فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱذۡكُرۡ نِعۡمَتِي عَلَيۡكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ إِذۡ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗاۖ وَإِذۡ عَلَّمۡتُكَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَۖ وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ بِإِذۡنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِيۖ وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِيۖ وَإِذۡ تُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِيۖ وَإِذۡ كَفَفۡتُ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ عَنكَ إِذۡ جِئۡتَهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّبِينٞ} (110)

قوله : { إِذْ قَالَ الله يا عيسى ابن مَرْيَمَ } «إذ » بدل ، من { يوم يجمع } ، وهو تخصيص بعد التعميم وتخصيص عيسى عليه السلام من بين الرسل لاختلاف طائفتي اليهود والنصارى فيه إفراطاً وتفريطاً ، هذه تجعله إلهاً ، وهذه تجعله كاذباً . وقيل هو منصوب بتقدير اذكر ، قوله : { اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى والدتك } ذكره سبحانه نعمته عليه وعلى أمه ، مع كونه ذاكراً لها عالماً بتفضل الله سبحانه بها ، لقصد تعريف الأمم بما خصهما الله به من الكرامة وميزهما به من علوّ المقام ، أو لتأكيد الحجة ، وتبكيت الجاحد ، بأن منزلتهما عند الله هذه المنزلة ، وتوبيخ من اتخذهما إلهين ، ببيان أن ذلك الإنعام عليهما كله من عند الله سبحانه ، وأنهما عبدان من جملة عباده منعم عليهما بنعم الله سبحانه ، ليس لهما من الأمر شيء .

قوله : { إِذْ أَيَّدتكَ بِرُوحِ القدس } إذ ظرف للنعمة ؛ لأنها بمعنى المصدر : أي اذكر إنعامي عليك وقت تأييدي لك ، أو حال من النعمة : أي كائنة ذلك الوقت { أَيَّدتكَ } قوّيتك مأخوذ من الأيد ، وهو القوّة . وفي روح القدس وجهان : أحدهما أنها الروح الطاهرة التي خصه الله بها ، وقيل : إنه جبريل عليه السلام ، وقيل إنه الكلام الذي يحيى به الأرواح . والقدس : الطهر ، وإضافته إليه لكونه سببه ، وجملة { تُكَلّمَ الناس } مبينة لمعنى التأييد ، و { فِي المهد } في محل نصب على الحال : أي تكلم الناس حال كونك صبياً وكهلاً لا يتفاوت كلامك في الحالتين مع أن غيرك يتفاوت كلامه فيهما تفاوتاً بيناً .

وقوله : { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب } معطوف على { إِذْ أَيَّدتكَ } أي واذكر نعمتي عليك وقت تعليمي لك الكتاب : أي جنس الكتاب ، أو المراد بالكتاب الخط ، وعلى الأوّل يكون ذكر التوراة والإنجيل من عطف الخاص على العام ، وتخصيصهما بالذكر لمزيد اختصاصه بهما . أما التوراة فقد كان يحتج بها على اليهود في غالب ما يدور بينه وبينهم من الجدال كما هو مصرح بذلك في الإنجيل ، وأما الإنجيل فلكونه نازلاً عليه من عند الله سبحانه ، والمراد بالحكمة جنس الحكمة . وقيل هي الكلام المحكم { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير } أي تصوّر تصويراً مثل صورة الطير { بِأذْنِي } لك بذلك وتيسيري له { فَتَنفُخُ } في الهيئة المصوّرة { فَتَكُونُ } هذه الهيئة { طائراً } متحركاً حياً كسائر الطيور { وَتُبْرِئ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي } لك وتسهيله عليك وتيسيره لك . وقد تقدّم تفسير هذا مطوّلاً في البقرة ، فلا نعيده { وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى } من قبورهم ، فيكون ذلك آية لك عظيمة { بِإِذْنِي } ، وتكرير بإذني في المواضع الأربعة ؛ للاعتناء بأن ذلك كله من جهة الله ليس لعيسى عليه السلام فيه فعل إلا مجرد امتثاله لأمر الله سبحانه .

قوله : { وَإِذْ كَفَفْتُ } معطوف على { إذ تخرج } كففت معناه : دفعت وصرفت { بَنِى إسرائيل عَنكَ } حين هموا بقتلك { إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات } بالمعجزات الواضحات { فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر بين ، لما عظم ذلك في صدورهم وانبهروا منه لم يقدروا على جحده بالكلية ، بل نسبوه إلى السحر .

/خ111