معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَجَآءَتۡ سَيَّارَةٞ فَأَرۡسَلُواْ وَارِدَهُمۡ فَأَدۡلَىٰ دَلۡوَهُۥۖ قَالَ يَٰبُشۡرَىٰ هَٰذَا غُلَٰمٞۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَٰعَةٗۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ} (19)

قوله تعالى : { وجاءت سيارة } ، وهم القوم المسافرون ، سموا سيارة لأنهم يسيرون في الأرض ، كانت رفقة من مدين تريد مصر ، فأخطأوا الطريق فنزلوا قريبا من الجب ، وكان الجب في قفر بعيد من العمران للرعاة والمارة ، وكان ماؤه مالحا فعذب حين ألقي يوسف عليه السلام فيه ، فلما نزلوا أرسلوا رجلا من أهل مدين يقال له مالك بن ذعر ، لطلب الماء .

قوله تعالى : { فأرسلوا واردهم } والوارد الذي يتقدم الرفقة إلى الماء فيهيئ الأرشية والدلاء . { فأدلى دلوه } ، أي : أرسلها في البئر ، يقال : أدليت الدلو إذا أرسلتها في البئر ، ودلوتها إذا أخرجتها ، فتعلق يوسف بالحبل فلما خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أعطي يوسف شطر الحسن " . ويقال : إنه ورث ذلك الجمال من جدته سارة ، وكانت قد أعطيت سدس الحسن وقال ابن إسحاق ذهب يوسف وأمه بثلثي الحسن . فلما رآه مالك بن ذعر ، { قال يا بشرى } ، قرأ الأكثرون هكذا بالألف وفتح الياء ، والوجه أن بشراي مضافة إلى ياء المتكلم ، وهو منادى مضاف ، فموضعه نصب ، وقرأ أهل الكوفيون : يا بشرى ، بغير ياء الإضافة على فعلى ، وأمال الراء حمزة والكسائي ، وفتحها عاصم ، والوجه في إفرادها عن ياء المتكلم هو أن بشرى نكرة هاهنا ، فناداها كما تنادي النكرات ، نحو قولك : يارجلا ويا راكبا ، إذا جعلت النداء شائعا فيكون موضعه نصبا مع التنوين ، ويجوز أن يكون بشرى منادى تعرف بالقصد ، نحو يا رجل ، يريد نادى المستقى رجلا من أصحابه اسمه بشرى ، فتكون بشرى في موضع رفع ، وقيل : بشر المتقي أصحابه ، يقول أبشروا .

قوله تعالى : { هذا غلام } وروى ابن مجاهد عن أبيه : أن جدران البئر كانت تبكي على يوسف حين أخرج منها . { وأسروه } ، أخفوه ، { بضاعةً } ، قال مجاهد : أسره مالك بن ذعر وأصحابه من التجار الذين معهم وقالوا هو بضاعة استبضعها بعض أهل الماء إلى مصر خيفة أن يطلبوا منهم فيه المشاركة . وقيل : أراد أن إخوة يوسف أسروا شأن يوسف وقالوا هذا عبد لنا أبق منا .

قوله تعالى : { والله عليم بما يعملون } ، فأتى يهوذا يوسف بالطعام فلم يجده في البئر ، فأخبر بذلك إخوته ، فطلبوه فإذا هم بمالك وأصحابه نزولا ، فأتوهم فإذا هم بيوسف ، فقالوا هذا عبد آبق منا . ويقال : إنهم هددوا يوسف حتى لم يعرف حاله . وقال مثل قولهم ، ثم باعوه .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَجَآءَتۡ سَيَّارَةٞ فَأَرۡسَلُواْ وَارِدَهُمۡ فَأَدۡلَىٰ دَلۡوَهُۥۖ قَالَ يَٰبُشۡرَىٰ هَٰذَا غُلَٰمٞۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَٰعَةٗۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ} (19)

{ وجاءت سيّارةٌ رفقة يسيرون من مدين إلى مصر فنزلوا قريبا من الجب وكان ذلك بعد ثلاث من إلقائه فيه . { فأرسلوا واردهم } الذي يرد الماء ويستقي لهم وكان مالك بن ذعر الخزاعي . { فأدلى دلوهُ } فأرسلها في الجب ليملأها فتدلى بها يوسف فلما رآه . { قال يا بشرى هذا غلام } نادى البشرى بشارة لنفسه أو لقومه كأنه قال تعال فهذا أوانك . وقيل هو اسم لصاحب له ناداه ليعينه على إخراجه . وقرأ غير الكوفيين " يا بشراي " بالإضافة ، وأمال فتحة الراء حمزة والكسائي . وقرأ ورش بين اللفظين وقرئ { يا بشرى } بالإدغام وهو لغة و " بشراي " بالسكون على قصد الوقف . { وأسرّوه } أي الوارد وأصحابه من سائر الرفقة . وقيل أخفوا أمره وقالوا لهم دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر . وقيل الضمير لإخوة يوسف وذلك أن يهوذا كان يأتيه كل يوم بالطعام فأتاه يومئذ فلم يجده فيها فأخبر إخوته فأتوا الرفقة وقالوا : هذا غلامنا أبق منا فاشتروه ، فسكت يوسف مخافة أن يقتلوه . { بضاعةً } نصب على الحال أي أخفوه متاعا للتجارة ، واشتقاقه من البضع فإنه ما بضع من المال للتجارة . { والله عليم بما يعملون } لم يخف عليه أسرارهم أو صنيع إخوة يوسف بأبيهم وأخيهم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَجَآءَتۡ سَيَّارَةٞ فَأَرۡسَلُواْ وَارِدَهُمۡ فَأَدۡلَىٰ دَلۡوَهُۥۖ قَالَ يَٰبُشۡرَىٰ هَٰذَا غُلَٰمٞۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَٰعَةٗۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ} (19)

عطف على { وجاءوا أباهم عشاء يبكون } [ سورة يوسف : 16 ] عطف قصة على قصة . وهذا رجوع إلى ما جرى في شأن يوسف عليه السّلام ، والمعنى : وجاءت الجبّ .

و ( السّيّارة ) تقدم آنفاً .

والوارد : الذي يرد الماء ليستقي للقوم .

والإدلاء : إرسال الدلو في البئر لنزع الماء .

والدلو : ظرف كبير من جلد مخيط له خرطوم في أسفله يكون مطوياً على ظاهر الظرف بسبب شده بحبل مقارن للحبل المعلقة فيه الدلو . والدلو مؤنثة .

وجملة قال يا بشراي مستأنفة استئنافاً بيانياً لأن ذكر إدلاء الدلو يهيّىء السامع للسؤال عمّا جرى حينئذٍ فيقع جوابه قال يا بشراي .

والبشرى : تقدمت في قوله تعالى : { لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة } في سورة يونس ( 64 ) .

ونداء البشرى مجاز ، لأنّ البشرى لا تنادى ، ولكنها شبّهت بالعاقل الغائب الذي احتيج إليه فينادى كأنه يقال له : هذا آن حضورك . ومنه : يا حسرتَا ، ويا عجباً ، فهي مكنية وحرف النداء تخييل أو تبعية .

والمعنى : أنه فرح وابتهج بالعثور على غلام .

وقرأ الجمهور { يا بشّرَايَ } بإضافة البشرى إلى ياء المتكلم . وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف بدون إضافة .

واسم الإشارة عائد إلى ذات يوسف عليه السّلام ؛ خاطب الواردُ بقية السيّارة ، ولم يكونوا يرون ذات يوسف عليه السّلام حين أصعده الوارد من الجب ، إذ لو كانوا يرونه لما كانت فائدة لتعريفهم بأنه غلام إذ المشاهدة كافية عن الإعلام ، فتعين أيضاً أنهم لم يكونوا مشاهدين شبح يوسف عليه السّلام حين ظهر من الجب ، فالظاهر أن اسم الإشارة في مثل هذا المقام لا يقصد به الدلالة على ذات معيّنة مرئية بل يقصد به إشعار السامع بأنه قد حصَل شيءٌ فرح به غير مترقب ، كما يقول الصائد لرفاقه : هذا غزال وكما يقول الغائص : هذه صدقة أو لؤلؤة ويقول الحافر للبئر : هذا الماء قال النابغة يصف الصائد وكلابه وفرسه :

يقول راكبه الجنيّ مرتفقاً *** هذا لكُنّ ولحم الشاة محجور

وكان الغائصون إذا وجدوا لؤلؤة يصيحون . قال النابغة :

أو درّة صدفاته غوّاصها *** بهج متى يُرها يهلّ ويسجد

والمعنى : وجدت في البئر غلاماً ، فهو لقطة ، فيكون عبداً لمن التقطه . وذلك سبب ابتهاجه بقوله : { يا بشراي هذا غلام } .

والغلام : مَن سنهُ بين العشر والعشرين . وكان سنّ يوسف عليه السّلام يومئذٍ سبع عشرة سنة .

وكان هؤلاء السيارة من الإسماعيليين كما في التّوراة ، أي أبناء إسماعيل بن إبراهيم . وقيل : كانوا من أهل مدين وكان مجيئهم الجب للاستقاء منها ، ولم يشعر بهم إخوة يوسف إذ كانوا قد ابتعدوا عن الجب .

ومعنى { أسَرُّوه } أخْفَوْه . والضمير للسيارة لا محالة ، أي أخْفوا يوسف عليه السّلام ، أي خبر التقاطه خشية أن يكون من ولدان بعض الأحياء القريبة من الماء قد تردّى في الجب ، فإذا علم أهله بخبره طلبوه وانتزعوه منهم لأنهم توسموا منه مخائل أبناء البيوت ، وكان الشأن أن يعرّفوا من كان قريباً من ذلك الجب ويعلنوا كما هو الشأن في التعريف باللّقطة ، ولذلك كان قوله : { وأسرّوه } مشعراً بأن يوسف عليه السّلام أخبرهم بقصته ، فأعرضوا عن ذلك طمعاً في أن يبيعوه .

وذلك من فقدان الدين بينهم أو لعدم العمل بالدين .

و { بضاعةً } منصوب على الحال المقدّرة من الضمير المنصوب في { أسرّوه } ، أي جعلوه بضاعة . والبضاعة : عروض التجارة ومتاعها ، أي عزموا على بيعه .

وجملة { والله عليم بما يعملون } معترضة ، أي والله عليم بما يعملون من استرقاق من ليس لهم حقّ في استرقاقه ، ومن كان حقّه أن يسألوا عن قومه ويبلغوه إليهم ، لأنهم قد علموا خبره ، أو كان من حقهم أن يسْألوه لأنه كان مستطيعاً أن يخبرهم بخبره .

وفي عثور السيارة على الجب الذي فيه يوسف عليه السّلام آية من لطف الله به .