البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱذۡكُرۡ نِعۡمَتِي عَلَيۡكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ إِذۡ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗاۖ وَإِذۡ عَلَّمۡتُكَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَۖ وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ بِإِذۡنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِيۖ وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِيۖ وَإِذۡ تُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِيۖ وَإِذۡ كَفَفۡتُ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ عَنكَ إِذۡ جِئۡتَهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّبِينٞ} (110)

{ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك } يحتمل أن يكون { إذ } بدلاً من قوله : { يوم يجمع الله الرسل } والمعنى أنه يوبخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم وبتعدد ما أظهر على أيديهم من الآيات العظام فكذبوهم وسموهم سحرة وجاوزوا حد التصديق إلى أن اتخذوهم آلهة كما قال بعض بني إسرائيل فيما أظهر على يد عيسى من البينات { هذا سحر مبين } واتخذه بعضهم وأمه إلهين قاله الزمخشري .

وقال ابن عطية يحتمل أن يكون العامل في { إذ } مضمراً تقديره اذكر يا محمد إذ ، وقال هنا بمعنى يقول لأن الظاهر من هذا القول أنه في القيامة تقدمة لقوله : { أأنت قلت للناس } ويحتمل أن يكون { إذ } بدلاً من قوله : { يوم يجمع الله } انتهى .

وجوزوا أن يكون إذ في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره ذلك إذ قال الله .

وإذا كان المنادى علماً مفرداً ظاهر الضمة موصوفاً بابن متصل مضاف إلى علم جاز فتحه اتباعاً لفتحة ابن .

هذا مذهب الجمهور وأجاز الفرّاء وتبعه أبو البقاء في ما لا يظهر فيه الضمة تقدير والفتحة فإن لم تجعل ابن مريم } صفة وجعلته بدلاً أو منادى فلا يجوز في ذلك العلم إلا الضم وقد خلط بعض المفسرين وبعض من ينتمي إلى النحو هنا ، فقال بعض المفسرين : يجوز أن يكون { عيسى } في محل الرفع لأنه منادى معرفة غير مضاف ويجوز أن يكون في محل النصب لأنه في نية الإضافة ثم جعل الابن توكيداً وكل ما كان مثل هذا جاز فيه الوجهان نحو يا زيد بن عمرو وأنشد النحويون :

يا حكم بن المنذر بن الجارود *** أنت الجواد بن الجواد بن الجود

قال التبريزي الأظهر عندي أن موضع { عيسى } نصب لأنك تجعل الاسم مع نعته إذا أضفته إلى العلم كالشيء الواحد المضاف انتهى .

والذي ذكره النحويون في نحو يا زيد بن بكر إذا فتحت آخر المنادى أنها حركة اتباع الحركة نون { ابن } ولم يعتد بسكون باء ابن لأن الساكن حاجز غير حصين ، قالوا : ويحتمل أن يراد بالذكر هنا الإقرار وأن يراد به الإعلام وفائدة هذا الذكر إسماع الأمم ما خصه به تعالى من الكرامة وتأكيد حجته على جاحده ، وقيل أمر بالذكر تنبيهاً لغيره على معرفة حق النعمة ووجوب شكر المنعم ، قال الحسن ذكر النعمة شكرها والنعمة هنا جنس ويدل على ذلك ما عَدّده بعد هذا التوحيد اللفظي من النعم وأضافها إليه تنبيهاً على عظمها ونعمه عليه قد عددها هنا وفي البقرة وآل عمران ومريم وفي مواضع من القرآن ونعمته على أمه براءتها مما نسب إليها وتكفيلها لزكريا وتقبلها بقبول حسن وما ذكر في سورة التحريم { ومريم ابنة عمران } إلى آخره وغير ذلك وأمر بذكر نعمة أمه لأنها نعمة صائرة إليه .

{ إذ أيدتك بروح القدس } قرأ الجمهور بتشديد الياء ، وقرأ مجاهد وابن محيصن { أيدتك } على أفعلتك ، وقال ابن عطية على وزن فاعلتك ، ثم قال ويظهر أن الأصل في القراءتين { أيدتك } على وزن أفعلتك ثم اختلف الإعلال والمعنى فيهما أيدتك من الأبد ، وقال عبد المطلب :

الحمد لله الأعز الأكرم *** أيدنا يوم زحوف الأشرم

انتهى والذي يظهر أن أيد في قراءة الجمهور ليس وزنه أفعل لمجيء المضارع على يؤيد فالوزن فعل ولو كان أفعل لكان المضارع يؤيد كمضارع آمن يؤمن وأما من قرأ آيد فيحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب فإن كان يؤايد فهو فاعل وإن كان يؤيد فهو أفعل .

وأما قول ابن عطية إنه في القراءتين يظهر أن وزنه أفعلتك ثم اختلف الإعلال فلا أفهم ما أراد .

وتقدم تفسير نظير هذه الجملة في قوله { وأيدناه بروح القدس } { تكلم الناس في المهد وكهلاً وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني } .

تقدم تفسير نظير هذه الجمل والقراءات التي فيها والإعراب وما لم يتقدم ذكره نذكره فنقول جاء هناك { كهيئة الطير فتنفخ فيها فتكون } .

وقرأ ابن عباس فتنفخها فتكون .

وقرأ الجمهور { فتكون } بالتاء من فوق .

وقرأ عيسى بن عمر فيها فيكون بالياء من تحت والضمير في { فيها } قال ابن عطية اضطرب المفسرون فيه قال مكي هو في آل عمران عائد على الطائر وفي المائدة عائد على الهيئة ، قال ويصح عكس هذا وقال غيره الضمير المذكور عائد على { الطين } .

قال ابن عطية ولا يصح عود هذا الضمير لا على الطين ولا على الهيئة لأن الطير أو الطائر الذي يجيء الطير على هيئته لا نفخ فيه ألبتة ، وكذلك لا نفخ في هيئته الخاصة به وكذلك الطين إنما هو الطين العام ولا نفخ في ذلك انتهى .

وقال الزمخشري ولا يرجع بعض الضمير إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء وكذلك الضمير في يكون انتهى .

والذي ينبغي أن يحمل عليه كلام مكي أنه لا يريد به ما فهم عنه بل يكون قوله عائداً على الطائر لا يريد به الطائر المضاف إليه الهيئة بل الطائر الذي صوره عيسى ويكون التقدير وإذ يخلق من الطين طائراً صورة مثل صورة الطائر الحقيقي فينفخ فيه فيكون طائراً حقيقة بإذن الله .

ويكون قوله عائداً على الهيئة لا يريد به الهيئة المضافة إلى الطائر ، بل الهيئة التي تكون الكاف صفة لها ويكون التقدير ، وإذ تخلق من الطين هيئة مثل هيئة الطير ، { فتنفخ فيها } أي في الهيئة الموصوفة بالكاف المنسوب خلقها إلى عيسى ، وأما قول مكي ويصح عكس هذا ، وهو أن يكون الضمير المذكر عائداً على الهيئة والضمير المؤنث عائداً على الطائر فيمكن تخريجه على أنه ذكر الضمير وإن كان عائداً على مؤنث لأنه لحظ فيها معنى الشكل كأنه قدر هيئة كهيئة الطير بقوله شكلاً كهيئة الطير وأنه أنث الضمير وإن كان عائداً على مذكر لأنه لحظ فيه معنى الهيئة .

قال ابن عطية والوجه عود ضمير المؤنث على ما تقتضيه الآية ضرورة ، أي صوراً أو أشكالاً أو أجساماً ، وعود الضمير المذكر على المخلوق الذي يقتضيه تخلق ثم قال ولك أن تعيده على ما تدل عليه الكاف في معنى المثل ، لأن المعنى وإذ تخلق من الطين مثل هيئة ولك أن تعيد الضمير على الكاف نفسه فيكون اسماً في غير الشعر ، فهو قول أبي الحسن وحده من البصريين وكذا قال الزمخشري ، إن الضمير في { فيها } للكاف قال لأنها صفة الهيئة التي كان يخلقها عيسى وينفخ فيها وجاء في آل عمران { بإذن الله } مرتين وجاء هنا { بإذني } أربع مرّات عقيب أربع جمل لأن هذا موضع ذكر النعمة والامتنان بها فناسب الإسهاب وهناك موضع إخبار لبني إسرائيل فناسب الإيجاز والتقدير في وإذ تخرج الموتى تحيي الموتى فعبر بالإخراج عن الإحياء كقوله تعالى { كذلك الخروج } بعد قوله { وأحيينا به بلدة ميتاً } أو يكون التقدير وإذ تخرج الموتى من قبورهم أحياء .

{ وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات } أي منعتهم من قتلك حين هموا بك وأحاطوا بالبيت الذي أنت فيه .

وقال عبيد بن عمير لما قال الله لعيسى { اذكر نعمتي عليك } كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يؤخر شيئاً لغدو يقول مع كل يوم رزقه لم يكن له بيت فيخرب ولا ولد فيموت ، أين ما أمسى بات .

وهذا القول يظهر منه أن عيسى خوطب بذلك قبل الرفع والبينات هنا هي المعجزات التي تقدم ذكرها وظهرت على يديه ولما فصل تعالى نعمته ذكر ذلك منسوباً لعيسى دون أمه لأن من هذه النعم نعمة النبوة وظهور هذه الخوارق فنعمته عليه أعظم منها على أمه إذ ولدت مثل هذا النبي الكريم .

وقال الشاعر فيما يشبه هذا :

شهد العوالم أنها لنفيسة *** بدليل ما ولدت من النجباء

{ فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين } قرأ حمزة والكسائي ساحر بالألف هنا .

وفي هود والصف فهذا هنا إشارة إلى عيسى .

وقرأ باقي السبعة { سحر } فهذا إشارة إلى ما جاء به عيسى من البينات .