قوله تعالى : { إِذْ قَالَ اللَّهُ } : فيها أوجه ، أحدها : أنه بدل من " يوم يجمع " قال الزمخشري : " والمعنى : أنه يوبخ الكافرين بسؤال الرسل عن إجابتهم ، وبتعديد ما أَظْهر على أيديهم من الآيات العِظام فكذَّبهم بعضُهم وسَمَّوهم سحرةً ، وتجاوزَ بعضُهم الحَدَّ فجعله وأمه إليهن " . ولمَّا ذَكَر ابو البقاء هذا الوجهَ تأوَّلَ فيه " قال " ب " يقول " وأنَّ " إذ " وإنْ كانت للماضي فإنما وَقَعَتْ هنا على حكاية الحالِ . الثاني : أنه منصوبٌ ب " اذكر " مقدراً ، قال أبو البقاء : " ويجوزُ أن يكونَ التقديرُ : إذ يقول " ، يعني أنه لا بد من تأويل الماضي بالمستقبلِ ، وهذا كما تقدَّم له في الوجهِ قبله ، وكذا ابن عطية تأوَّله ب " يقول " فإنه قال : " تقديرُه : اذكر يا محمد إذ " و " قال " هنا بمعنى " يقول " لأنَّ ظاهرَ هذا القولِ إنما هو في يوم القيامة تقدمه لقوله : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } الثالث : أنه في محل رفعٍ خبراً لمتبدأ مضمر ، أي : ذلك إذ قال ، ذكره الواحدي وهذا ضعيفٌ ، لأن " إذ " لا يُتَصَرَّف فيها ، وكذلك القولُ بأنها مفعول بها بإضمار " اذكر " وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك ، اللهم إلا أَنْ يريدَ الواحدي بكونِه خبراً أنه ظرفٌ قائمٌ مقامَ خبرٍ نحو : " زيدٌ عندك " فيجوز .
قوله : { يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } تقدَّم الكلام في اشتقاق هذه المفردات ومعانيها و " ابن " صفة ل " عيسى " نُصِب لأنه مضاف ، وهذه قاعدةٌ كلية مفيدة ، وذلك أنَّ المنادى المفردَ المعرفة الظاهرَ الضمةِ إذا وُصف ب " ابن " أو ابنة ووقع الابن أو الابنة بين علمين أو اسمين متفقين في اللفظ ولم يُفْصَل بين الابن وبين موصوفه بشيء تثبت له أجكامٌ منها : أنه يجوزُ إتباعُ المنادى المضمومِ لحركةِ نون " ابن " فيُفتح نحو : " يا زيدَ بن عمرو ، ويا هندَ ابنة بكر " بفتح الدال من " زيد " و " هند " وضمِّها ، فلو كانت الضمةُ مقدرةً نحو ما نحن فيه ، فإنَّ الضمة مقدرة على ألف " عيسى " فهل يُقَدَّر بناؤه على الفتح إتباعاً كما في الضمة الظاهرة ؟ خلاف : الجمهورُ على عَدَمِ جوازِه ، إذ لا فائدة في ذلك ، فإنه إنما كان للإِتباع وهذا المعنى مفقود في الضمة المقدرة . وأجاز الفراء ذلك إجراءً للمقدر مُجْرى الظاهر ، وتبعه أبو البقاء فإنه قال : " يجوز أن يكونَ على الألف من " عيسى " فتحةٌ ، لأنه قد وُصِف ب " ابن " وهو بين عَلَمين ، وأن يكونَ علهيا ضمةٌ ، وهو مثلُ قولِك : " يا زيد بن عمرو " بفتح الدال وضمها " .
وهذا الذي قالاه غيرُ بعيدٍ ، ويَشْهَدُ له مسألة عند الجميعِ : وهو ما إذا كان المنادى مبنياً على الكسرِ مثلاً نحو : " يا هؤلاء " فإنهم أجازوا في صفتِه الوجهين : الرفعَ والنصبَ فيقولون : " يا هؤلاء العقلاءِ والعقلاءُ " بنصب العقلاء ورفعها ، قالوا : والرفعُ مراعاةً لتلك الضمة المقدرة على " هؤلاء " فإنه مفرد معرفة ، والنصب على محله ، فقد اعتبروا الضمةَ المقدرةَ في الإِتباع ، وإنْ كان ذلك فائتاً ، في اللفظ . وقد يُفَرَّقُ بأنَّ " هؤلاء " نحن مضطرون فيه إلى تقدير تلك الحركةِ لأنه مفرد معرفةٌ ، فكأنها ملفوظٌ بها بخلافِ تقديرِ الفتحة هنا .
وقال الواحدي في " يا عيسى " : ويجوزُ أن يكونَ في محل النصب [ لأنه في نية الإِضافة ، ثم جَعَلَ الابنَ توكيداً له ، وكل ما كان ] مثلَ هذا جاز فيه الوجهان نحو : " يا زيد بن عمرو " وأنشد :
يا حَكَمُ بنُ المنذرِ بن الجارودُ *** أنتَ الجوادُ بنُ الجوادِ بنُ الجودْ
سُرادِقُ المجدِ عليك ممدودْ ***
بنصب الأول ورفعه على ما بَيَّنَّا . وقال التبريزي : " الأظهر عندي أنَّ موضع " عيسى " نصب ؛ لأنك [ تجعلُ الاسم مع نعتِه إذا أضفته إلى العلم ] كالشيء الواحد المضافِ ، وهذا الذي قالاه لا يُشْبِهُ كلامَ النحاةِ أصلاً ، بل يقولون : الفتحةُ للإِتباع ولم يُعْتَدَّ بالساكن لأنه حاجزٌ غيرُ حصينٍ ، كذا قال الشيخ . قلت : قد قال الزمخشري - وكونه ليس من النحاة مكابرةٌ في الضروريات - عند قوله : { إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ } [ المائدة : 112 ] : " عيسى في محل النصب على إتباع حركته حركةَ الابن كقولك : " يا زيدَ بنَ عمرو " وهي اللغة الفاشية ، ويجوزُ أن يكونَ مضموماً كقولِك " يا زيدُ بنَ عمرو " والدليل عليه قوله :
أحارِ بن عمروٍ كأني خَمِرْ *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لأنَّ الترخيم لا يكونُ إلا في المضمومِ انتهى . فاحتاج إلى الاعتذار عن تقديرِ الضمة ، واستشهد لها بالبيتِ لمخالفتِها اللغةَ الشيهرة .
وقولي : " المفرد " تحرُّزٌ من المُطَوَّل . وقولي " المعرفة " تحرز من النكرة نحو : " يا رجلاً ابن رجل " إذا لم تَقْصِدْ به واحداً بعينه . وقولي : " الظاهرَ الضمةِ " تحرُّزٌ من نحو : " يا موسى بن فلان " وكالآية الكريمة . وقولي : ب " ابن " تحرُّزٌ من الوصف بغيرِه نحو : " يا زيدُ صاحبَنا " وقولي : " بين علمين أو متفقين لفظاً " تحرُّزٌ من نحو : " يا زيد بن أخينا " وقولي : " غيرَ مفصولٍ " تحرُّزٌ من نحو : " يا زيدُ العاقلُ ابنَ عمرو " فإنه لا يجوز في جميع ذلك إلا الضم . وقولي : " أحكام " قد تقدَّمتْ منها ما ذكرتُه من جوازِ فتحِه إتباعاً ، ومنها : حَذْفُ ألفِه خطاً ، ومنها : حَذْفُ تنويِنه في غيرِ النداء ؛ لأنَّ المنادَى لا تنوينَ فيه .
وقولي : " وصفٌ " تحرُّزٌ من أن يكون الابن خبراً لا صفة نحو : " زيدٌ ابنُ عمرو " وهل يجوزُ إتباعُ " ابن " فيُضمَّ نحو : " يا زيد بن ُ عمرو " بضم " ابن " ؟ فيه خلافٌ .
وفي قوله : { ابْنَ مَرْيَمَ } ثلاثةُ أوجه ، أحدُها : أنه صفةٌ كما تقدم ، والثاني : أنه بدلٌ والثالث : أنه بيانٌ ، وعلى الوجهين الأخيرين لا يجوزُ تقديرُ التفحةِ إتباعاً إجماعاً ، لأنّ الابنَ لم يَقَعْ صفةً ، وقد تقدم أنَّ ذلك شرطٌ .
قوله : { إِذْ أَيَّدتُّكَ } في " إذ " أوجهٌ ، أحدُها : أنه منصوبٌ ب " نعمتي " كأنه قيل : اذكرُ إذ أنعمتُ عليك وعلى أمِّك في وقت تأييدي لك . والثاني : أنه بدلٌ من " نعمتي " بدلُ اشتمال ، وكأنه في المعنى تفسيرٌ للنعمة . والثالث : أنه حالٌ من " نعمتي " قاله أبوالبقاء والرابع : أن يكون مفعولاً به على السِّعَة قاله أبو البقاء أيضاً . قلت : هذا هو الوجهُ الثاني - أعني البدليةَ - وقرأ الجمهور " أيَّدتك " بتشديد الياء ، وغيرهم " آيَدْتُك " وقد تقدَّم الكلام على ذلك وعلى مَنْ قرأ بها وما قاله الزمخشري وابن عطية والشيخ في سورة البقرة فليُنْظر ثَمَّ .
قوله : { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ } إلى آخرها : تقدَّم ايضاً في آل عمران ، وما فائدةُ قوله : { فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً } إلا أنَّ هنا بعضَ زياداتٍ لابدَّ من التعرض لها . قرأ ابن عباس : " فتنفخُها " بحذف حرف الجر اتساعاً . والجمهور : " فتكونُ " بالتاء منقوطةً فوق ، وأبو جعفر منقوطةً تحتُ ، أي : فيكونُ المنفوخ فيه . والضمير في " فيها " قال ابن عطية : " اضطربت فيه أقوال المفسرين " قال مكي : " هو في آل عمران عائدةٌ على الطائر ، وفي المائدة عائدٌ على الهيئة " قال : " وَيصِحُّ عكس هذا " . وقال غير مكي : " الضمير المذكور عائد على الطين " . قال ابن عطية : " ولا يَصِحُّ عودُ هذا الضمير على الطير ولا على الطين ولا على الهيئة ، لأنَّ الطير أو الطائر الذي يَجِيء الطين على هيئته لا يُنْفَخُ فيه البتةَ ، وكذلك لا نفخَ في هيئته الخاصة به ، وكذلك الطينُ إنما هو الطينُ العام ولا نفخَ في ذلك " . وقال الزمخشري : " ولا يَرْجِعُ الضميرُ إلى الهيئةِ المضافِ إليها لأنها ليست مِنْ خَلْقِه ولا مِنْ نفخِه في شيء ، وكذلك الضميرُ في " فتكون " . ثم قال ابن عطية : " والوجهُ عودُ ضمير المؤنث على ما تقتضيه الآيةُ ضرورةً أي : صوراً أو أشكالاً أو اجساماً ، وعودُ الضميرِ المذكِّر على المخلوقِ المدلولِ عليه ب " تخلقُ " ثم قال : " ولك أن تعيدَه على ما تَدُلُّ عليه الكاف من معنى المثل لأنَّ المعنى : وإذ تَخْلُق من الطينِ مثلَ هيئِته ، ولك أن تعيدَه على الكاف نفسِها فتكونَ اسماً في غيرِ الشعر " انتهى .
وهذا القولُ هو عينُ ما قبله ، فإنَّ الكافَ أيضاً بمعنى مِثْل ، وكونُها اسماً في غير الشعرِ لم يَقُلْ به غيرُ الأخفش .
استشكل الناسُ قولَ مكي المتقدم كما قَدَّمْتُ حكايتَه عن ابن عطية ، ويمكنُ أَنْ يُجابَ عنه بأنَّ قولَه " عائدٌ على الطائر " لا يريدُ به الطائر الذي أُضيفت إليه الهيئةُ بل الطائرُ المُصَوَّرُ ، والتقدير : وإذ تخلق من الطين طائراً صورةَ الطائرِ الحقيقي فتنفخُ فيه فيكونُ طائراً حقيقياً ، وأنَّ قوله " عائدٌ على الهيئة " لا يريدُ الهيئةَ المجرورةَ بالكاف ، بل الموصوفةَ بالكاف ، والتقدير : وإذ تخلُق من الطينِ هيئةً مثلَ هيئة الطائر فتنفخُ فيها أي : في الموصوفة بالكافِ التي نُسِب خَلْقُها إلى عيسى . وأمَّا كونُه كيف يعودُ ضميرٌ مذكر على هيئةٍ وضميرٌ مؤنثٌ عل الطائرِ لأنَّ قوله : " ويجوز عكسُ هذا " يؤدي إلى ذلك " فجوابُه أنه جازَ بالتأويل ، لأنه تُؤَوَّلُ الهيئةُ بالشكل ويُؤَوَّل الطائرُ بالهيئةِ فاستقام ، وهو موضعُ تأولٍ وتأنٍ . وقال هنا " بإذني " أربعَ مراتٍ عَقِيب أربع جمل ، وفي آل عمران " بإذن الله " مرتين ؛ لأنَّ هناك موضعَ إخبارٍ فناسَبَ الإِيجازَ ، وهنا مقامُ تذكيرٍ بالنعمةِ والامتنانِ فناسبَ الإِسهابَ ؛ وقوله : " بإذني " حالٌ : إمَّا من الفاعلِ أو من المفعول .
قوله : { إِلاَّ سِحْرٌ } قرأ الأخَوان هنا وفي هود وفي الصف " إلا ساحر " اسم فاعل ، والباقون : " إلا سحرٌ " مصدراً في الجميع ، والرسمُ يحتمل القراءتين ، فأمَّا قراءةُ الجماعةِ فتحتمل أن تكون الإِشارة إلى ما جاءَ به من البينات أي : ما هذا الذي جاء به من الآيات الخوارقِ إلى سحرٌ ، ويُحْتمل ان تكونَ الإِشارةُ إلى عيسى ، جَعَلُوه نفسَ السحر مبالغةً نحو : " رجلٌ عدلٌ " ، أو على حَذْفِ مضافٍ أي : إلا ذو سحر . وخَصَّ مكي هذا الوجهَ بكون المرادِ بالمشارِ إليه محمداً صلى الله عليه وسلم فقال : " ويجوزُ أن تكونَ إشارةً إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم على تقدير حَذْفِ مضافٍ أي : إنْ هذا إلا ذو سحر " . قلت : وهذا جائزٌ ، والمرادُ بالمشار إليه عيسى عليه السلام ، وكيف يكونُ المرادُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وهو لم يكن في زمنِ عيسى والحواريين حتى يشيروا إليه إلا بتأويلٍ بعيد " وأمَّا قراءةُ الأخوين فتحتمل أن يكون " ساحر " اسم فاعل والمشارُ إليه " عيسى " ، ويُحتمل أن يكون المرادُ به المصدرَ كقولهم : " عائذاً بك وعائذاً بالله مِنْ شَرِّها ، والمشارُ إليه ما جاء به عيسى من البيِّنات والإِنجيل ، ذَكَر ذلك مكي ، وتَبِعه أبو البقاء ، إلا أنَّ الواحدي مَنَع مِنْ ذلك فقال - بعد أَنْ حَكى القراءتين - " وكلاهما حَسَنٌ لاستواءِ كلِّ واحدٍ منهما في أنَّ ذِكْرَه قد تقدَّم ، غير أَنَّ الاختيار " سحر " لجوازِ وقوعِه على الحَدِثِ والشخص ، وأمَّا وقوُعه على الحدث فسهلٌ كثير ، ووقُوعه على الشخصِ يريدُ ذو سحر كقوله :
{ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ } [ البقرة : 177 ] وقالوا : " إنما أنت سيرٌ " و " ما أنت إلا سيرٌ " و :
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فإنما هي إقبالٌ وإدبارُ
قلت : وهذا يرجِّحُ ما قَدَّمْتُه من أنه أَطْلق المصدر على الشخص مبالغةً نحو : " رجل عدل " ثم قال : " ولا يجوزُ أَنْ يُراد بساحر السحر ، وقد جاء فاعِل يراد به المصدرُ في حروفٍ ليست بالكثير نحو : " عائذاً بالله من شره " أي : عياذاً ، ونحو " العافِية " ولم تَصِرْ هذه الحروفُ من الكثرة بحيث يسوغُ القياس عليها "