محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱذۡكُرۡ نِعۡمَتِي عَلَيۡكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ إِذۡ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗاۖ وَإِذۡ عَلَّمۡتُكَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَۖ وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ بِإِذۡنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِيۖ وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِيۖ وَإِذۡ تُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِيۖ وَإِذۡ كَفَفۡتُ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ عَنكَ إِذۡ جِئۡتَهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّبِينٞ} (110)

[ 110 ] { إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين ( 110 ) } .

{ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم } شروع في بيان ما جرى بينه تعالى وبين واحد من الرسل المجموعين ، من المفاوضة ، على التفصيل . إثر بيان ما جرى بينه تعالى وبين الكل على وجه الإجمال ، ليكون ذلك كالأنموذج لتفاصيل أحوال الباقين . وتخصيص شأن عيسى عليه السلام بالبيان ، تفصيلا بين شؤون سائر الرسل عليهم السلام ، مع دلالتها على كمال هول ذلك اليوم ونهاية سوء حال المكذبين بالرسل- لما أن شأنه عليه السلام متعلق بكلا الفريقين من أهل الكتاب الذين نعيت عليهم في السورة الكريمة جناياتهم . فتفصيله أعظم عليهم وأجلب لحسرتهم وندامتهم ، وأدخل في صرفهم عن غيبهم وعنادهم . أفاده أبو السعود .

{ اذكر نعمتي عليك } أي : منتي عليك { وعلى والدتك } بما طهرها واصطفاها على نساء العالمين { إذ أيدتك } أي : قويتك { بروح القدس } أي : بجبريل عليه السلام / لتثبيت الحجة . أو بجعل روحك طاهرة عن العلائق الظلمانية . بحيث يعلم أنه ليس بواسطة البشر ، فيشهد ببراءتك وبراءة أمك . ومن ذلك التأييد قويت نفسك الناطقة . لذلك { تكلم الناس في المهد وكهلا } أي : في أضعف الأحوال وأقواها . بكلام واحد من غير أن يتفاوت في حين الطفولة وحين الكهولة . الذي هو وقت كمال العقل وبلوغ الأشد .

قال ابن كثير : أي جعلتك نبيا داعيا إلى الله في صغرك وكبرك . فأنطقتك في المهد صغيرا . فشهدت ببراءة أمك من كل عيب . واعترفت لي بالعبودية . وأخبرت عن رسالتي إياك ودعوتك إلى عبادتي . ولهذا قال : { تكلم الناس في المهد وكهلا } أي : تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك . وضمن { تكلم } تدعو ، لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب . انتهى .

{ وإذ علمتك الكتاب } أي : الخط وظاهر العلم الذي يكتب { والحكمة } أي الفهم وباطن العلم الذي لا يكتب ، بل يخص به أهله { والتوراة } وهي المنزلة على موسى الكليم عليه السلام : { والإنجيل } وهو الذي أنزله عليه صلى الله عليه وسلم { وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير } أي : تقدر وتصور منه صورة مماثلة لهيئة الطير { بإذني } أي : لك في ذلك { فتنفخ فيها } أي : في تلك الهيئة المصورة { فتكون } أي : فتصير تلك الهيئة { طيرا } لحصول الروح من نفختك فيها { بإذني وتبرئ الأكمه } أي : الذي يولد أعمى مطموس البصر { والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى } أي : من القبور أحياء { بإذني } فهذا مما فعل به من جر المنافع . ثم أشار إلى ما دفع عنه من المضار ، فقال سبحانه : { وإذ كففت بني إسرائيل عنك } أي : منعت اليهود الذين أرادوا بك السوء وسعوا في قتلك وصلبك ، فنجيتك منهم ورفعتك إلي وطهرتك من دنسهم { إذ جئتهم بالبينات } أي : المعجزات التي توجب انقيادهم لك لتعاليها عن قوى البشر فلا يتوهم فيها السحر { فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين } أي : ما هذا الذي يرينا إلا سحر ظاهر .

/ لطيفة :

إن قيل : إن السياق في تعديد نعمه تعالى على عيسى عليه السلام وقول الكفار في حقه ، إن هذا إلا سحر مبين ، ليس من النعم بحسب الظاهر . فما السر في ذكره ؟ فالجواب : إن من الأمثال المشهورة : إن كل ذي نعمة محسود . فطعن اليهود فيه بهذا الكلام يدل على أن نعم الله تعالى في حقه كانت عظيمة . فحسن ذكره عند تعديد النعم ، للوجه الذي ذكرناه . أفاده الرازي .