات ، وهي التي ذكرنا ، وسميت بالبينات لأنها مما يعجز عنها سائر الخلق الذين ليسوا بمرسلين .
قوله تعالى : { فقال الذين كفروا منهم إن هذا } ، ماهذا .
قوله تعالى : { إلا سحر مبين } ، يعني : ما جاءهم به من البينات ، قرأ حمزة والكسائي { ساحر مبين } هاهنا وفي سورة هود والصف ، فيكون راجعاً إلى عيسى عليه السلام ، وفي هود يكون راجعاً إلى محمد صلى الله عليه وسلم .
{ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك } بدل من يوم يجمع وهو على طريقة { ونادى أصحاب الجنة } والمعنى أنه سبحانه وتعالى يوبخ الكفرة يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وتعديد ما أظهر عليهم من الآيات فكذبتهم طائفة وسموهم سحرة ، وغلا آخرون فاتخذوهم آلهة . أو نصب بإضمار اذكر . { إذ أيدتك } قويتك وهو ظرف لنعمتي أو حال منه وقرئ " آيدتك " . { بروح القدس } بجبريل عليه الصلاة والسلام ، أو بالكلام الذي يحيا به الدين ، أو النفس حياة أبدية ويطهر من الآثام ويؤيده قوله : { تكلم الناس في المهد وكهلا } أي كائنا في المهد وكهلا ، والمعنى تكلمهم في الطفولة والكهولة على سواء ، والمعنى إلحاق حاله في الطفولية بحال الكهولية في كمال العقل والتكلم ، وبه استدل على أنه سينزل فإنه رفع قبل أن يكتمل . { وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني } سبق تفسيره في سورة " آل عمران " . وقرأ نافع ويعقوب " طائرا " ويحتمل الإفراد والجمع كالباقر . { وإذ كففت بني إسرائيل عنك } يعني اليهود حين هموا بقتله . { إذ جئتهم بالبينات } ظرف لكففت . { فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين } أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر مبين . وقرأ حمزة والكسائي إلا " ساحر " فالإشارة إلى عيسى عليه الصلاة والسلام .
قوله : { إذ قال الله يا عيسى ابن مريم } ظرف ، هو بدل من { يومَ يجمع الله الرسل } بدل اشتمال ، فإنّ يوم الجمع مشتمل على زمن هذا الخطاب لعيسى ، ولذلك لم تعطف هذه الجملة على التي قبلها . والمقصود من ذكر ما يقال لعيسى يومئذٍ هو تقريع اليهود . والنصارى الذين ضلّوا في شأن عيسى بين طرفي إفراط بغض وإفراط حبّ .
فقوله { اذكر نعمتي عليك } إلى قوله { لا أعذّبه أحداً من العالمين } [ المائدة : 115 ] استئناس لعيسى لئلاّ يفزعه السؤال الوارد بعده بقوله : { أأنت قلت للناس الخ . . . } [ المائدة : 116 ] وهذا تقريع لليهود ، وما بعدها تقريع للنصارى . والمراد من { اذكر نعمتي } الذُّكر بضمّ الذال وهو استحضار الأمر في الذهن . والأمر في قوله { اذكر } للامتنان ، إذ ليس عيسى بناس لنعم الله عليه وعلى والدته . ومن لازمه خزي اليهود الذين زعموا أنّه ساحر مفسد إذ ليس السحر والفساد بنعمة يعدّها الله على عبده . ووجه ذكر والدته هنا الزيادة من تبكيت اليهود وكمدهم لأنّهم تنقّصوها بأقذع ممّا تنقّصوه .
والظرف في قوله { إذْ أيّدتك بروح القدس } متعلّق ب { نعمتي } لما فيها من معنى المصدر ، أي النعمة الحاصلة في ذلك الوقت ، وهو وقت التأييد بروح القدس . وروح القدس هنا جبريل على الأظهر . والتأييد وروح القدس تقدّماً في سورة البقرة ( 87 ) عند قوله : { وآتينا عيسى ابن مريم البيِّنات وأيّدناه بروح القدس }
وجملة { تكلّم } حال من الضمير المنصوب بِ { أيّدتك } وذلك أنّ الله ألقى الكلام من الملَك على لسان عيسى وهو في المهد ، وفي ذلك تأييد له لإثبات نزاهة تكوّنه ، وفي ذلك نعمة عليه ، وعلى والدته إذ ثبتت براءتها ممّا اتّهمت به .
والجارّ والمجرور في قوله { في المهد } حال من ضمير { تُكلّم } . و { كَهْلاً } معطوف على { في المهد } لأنّه حال أيضاً ، كقوله تعالى : { دعانا لجنبه أو قاعداً أو قائماً } [ يونس : 12 ] . والمهد والكهل تقدّماً في تفسير سورة آل عمران . وتكليمه كهلاً أريد به الدعوة إلى الدين فهو من التأييد بروح القدس ، لأنّه الذي يلقي إلى عيسى ما يأمره الله بتبليغه .
وقوله : { وإذْ علّمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل } تقدّم القول في نظيره في سورة آل عمران ، وكذلك قوله { وإذ تخلق من الطين } إلى قوله وإذ تخرج الموتى بإذني تقدّم القول في نظيره هنالك .
إلاّ أنّه قال هنا { فتنفخ فيها } وقال في سورة آل عمران ( 49 ) { فانفخ فيه } فعن مكّي بن أبي طالب أنّ الضمير في سورة آل عمران عادَ إلى الطير ، والضمير في هذه السورة عاد إلى الهيئة . واختار ابن عطية أن يكون الضمير هنا عائداً إلى ما تقتضيه الآية ضرورة . أي بدلالة الاقتضاء . وذلك أنّ قوله : وإذْ تَخْلُق من الطين كهيئة الطير } يقتضي صوراً أو أجساماً أو أشكالاً ، وكذلك الضمير المذكّر في سورة آل عمران ( 49 ) يعود على المخلوق الذي يقتضيه { أخْلُق } وجعله في عائداً إلى الكاف باعتبار كونها صفة للفظ هيئة المحذوف الدّال عليه لفظ هيئة المدخول للكاف وكلّ ذلك ناظر إلى أنّ الهيئة لا تصلح لأن تكون متعلّق { تنفخ } ، إذ الهيئة معنى لا ينفخ فيها ولا تكون طائراً .
وقرأ نافع وحده { فتكون طائراً } بالإفراد كما قرأ في سورة آل عمران . وتوجيهها هنا أنّ الضمير جرى على التأنيث فتعيّن أن يكون المراد وإذ تخلق ، أي تقدّر هيئة كهيئة الطير فتكون الهيئة طائراً ، أي كلّ هيئة تقدّرها تكون واحداً من الطير .
وقرأ البقية « طيراً » بصيغة اسم الجمع باعتبار تعدّد ما يقدّره من هيئات كهيئة الطير .
وقال هنا { وإذا تخرج الموتى } ولم يقل : { وأحي الموتى } ، كما قال في سورة آل عمران ( 49 ) ، أي تخرجهم من قبورهم أحياء ، فأطلق الإخراج وأريد به لازمه وهو الإحياء ، لأنّ الميّت وضع في القبر لأجل كونه ميّتاً فكان إخراجه من القبر ملزوماً الانعكاس السبب الذي لأجله وضع في القبر . وقد سمّى الله الإحياء خروجاً في قوله : { وأحيينا به بلدة ميتاً كذلك الخروج } [ ق : 11 ] وقال : { إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون } [ المؤمنون : 35 ] .
وقوله : { وإذ كففت بني إسرائيل عنك } عطف على { إذْ أيّدتك } وما عطف عليه . وهذا من أعظم النعم ، وهي نعمة العصمة من الإهانة ؛ فقد كفّ الله عنه بني إسرائيل سنين ، وهو يدعو إلى الدين بين ظهرانيهم مع حقدهم وقلّة أنصاره ، فصرفهم الله عن ضرّه حتى أدّى الرسالة ، ثمّ لمّا استفاقوا وأجمعوا أمرهم على قتله عصمه الله منهم فرفعه إليه ولم يظفروا به ، وماتت نفوسهم بغيظها . وقد دلّ على جميع هذه المدّة الظرف في قوله : { إذ جئتم بالبيّنات } فإنّ تلك المدّة كلّها مدّة ظهور معجزاته بينهم . وقوله : { فقال الذين كفروا منهم } تخلّص من تنهية تقريع مكذّبيه إلى كرامة المصدّقين به .
واقتصر من دعاوي تكذيبهم إيّاه على قولهم { إنْ هذا إلاّ سحر مبين } ، لأنّ ذلك الادّعاء قصدوا به التوسّل إلى قتله ، لأنّ حكم الساحر في شريعة اليهود القتل إذ السحر عندهم كفر ، إذ كان من صناعة عبدة الأصنام ، فقد قرنت التوراة السحر وعِرافةَ الجانّ بالشرك ، كما جاء في سفر اللاويّيين في الإصحاح العشرين .
وقرأ الجمهور : { إنْ هذا إلاّ سحر } ، والإشارة بِ { هذا } إلى مجموع ما شاهدوه من البيّنات . وقرأ حمزة ، والكسائي ، وخلف { إلاّ ساحر } . والإشارة إلى عيسى المفهوم من قوله : { إذْ جئتهم بالبيّنات } . ولا شك أنّ اليهود قالوا لعيسى كلتا المقالتين على التفريق أو على اختلاف جماعات القائلين وأوقات القول .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إذ قال الله يا عيسى ابن مريم} في الآخرة، {اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك}، يعني مريم، عليهما السلام، {إذ أيدتك بروح القدس}، فالنعمة على عيسى حين أيده بروح القدس، يعني جبريل، عليه السلام، {تكلم الناس في المهد}: تكلم بني إسرائيل صبيا في المهد حين جاءت به أمه تحمله، ويكلمهم كهلا حين اجتمع واستوت لحيته، {وإذ علمتك الكتاب}، يعني خط الكتاب بيده، {والحكمة}، يعني الفهم والعلم، وإذ علمتك التوراة والإنجيل، {وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير فتنفخ فيها}، يعني في الهيئة، {فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه} الذي يخرج من بطن أمه أعمى، فكان عيسى، عليه السلام، يرد إليه بصره بإذن الله تعالى، فيمسح بيده عليه، فإذا هو صحيح بإذن الله... {وإذ كففت بني إسرائيل عنك}، يعني عن قتلك حين رفعه الله عز وجل إليه، وقتل شبيهه... {إذ جئتهم بالبينات} يعني بالعجائب التي كان يصنعها من إبراء الأكمه والأبرص والموتى والطير ونحوه.
{فقال الذين كفروا منهم}: من اليهود من بني إسرائيل، {إن هذا إلا سحر مبين}: ما هذا الذي يصنع عيسى من الأعاجيب إلا سحر مبين، يعني: بيّن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لعباده: احذروا يوم يجمع الله الرسل فيقول لهم: ماذا أجابتكم أممكم في الدنيا "إذ قالَ اللّهُ يا عيِسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعَلى وَالِدَتِكَ إذْ أيّدتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ "ف «إذْ» من صلة «أجبتم»، كأن معناها: ماذا أجابت عيسى الأمم التي أرسل إليها عيسى.
فإن قال قائل: وكيف سئلت الرسل عن إجابة الأمم إياها في عهد عيسى، ولم يكن في عهد عيسى من الرسل إلا أقلّ ذلك؟ قيل: جائز أن يكون الله تعالى عنى بقوله: فيقول ماذا أجبتم الرسل الذين كانوا أرسلوا في عهد عيسى. فخرج الخبر مخرج الجميع، والمراد منهم من كان في عهد عيسى، كما قال تعالى: "الّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إنّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ" والمراد: واحد من الناس، وإن كان مخرج الكلام على جميع الناس.
ومعنى الكلام: إذْ قالَ اللّهُ حين قال "يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إذْ أيّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ" يقول: يا عيسى، اذكر أياديّ عندك وعند والدتك، إذ قوّيتك بروح القدس وأعنتك به.
وقد اختلف أهل العربية في أيدتك ما هو من الفعل، فقال بعضهم: هو فعلتك، كما في قولك: قوّيتك فعلت من القوّة.
وقال آخرون: بل هو فاعلتك من الأيد. ورُوِي عن مجاهد أنه قرأ: «إذْ آيَدْتُكَ» بمعنى: أفعلتك من القوّة والأيد. وقوله: "بِرُوحِ القُدسِ" يعني بجبريل، يقول: إذ أعنتك بجبريل...
" تُكَلّمُ النّاسَ فِي المَهْدِ وكَهْلاً وَإذْ عَلّمْتُكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ والتّوْرَاةَ والإنْجِيلَ وَإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةِ الطّيْرِ بإذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْرا بإذْنِي وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ بإذْنِي وَإذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بإذْنِي وَإذْ كَفَفْتُ بَنِي إسْرَائِيلَ عَنْكَ إذْ جِئْتَهُمْ بالبَيّناتِ فقالَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ ": يقول تعالى ذكره مخبرا عن قِيله لعيسى: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إذْ أيّدْتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ في حال تكليمك الناس في المهد وكهلاً. وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره أنه أيّده بروح القُدس صغيرا في المهد وكهلاً كبيرا، فردّ «الكهل» على قوله في «المهد» لأن معنى ذلك: صغيرا، كما قال الله تعالى ذكره: "دَعانا لِجَنْبِهِ أوْ قاعِدا أو قائما". وقوله:"وَإذْ عَلّمْتُكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ والتّوْرَاةَ والإنْجِيلَ "يقول: واذكر أيضا نعمتي عليك إذ علمتك الكتاب: وهو الخط، والحكمة: وهي الفهم بمعاني الكتاب الذي أنزلته إليك وهو الإنجيل." وَإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطّينِ كَهَيْئَةٍ الطّيْرِ "يقول: كصورة الطير، "بإذْنِي" يعني بقوله تَخْلُقُ: تعمل وتصلح من الطين، "كَهِيْئَةِ الطّيْرِ بإذْنِي" يقول: بعوني على ذلك وعلم مني. "فَتَنْفُخُ فِيها" يقول: فتنفخ في الهيئة، فتكون الهيئة والصورة طَيْرا بإذْنِي" وتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ ": وتشفي الأكمه: وهو الأعمى الذي لا يبصر شيئا المطموس البصر، "والأبْرَصَ بإذْنِي"...
" وَإذْ كَفَفْتُ بَنِي إسْرَائِيلَ عَنْكَ إذْ جِئْتَهُمْ بالبَيّناتِ": واذكر أيضا نعمتي عليك، بكّفي عنك بني إسرائيل إذ كففتهم عنك وقد هّموا بقتلك، "إذْ جِئْتَهُمْ بالبَيّنَاتِ ": إذ جئتهم بالأدلة والأعلام المعجزة على نبوّتك وحقية ما أرسلتك به إليهم." فَقالَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ ": فقال الذين جحدوا نبوّتك وكذّبوك من بني إسرائيل: "إنْ هَذَا إلاّ سِحْرٌ مُبِينٌ "
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
وإنما ذكَّر الله عيسى عليه السلام نعمته عليه على والدته، وإن كان لهما ذاكراً لأمرين: أحدهما: ليتلو على الأمم ما خصه به من الكرامة ومَيّزَه به من علو المنزلة. والثاني: ليؤكد به حجته ويرد به جاحده. ثم أخذ تعالى في تعديد نعمه فقال: {إِذْ أَيَّدتكَ بِرُوحِ القُدُسِ} يعني قويتك، مأخوذ من الأيد وهو القوة، وروح القدس جبريل، والقدس هو الله تعالى تقدست أسماؤه. وتأييده له من وجهين: أحدهما: تقويته على أمر دينه. والثاني: معونته على دفع ظلم اليهود والكافرين له...ثم قال تعالى: {وَتُبْرِئ الأكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي} أي تدعوني أن أبرئ الأكمه والأبرص، فأجيب دعاءك وأبرئهما، وهو فعل الله تعالى، وإنما نَسَبَهُ إلى المسيح مجازاً لأن فعله لأجل دعائه. ثم قال تعالى: {وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بِإِذْنِي} يعني واذكر نعمتي عليك، إذ تدعوني أن أحيي الموتى، فأجيب دعاءك، حتى تخرجهم من القبور أحياء، ونسب إليه ذلك توسعاً أيضاً لأجل دعائه، ويجوز أن ينسب إخراجهم إليه حقيقة، لأن إخراجهم من قبورهم بعد إحياء الله لهم يجوز أن يكون من فعل المسيح...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
- التأييد: هو تقوية أمره بالبصيرة من داخل، وتقوية البطش من خارج، وهو المراد بقوله تعالى: {إذا أيدتك بروح القدس} [ميزان العمل: 303]...
{وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير}.
- معناه: تقدر، والخلق هو التقدير. [المستصفى: 2/139].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: ما معنى قوله: (في المهد وكهلاً)؟ قلت: معناه تكلمهم في هاتين الحالتين، من غير أن يتفاوت كلامك في حين الطفولة وحين الكهولة الذي هو وقت كمال العقل وبلوغ الأشد والحدّ الذي يستنبأ فيه الأنبياء {والتوراة والإنجيل} خصّا بالذكر مما تناوله الكتاب والحكمة، لأن المراد بهما جنس الكتاب والحكمة...
المسألة الثالثة: خرج قوله {إذ قال الله} على لفظ الماضي دون المستقبل وفيه وجوه: الأول: الدلالة على قرب القيامة حتى كأنها قد قامت ووقعت وكل آت قريب ويقال: الجيش قد أتى، إذا قرب إتيانهم. قال الله تعالى: {أتى أمر الله} الثاني: أنه ورد على حكاية الحال، ونظيره قول الرجل لصاحبه كأنك بنا وقد دخلنا بلدة كذا، فصنعنا فيها كذا، إذ صاح صائح؛ فتركتني وأجبته. ونظيره من القرآن قوله تعالى: {ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت} {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة} {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم} والوجه في كل هذه الآيات ما ذكرناه، من أنه خرج على سبيل الحكاية عن الحال...المسألة الخامسة: قوله {نعمتي عليك} أراد الجمع كقوله {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} وإنما جاز ذلك لأن مضاف يصلح للجنس...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان سؤاله سبحانه للرسل عن الإجابة متضمناً لتبكيت المبطلين وتوبيخهم، وكان أشد الأمم افتقاراً إلى التوبيخ أهل الكتاب، لأن تمردهم تعدى إلى رتبة الجلال بما وصفوه سبحانه به من اتخاذ الصاحبة والولد، ومن ادعاء الإلهية لعيسى عليه السلام لما أظهر من الخوارق التي دعا بها إلى الله مع اقترانها بما يدل على عبوديته ورسالته لئلا يهتضم حقه أو يُغلى فيه، مع مشاركتهم لغيرهم في أذى الرسل عليهم السلام بالتكذيب وغيره، وكان في الآية السالفة ذكر الآباء وما آثروا للأبناء، ذكر أمر عيسى عليه السلام بقوله مبدلاً من قوله: {يوم يجمع الله} معبراً بالماضي تذكيراً بما لذلك اليوم من تحتم الوقوع، وتصويراً لعظيم تحققه، وتنبيهاً على أنه لقوة قربه كأنه قد وقع ومضى: {إذ قال الله} أي المستجمع لصفات الكمال {يا عيسى} ثم بينه بما هو الحق من نسبه فقال: {ابن مريم}.
ولما كان ذلك يوم الجمع الأكبر والإحاطة بجميع الخلائق وأحوالهم في حركاتهم وسكناتهم، وكان الحمد هو الإحاطة بأوصاف الكمال، أمره بذكر حمده سبحانه على نعمته عنده فقال: {اذكر نعمتي عليك} أي في خاصة نفسك، وذكر ما يدل للعاقل على أنه عبد مربوب فقال: {وعلى والدتك} إلى آخره مشيراً إلى أنه أوجده من غير أب فأراحه مما يجب للآباء من الحقوق وما يورثون أبناءهم من اقتداء أو اهتداء وإقامة بحقوق أمه، فأقدره -وهو في المهد- على الشهادة لها بالبراءة والحصانة والعفاف، وكل نعمة أنعمها سبحانه عليه صلى الله عليه وسلم فهي نعمة أمه ديناً ودنيا.
ولما ذكر سبحانه هذه الأمة المدعوة من العرب وأهل الكتاب وغيرهم بنعمه عليهم في أول السورة بقوله: {اذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه} [المائدة: 7]، {واذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم} [المائدة: 11]، وكانت هذه الآيات من عند {لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} [المائدة: 87] كلها في النعم، أخبرهم أنه يذكّر عيسى عليه السلام بنعمه في يوم الجمع إشارة إلى أنهم إن لم يذكروا نعمه في هذه الدار دار العمل بالشكر، ذكروها حين يذكّرهم بها في ذلك اليوم قسراً بالكفر، و يا لها فضيحةً في ذلك الجمع الأكبر والموقف الأهول! وليتبصّر أهل الكتاب فيرجعوا عن كفرهم بعيسى عليه السلام: اليهودُ بالتقصير في أمره، والنصارى بالغلو في شأنه وقدره.
ولما كان أعظم الأمور التنزيه، بدأ به كما فعل بنفسه الشريفة في كلمة الدخول إلى الإسلام، ولما كان أعظم ذلك تنزيهه أمه عليها السلام وتصحيح ما خرق لها من العادة في ولادته، وكان أحكم ما يكون ذلك بتقوية روحه حتى يكون كلامه طفلاً ككلامه كهلاً، قدمه فقال معلقاً قارناً بكل نعمة ما يدل على عبوديته ورسالته، ليخزي من غلا في أمره أو قصّر في وصفه وقدره: {إذ أيدتك} أي قويتك تقوية عظيمة {بروح القدس} أي الطهر الذي يحيي القلوب ويطهرها من أوضار الآثام، ومنه جبرئيل عليه السلام، فكان له منه في الصغر حظ لم يكن لغيره؛ قال الحرالي: وهو يد بسط لروح الله في القلوب بما يحييها الله به من روح أمره إرجاعاً إليه في هذه الدار قبل إرجاع روح الحياة بيد القبض من عزرائيل عليه السلام ثم استأنف تفسير هذا التأييد فقال: {تكلم الناس} أي من أردت من عاليهم وسافلهم {في المهد} أي بما برأ الله به أمك وأظهر به كرامتك وفضلك.
ولما ذكر هذا الفضل العظيم، أتبعه خارقاً آخر، وهو إحياؤه نفسه وحفظُه جسدَه أكثر من ألف سنة لم يدركه الهرم؛ فإنه رفع شاباً وينزل على ما رفع عليه ويبقى حتى يصير كهلاً، وتسويةُ كلامه في المهد بكلامه في حال بلوغ الأشدّ وكمال العقل خرقاً لما جرت به العوائد فقال: {وكهلاً} ولما ذكر هذه الخارقة، أتبعها روح العلم الرباني فقال: {وإذ علمتك الكتاب} أي الخط الذي هو مبدأ العلم وتلقيح لروح الفهم {والحكمة} أي الفهم لحقائق الأشياء والعمل بما يدعو إليه العلم {والتوراة} أي المنزلة على موسى عليه السلام {والإنجيل} أي المنزل عليك.
ولما ذكر تأييده بروح الروح، أتبعه تأييده بإفاضة الروح على جسد لا أصل له فيها فقال: {وإذ تخلق من الطين} أي هذا الجنس {كهيئة الطير بإذني} ثم سبب عن ذلك قوله: {فتنفخ فيها} أي في الصورة المهيأة {فتكون} أي تلك الصورة التي هيأتها {طيراً بإذني} ثم بإفاضة روح ما على بعض جسد، إما ابتداء في الأكمه كما في الذي قبله، وإما إعادة كما في الحادث العمى والبرص بقوله: {وتبرئ الأكمه والأبرص}.
ولما كان من أعظم ما يراد بالسياق توبيخ من كفر به كرر قوله: {بإذني} ثم برد روح كامل إلى جسدها بقوله: {وإذ تخرج الموتى} أي من القبور فعلاً أو قوة حتى يكونوا كما كانوا من سكان البيوت {بإذني} ثم بعصمة روحه ممن أراد قتله بقوله: {وإذ كففت بني إسرائيل عنك} أي اليهود لما هموا بقتلك؛ ولما كان ذلك ربما أوهم نقصاً استحلوا قصده به، بين أنه قصد ذلك كعادة الناس مع الرسل والأكابر من أتباعهم تسلية لهذا النبي الكريم والتابعين له بإحسان فقال: {إذ جئتهم بالبينات} أي كلها، بعضها بالفعل والباقي بالقوة لدلالة ما وجد عليه من الآيات الدالة على رسالتك الموجبة لتعظيمك {فقال الذين كفروا} أي غطوا تلك البينات عناداً {منهم إن} أي} ما هذا إلا سحر مبين {..
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ذكر الله سؤال الرسل وجوابهم بالإجمال بين بالتفصيل سؤال واحد منهم عن التبليغ وجوابه عن السؤال لإقامة الحجة على من يدعون اتباعه وهم الذين حاجتهم هذه السورة فيما يقولون في رسولهم أوسع الاحتجاج، وأقامت عليهم البرهان في إثر البرهان، وقدم عز وجل على هذا السؤال والجواب ما خاطب به هذا الرسول من بيان نعمته عليه وآياته له التي كانت منشأ افتتان الناس به فقال:
{إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا} قال البيضاوي في قوله تعالى: «إذ قال»: بدل من «يوم يجمع» وهو على طريقة {ونادى أصحاب الجنة} [الأعراف: 44] – أي في التعبير عن المستقبل بالماضي – والمعنى أنه تعالى يوبخ الكفرة يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وتعديد ما ظهر عليهم من الآيات، فكذبتهم طائفة وسموهم سحرة، وغلا آخرون واتخذوهم آلهة. أو نصب بإضمار «أذكر» اه.
والنعمة تستعمل مصدرا واسما لما حصل بالمصدر، والمفرد المضاف يفيد التعدد. والمعنى: اذكر إنعامي عليك وعلى والدتك وقت تأييدي إياك بروح القدس الخ أو أذكر نعمي حال كونها واقعة عليك وعلى والدتك إذ أيدتك أي قويتك شيئا فشيئا بروح القدس الذي تقوم به حجتك، وتبرأ من تهمة الفاحشة والدتك، حال كونك تكلم الناس في المهد بما يبرئها من قول الآثمين الذين أنكروا عليها أن يكون لها غلام من غير زوج يكون أبا له – وكهلا حين بعثت فيهم رسولا تقيم عليهم الحجة، بما ضلوا به عن المحجة. فكلامه في المهد هو قوله: {إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا} [مريم: 30] الخ ما ذكره في سورة مريم. و (روح القدس) هو ملك الوحي الذي يؤيد الله به الرسل بالتعليم الإلهي والتثبيت في المواطن التي من شأن البشر أن يضعفوا فيها، قال تعالى في شأن القرآن: {قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين} [النحل: 102]. وقد تقدم في موضعين من سورة البقرة، وقال تعالى: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا} [الأنفال: 12].
{وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} أي ونعمتي عليك إذ علمتك قراءة الكتاب أي ما يكتب – أو الكتابة بالقلم – أي وفقتك لتعلمها، والحكمة وهي العلم الصحيح الذي يبعث الإرادة إلى العمل النافع بما فيه من الإقناع والعبرة والبصيرة وفقه الأحكام، والتوراة – وهي الشريعة الموسوية، والإنجيل – وهو ما أوحاه تعالى إليه من الحكم والأحكام، والبشارة بخاتم الرسل عليهم الصلاة والسلام، وقد سبق لنا تفصيل القول في حقيقة التوراة والإنجيل في تفسير أول سورة آل عمران (ج3 تفسير) وفي تفسير هذه السورة (ج6 تفسير).
{وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني} قرأ نافع هنا وفي آية آل عمران «فتكون طائرا» والطائر واحد الطير – كراكب وركب – والجمهور «فتكون طيرا» قيل هو جمع وقيل اسم جمع، وأجاز أبو عبيدة وقطرب إطلاق طيرا على الواحد ولعله مبني على أن أصله المصدر كما وجهه ابن سيده. ولفظ الطير مؤنث بمعنى جماعة. والخلق في أصل اللغة التقدير أي جعل الشيء بمقدار معين. يقال خلق الإسكافي النعل ثم فراه، أي عين شكله ومقداره ثم قطعه...ومنه خلق الكذب والإفك قال تعالى: {وتخلقون إفكا} [العنكبوت: 17] أي تقدرون وتزورون كلاما يأفك سامعه أي يصرفه عن الحق. ويستعمل في إيجاد الله تعالى الأشياء بتقدير معين في علمه. والمعنى: واذكر نعمتي عليك إذ تجعل قطعة من الطين مثل هيئة الطير في شكلها ومقادير أعضائها فتنفخ فيها بعد ذلك فتكون طيرا بإذن الله ومشيئته، أو بتسهيله أو تكوينه، إذ يجعل جلت قدرته نفسك سببا لحلول الحياة في تلك الصورة من الطين، فأنت تفعل التقدير والنفخ، والله هو الذي يكوّن الطير. وقد تقدم في تفسير نظير هذه الآية من سورة آل عمران كلام عن شيخنا الأستاذ الإمام مضمونه أن عيسى عليه السلام أعطي هذه الآية أي مكنه الله منها ولم يفعلها. واستدركنا على ذلك بالإشارة إلى دلالة آية المائدة هذه على وقوعها من غير جزم بذلك، وبينا سر ذلك وحكمته عند الصوفية وهو قوة روحانية عيسى عليه السلام، ولا يبعد كتمان اليهود لهذه الآية إذا كان رآها بعضهم مرة واحدة وعدها من السحر اعتقادا أو مكابرة وخاف أن تجذب قومه إلى المسيح، ولكن قوله تعالى – بإذني – يدل على أن المسيح لم يعط هذه القوة دائما بحيث جعل السبب الروحي فيها كالأسباب الجسمانية المطردة، بل كانت هذه الآية كغيرها لا تقع إلا بإذن من الله وتأييد من لدنه، ونكتة التعبير بالمضارع عن فعل مضى هي تصوير ذلك الماضي وتمثيله حاضرا في الذهن كأنه حاضر في الخارج، لا لإفادة الاستمرار فإنه فعل مضى والكلام تذكير به كما وقع إذ وقع.
{وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني} عطف التذكير بإبراء الأكمه والأبرص على ما قبله مباشرة فلم يبدأ بإذ، وبدئ بها التذكير بإخراج الموتى، فكان عطفا على قوله: «إذ أيدتك بروح القدس» ولعل نكتة ذلك أن إبراء الأكمه والأبرص من جنس شفاء المرض الذي قد يقع بعض أفراده على أيدي غير الأنبياء المرسلين، ولا سيما من يظن المرضى فيهم الصلاح والولاية، فلما كان كذلك ذكر بالتبع لإحياء الصورة من الطير، ولما كان إحياء الموتى أعظم جعل نعمة مستقلة فقرن بإذ. والمراد بالأكمه والأبرص والموتى الجنس – والأكمه من ولد أعمى، ويطلق على من عمى بعد الولادة أيضا... وتكرار كلمة (الإذن) بتقييد كل فعل من تلك الأفعال بها يفيد أنه ما وقع شيء منها إلا بمشيئة الله الخاصة وقدرته. والإذن يطلق على الإعلام بإجازة الشيء والرخصة فيه وعلى الأمر به وكذا على المشيئة والتيسير كقوله تعالى: {وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله} [البقرة: 102] ومحال أن يكون معناه بإجازته أو أمره، ومثله بل أظهر منه قوله: {وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله} [آل عمران: 166] أي بإرادته وتيسيره.
{وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين (11)} أي واذكر نعمتي عليك حين كففت بني إسرائيل عنك فلم أمكنهم من قتلك وصلبك وقد أرادوا ذلك وقت تكذيب كفارهم إياك وزعمهم أن ما جئت به من البينات لم يكن إلا سحرا ظاهرا، لا من جنس الآيات التي جاء بها موسى، على أنها مثلها أو أظهر منها.
قرأ الجمهور (سحر) وقرأ حمزة والكسائي (ساحر) بالألف، ورسمها في المصحف الإمام بغير ألف ككلمة (ملك) في الفاتحة وتقرأ (مالك) وكلمة (الكتب) في عدة سور تقرأ فيها (الكتاب) بالإفراد كما تقرأ في بعضها بصيغة الجمع، ولو كتبت هذه الكلمات بالألف لما احتملت إلا قراءة المد وحدها. وظاهر أن قراءة الجمهور (سحر) يراد بها أن تلك البينات التي جاء بها من السحر وهو التمويه والتخييل الذي يري الإنسان الشيء على غير حقيقته، أو ما له سبب خفي عن غير فاعله، وأن قراءة (ساحر) يراد بها أن من أتى بتلك البينات ساحر، إذ جاء بأمر صناعي أو بتخييل باطل. والمراد من القراءتين كلتيهما أن الذين كفروا بعيسى عليه السلام طعنوا في تلك الآيات بأنها سحر، وفيمن جاء بها بأنه من جنس السحرة، أي فلا يعتد بشيء مما يظهر على يديه من خوارق العادات، فأفاد أنهم لا يؤمنون وإن جاءهم بآيات أخرى، إذ لم يكن الطعن فيما كان قد جاء به لشبهات تتعلق بها، وإنما كان عن عناد ومكابرة ادعوا بهما أن السحر صنعة له يجب أن يوصف به كل شيء غريب يجيء به.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
والحكمة هي: معرفة أسرار الشرع وفوائده وحكمه، وحسن الدعوة والتعليم، ومراعاة ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وقوله: {وإذ كففت بني إسرائيل عنك} عطف على {إذْ أيّدتك} وما عطف عليه. وهذا من أعظم النعم، وهي نعمة العصمة من الإهانة؛ فقد كفّ الله عنه بني إسرائيل سنين، وهو يدعو إلى الدين بين ظهرانيهم مع حقدهم وقلّة أنصاره، فصرفهم الله عن ضرّه حتى أدّى الرسالة، ثمّ لمّا استفاقوا وأجمعوا أمرهم على قتله عصمه الله منهم فرفعه إليه ولم يظفروا به، وماتت نفوسهم بغيظها. وقد دلّ على جميع هذه المدّة الظرف في قوله: {إذ جئتم بالبيّنات} فإنّ تلك المدّة كلّها مدّة ظهور معجزاته بينهم. وقوله: {فقال الذين كفروا منهم} تخلّص من تنهية تقريع مكذّبيه إلى كرامة المصدّقين به.
واقتصر من دعاوي تكذيبهم إيّاه على قولهم {إنْ هذا إلاّ سحر مبين}، لأنّ ذلك الادّعاء قصدوا به التوسّل إلى قتله، لأنّ حكم الساحر في شريعة اليهود القتل إذ السحر عندهم كفر، إذ كان من صناعة عبدة الأصنام، فقد قرنت التوراة السحر وعِرافةَ الجانّ بالشر..
لماذا إذن يجمع الله كل الرسل ويسألهم سؤالا على الإجمال، ثم لماذا يأتي بعيسى ابن مريم ليسأله سؤالا خاصا عن حادثة مخصوصة؟ أراد الحق بذلك أن يعلمنا أنه سيسأل الرسل سؤالا يوضح لنا أدب الرسل مع الحق، ويبين لنا تقريع الحق لمن كفروا بالمنهج، أما سؤاله سبحانه وتعالى لعيسى ابن مريم، ذلك السؤال الخاص عن الحادثة المخصوصة، فمرد ذلك إلى أن بعض الذين آمنوا به قد وضعوا في موضع الألوهية أو بنوة الألوهية. وفي ذلك تعد على التنزيه المطلق للحق سبحانه وتعالى. ونعلم أن قصارى ما صنعت الأمم السابقة أن بعضهم كفر بالرسل وبعضهم كذب الرسل، لكن لم يدع أحد من هذه الأمم أن الرسول الذي جاء هو إله، لم يقل ذلك أحد وإن كان بعض فرق اليهود قد قالوا: إن عزيز هو ابن الله وهذه الفرقة قد انقرضت ولم يبق يهودي يقول ذلك، وسبحانه قد جعل الشرك به قمة الكفر الذي لا غفران له. (من الآية 48 سورة النساء) فكأن عيسى عليه السلام سيواجه السؤال ضمن الرسل، ثم يسأله الحق سؤالا خاصا به. ويقدم الحق السؤال لعيسى ابن مريم بعد أن ذكره بعدد من النعم التي أنعم بها سبحانه وتعالى وعليه وعلى أمه مريم عليه وعليها السلام: {إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين (110)}. (سورة المائدة)...