التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{إِذۡ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَى ٱبۡنَ مَرۡيَمَ ٱذۡكُرۡ نِعۡمَتِي عَلَيۡكَ وَعَلَىٰ وَٰلِدَتِكَ إِذۡ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ ٱلۡقُدُسِ تُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلۡمَهۡدِ وَكَهۡلٗاۖ وَإِذۡ عَلَّمۡتُكَ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِيلَۖ وَإِذۡ تَخۡلُقُ مِنَ ٱلطِّينِ كَهَيۡـَٔةِ ٱلطَّيۡرِ بِإِذۡنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيۡرَۢا بِإِذۡنِيۖ وَتُبۡرِئُ ٱلۡأَكۡمَهَ وَٱلۡأَبۡرَصَ بِإِذۡنِيۖ وَإِذۡ تُخۡرِجُ ٱلۡمَوۡتَىٰ بِإِذۡنِيۖ وَإِذۡ كَفَفۡتُ بَنِيٓ إِسۡرَـٰٓءِيلَ عَنكَ إِذۡ جِئۡتَهُم بِٱلۡبَيِّنَٰتِ فَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنۡهُمۡ إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا سِحۡرٞ مُّبِينٞ} (110)

قوله تعالى : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى اْبْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بإذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بإذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ المَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } إذ بدل من { يَوْمَ يَجْمَعُ } وقيل : منصوب بفعل تقديره اذكر . عيسى منادى ، في محل رفع ؛ لأنه منادى مفرد موصوف بمضاف . ويحتمل أن يكون في محل نصب في قول الجمهور . هذا إذا أعرب ابن صفة لعيسى .

ذلك بيان لما جرى بين الله تعالى وبين واحد من رسله الأبرار . وهو النبي المميز الطهور عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام . ليكون ذلك نموذجاً يكشف عن تفاصيل أحوال الباقين من النبيين . وقد خص المسيح بالذكر لتعلقه بكلا الطائفتين وهم اليهود والنصارى . إذ فرّط الأولون في حقه وأفرط الآخرون فيه . وفي هذه الآيات تفصيل لجنايات الفريقين الذين كذبوا أو غالوا أو تمالئوا عليه .

قوله : { اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ } يذكّر الله تعالى بما امتن به من النعم على عيسى وأمه البتول ، بما يبين للبشرية طوال الدهر ما خصهما الله به من الكرامة وعلوا المنزلة والمقام . ثم أخذ بعد ذلك في تبيين نعمه العديدة عليهما ، فقال سبحانه : { إذ أَيَّدتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ } أيدتك ، من الأَيد بمعنى القوة . أي قويتك بروح القدس وهو جبريل عليه السلام . وقيل : المراد الروح الطاهرة الشفيفة التي تفيض نورانية وإشراقاً . والقدس بمعنى الطهر .

قوله : { تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكَهْلاً } الجملة في محل نصب حال . والمعنى أنك تكلم الناس حال كونك طفلاً وكهلاً من غير أن يكون في كلامك بين الطرفين تفاوت . وهذه خصيصة من خصائص المسيح بل هي واحدة من الخوارق المعجزة التي خوله الله إياها .

قوله : { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ } الكتاب يراد به الجنس . أي جنس الكتاب . وقيل : المراد بالكتاب : الكتابة وهي الخط . والحكمة ، معناها الكلام المحكم الصواب . والتوراة هي الكتاب المنزل على كليم الله موسى موعظة وتنذيراً وإرشاداً لنبي إسرائيل . وقد ذكرت هنا من جملة الإنعام على المسيح لشرفها ؛ ولأنه كان عليه السلام يحتج بها على اليهود في غالب جداله معهم . أما الإنجيل فقد أنزله الله عليه ليبين لهم فيه وجه الحق في الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له وليكون لهم شفاء لصدورهم المريضة وعقولهم التي مسها اللي والتمسيخ .

قوله : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي } أي تصنع من جنس الطين هيئة مثل هيئة الطير بإذن الله ثم تنفخ في تلك الهيئة المصنوعة فتصير بعد النفخ طيراً فيه الحياة والحركة كسائر الطيور . وذلك بإذن الله وتوفيقه وتقديره .

قوله : { وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي } الأكمه ، من الكمه بالتحريك معناه العمى يولد به الإنسان . والأكمه الذي يولد أعمى . بخلاف الأعمى فهو ولد بصيرا ثم عمي{[1105]} والبرص : بياض يقع في الجسد لعلة{[1106]} .

وإبراء الأكمه مطموس البصر لينقلب بصيرا ، أمر كبير خارق من الخوارق التي لا تتحقق بغير إذن الله . وكذا البرص وهو داء يصيب البدن فلا يبرحه إلا بخارق من الخوارق . فذلكم المسيح عليه السلام كان يمسح بيده الشريفة على جسد المريض فيبرأ في الحال بإذن الله .

قوله : { وإذ تخرج الموتى بإذني } أي تخرجهم من قبورهم أحياء بعد أن كانوا أمواتا وقد استحالوا إلى رفات رميم أتى عليه البلى . وذلك بإذن الله ليكون معجزة باهرة للناس وحجة لنبي الله عيسى تشهد على صدق نبوته وتدفع أعداءه المكذبين بالعناد والكفران .

قوله : { وإن كففت بني إسرائيل عنك } معطوف على قوله : { وإذ تخرج } وكففت من الكف وهو الرد والمنع{[1107]} أي رددت عنك بني إسرائيل إذ هموا بقتلك لما جئتهم بالدلائل والمعجزات على صدق نبوتك . فقال الذين جحدوا نبوتك وكذبوك من بني إسرائيل : { إن هذا إلا سحر مبين } أي ما هذا إلا سحر بين . وقد قالوا ذلك بعد أن بهرتهم الخوارق الساطعة والمعجزات الدامغة التي تكشف عن صدق دعوته ورسالته فلم يجدوا من حجة يتشبثون بها إلا أن تنسبوا معجزته للسحر .

وذلك هو ديدن المفلسين الآيسين في كل زمان ، الذين يخطف أبصارهم شعاع الحق المنير فينقلبون مدبرين وقد أعمت أبصارهم السفاهة وهوان الأحلام .


[1105]:- القاموس المحيط ج 4 ص 293.
[1106]:- المعجم الوسيط ج 1 ص 49.
[1107]:- المصباح المنير ج 2 ص 197.