ولما كان سؤاله سبحانه للرسل{[28051]} عن الإجابة متضمناً لتبكيت المبطلين وتوبيخهم ، وكان أشد الأمم افتقاراً{[28052]} إلى التوبيخ أهل الكتاب ، لأن تمردهم تعدى{[28053]} إلى رتبة الجلال بما وصفوه سبحانه به{[28054]} من اتخاذ الصاحبة والولد ، ومن ادعاء{[28055]} الإلهية لعيسى عليه السلام لما أظهر من الخوارق التي دعا{[28056]} بها إلى الله مع اقترانها بما يدل على عبوديته ورسالته لئلا يهتضم حقه أو يُغلى{[28057]} فيه ، مع مشاركتهم لغيرهم في أذى الرسل عليهم السلام بالتكذيب وغيره ، وكان في الآية السالفة ذكر الآباء وما آثروا للأبناء{[28058]} ، ذكر أمر عيسى عليه السلام بقوله مبدلاً من قوله : { يوم يجمع الله{[28059]} } معبراً بالماضي تذكيراً بما{[28060]} لذلك اليوم من تحتم{[28061]} الوقوع ، وتصويراً لعظيم تحققه ، وتنبيهاً على أنه لقوة قربه كأنه قد وقع ومضى : { إذ قال الله } أي المستجمع لصفات الكمال { يا عيسى } ثم بينه بما هو الحق من نسبه{[28062]} فقال : { ابن مريم } .
ولما كان ذلك يوم الجمع الأكبر والإحاطة بجميع الخلائق وأحوالهم في{[28063]} حركاتهم وسكناتهم ، وكان الحمد هو الإحاطة بأوصاف الكمال ، أمره بذكر حمده سبحانه على نعمته عنده فقال : { اذكر نعمتي عليك } أي في خاصة نفسك ، وذكر ما يدل للعاقل على أنه عبد مربوب فقال : { وعلى والدتك } إلى آخره مشيراً إلى أنه أوجده من غير أب فأراحه مما يجب للآباء من الحقوق وما{[28064]} يورثون أبناءهم من اقتداء أو اهتداء وإقامة بحقوق أمه ، فأقدره - وهو في المهد - على الشهادة لها بالبراءة والحصانة والعفاف{[28065]} ، وكل نعمة أنعمها سبحانه عليه صلى الله عليه وسلم فهي نعمة أمه ديناً ودنيا .
ولما ذكر سبحانه هذه الأمة المدعوة من العرب وأهل الكتاب وغيرهم بنعمه عليهم في أول السورة بقوله :{ اذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه{[28066]} }[ المائدة : 7 ] ، { واذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم{[28067]} }[ المائدة : 11 ] ، وكانت هذه الآيات من عند{ لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم }[ المائدة : 87 ] كلها في النعم ، أخبرهم أنه يذكّر عيسى عليه السلام بنعمه في يوم الجمع إشارة إلى أنهم إن لم يذكروا نعمه في هذه الدار دار العمل بالشكر ، ذكروها حين يذكّرهم بها في ذلك اليوم قسراً{[28068]} بالكفر ، و{[28069]} يا لها{[28070]} فضيحةً في ذلك الجمع الأكبر والموقف الأهول ! وليتبصّر أهل الكتاب فيرجعوا عن كفرهم{[28071]} بعيسى عليه السلام : اليهودُ بالتقصير في أمره ، والنصارى بالغلو في شأنه وقدره .
ولما كان أعظم الأمور التنزيه ، بدأ به كما فعل بنفسه الشريفة في كلمة الدخول إلى الإسلام ، ولما كان أعظم ذلك تنزيهه أمه عليها السلام وتصحيح ما خرق لها من العادة في ولادته ، وكان أحكم ما يكون ذلك بتقوية روحه حتى يكون كلامه طفلاً ككلامه كهلاً ، قدمه فقال معلقاً قارناً بكل نعمة ما يدل على عبوديته ورسالته ، ليخزي من غلا في أمره{[28072]} أو قصّر في وصفه وقدره{[28073]} : { إذ أيدتك } أي قويتك تقوية عظيمة { بروح القدس } أي الطهر الذي يحيي القلوب ويطهرها من أوضار الآثام ، ومنه جبرئيل عليه السلام ، فكان{[28074]} له منه{[28075]} في الصغر حظ لم يكن لغيره ؛ قال الحرالي : وهو يد بسط لروح الله في القلوب بما يحييها الله به من روح أمره إرجاعاً إليه في هذه الدار قبل إرجاع روح الحياة بيد القبض من عزرائيل عليه السلام ثم{[28076]} استأنف تفسير{[28077]} هذا التأييد فقال : { تكلم الناس } أي من أردت من عاليهم وسافلهم { في المهد } أي{[28078]} بما{[28079]} برأ الله به أمك{[28080]} وأظهر به كرامتك وفضلك .
ولما ذكر هذا الفضل العظيم ، أتبعه خارقاً آخر ، وهو إحياؤه نفسه وحفظُه جسدَه أكثر من ألف سنة لم يدركه الهرم ؛ فإنه رفع شاباً وينزل على ما رفع عليه ويبقى حتى يصير كهلاً ، وتسويةُ كلامه في المهد بكلامه في حال{[28081]} بلوغ الأشدّ وكمال العقل خرقاً لما جرت به العوائد فقال : { وكهلاً } ولما ذكر هذه الخارقة ، أتبعها روح العلم الرباني فقال : { وإذ علمتك الكتاب } أي الخط الذي هو مبدأ العلم وتلقيح لروح الفهم { والحكمة } أي الفهم لحقائق{[28082]} الأشياء والعمل بما يدعو إليه العلم { والتوراة } أي المنزلة على موسى{[28083]} عليه السلام { والإنجيل } أي المنزل عليك .
ولما ذكر تأييده بروح الروح ، أتبعه تأييده بإفاضة الروح على جسد{[28084]} لا أصل له فيها فقال : { وإذ تخلق من الطين } أي هذا الجنس { كهيئة الطير بإذني } ثم سبب عن ذلك قوله{[28085]} : { فتنفخ فيها } أي في الصورة المهيأة { فتكون } أي تلك الصورة التي هيأتها{[28086]} { طيراً بإذني } ثم بإفاضة روح ما على بعض جسد ، إما ابتداء في الأكمه{[28087]} كما في الذي قبله ، وإما إعادة{[28088]} كما في الحادث العمى والبرص بقوله : { وتبرئ الأكمة والأبرص } .
ولما كان من أعظم ما يراد بالسياق توبيخ من كفر به{[28089]} كرر قوله : { بإذني } ثم برد روح كامل إلى جسدها بقوله : { وإذ تخرج الموتى } أي{[28090]} من القبور فعلاً أو قوة حتى يكونوا كما كانوا من سكان البيوت { بإذني } ثم بعصمة روحه{[28091]} ممن أراد قتله بقوله : { وإذ كففت بني إسرائيل عنك } أي اليهود لما هموا بقتلك ؛ ولما كان ذلك ربما أوهم نقصاً استحلوا قصده به ، بين أنه{[28092]} قصد{[28093]} ذلك كعادة الناس مع الرسل والأكابر من أتباعهم تسلية لهذا النبي الكريم والتابعين له بإحسان فقال : { إذ جئتهم بالبينات } أي كلها ، بعضها بالفعل والباقي بالقوة لدلالة ما وجد عليه من الآيات الدالة على رسالتك الموجبة لتعظيمك { فقال الذين كفروا } أي غطوا تلك البينات عناداً { منهم إن } أي ما{[28094]} { هذا إلا سحر مبين * }
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.