البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَجَآءَتۡ سَيَّارَةٞ فَأَرۡسَلُواْ وَارِدَهُمۡ فَأَدۡلَىٰ دَلۡوَهُۥۖ قَالَ يَٰبُشۡرَىٰ هَٰذَا غُلَٰمٞۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَٰعَةٗۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ} (19)

أدلى الدلو أرسلها ليملأها ، ولادها يدلوها جذبها وأخرجها من البئر . قال : لا تعقلواها وادلواها دلواً . والدهر معروف ، وهي مؤنثة فتصغر على دليته ، وتجمع على أدل ودلاء ودلى . البضاعة : القطعة من المال تجعل للتجارة ، من بضعته إذا قطعته ، ومنه المبضع .

وقيل : جاءت السيارة في اليوم الثاني من طرحه في الجب .

وقيل : كان التسبيح غذاءه في الجب .

قيل : وكانت السيارة تائهة تسير من أرض إلى أرض ، وقيل : سيارة في الطريق أخطؤوه فنزلوا قريباً من الجب ، وكان في قفرة بعيدة من العمران لم تكن إلا للرعاة ، وفيهم مالك بن دعر الخزاعي فأرسلوه ليطلب لهم الماء .

والوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم ، وإضافة الوارد للضمير كإضافته في قوله : ألقيت كاسبهم .

ليست إضافة إلى المفعول ، بل المعنى الذي يرد عليهم والذي يكسب لهم .

والظاهر أن الوارد واحد .

وقال ابن عطية : والوارد هنا يمكن أن يقع على الواحد وعلى جماعة انتهى .

وحمل على معنى السيارة في قوله : فأرسلوا ، ولو حمل على اللفظ لكان الترتيب فأرسلت واردها .

فأدلى دلوه أي : أرسلها ليستقي الماء قال : يا بشراي .

في الكلام حذف تقديره : فتعلق يوسف بحبل الدلو ، فلما بصر به المدلي قال : يا بشراي .

وتعلقه بالحبل يدل على صغره ، إذ لو كان ابن ثمانية عشر أو سبعة عشر لم يحمله الحبل غالباً ، ولفظه غلام ترجح ذلك ، إذ يطلق عليه ما بين الحولين إلى البلوغ حقيقة ، وقد يطلق على الرجل الكامل لقول ليلى الأخيلية في الحجاج بو يوسف :

غلام إذا هز القناة سقاها *** وقوله : يا بشراي هو على سبيل السرور والفرح بيوسف ، هذ رأى أحسن ما خلق .

وأبعد السدّي في زعمه أنّ بشرى اسم رجل ، وأضاف البشرى إلى نفسه فكأنه قال تعالى : فهذا من آونتك .

وقرأ يا بشرى بغير إضافة الكوفيون ، وروى ورش عن نافع : يا بشراي : بسكون ياء الإضافة ، وهو جمع بين ساكنين على غير حدة وتقدم تقرير مثله في { ومحياي } وقرأ أبو الطفيل ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، والجحدري : يا بشرى بقلب الألف ياء وإدغامها في ياء الإضافة ، وهي لغة لهذيل .

ولناس غيرهم تقدم الكلام عليها في البقرة ، في { فمن تبع هداي } قيل : ذهب به الوارد ، فلما دنا من أصحابه صاح بذلك ، فبشرهم به وأسروه .

الظاهر أنّ الضمير للسيارة التي الوارد منهم أي : أخفوه من الرفقة ، أو كتموا أمره من وجدانهم له في الجب وقالوا : دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر .

وقال ابن عباس : الضمير في وأسروه وشروه لإخوة يوسف ، وأنهم قالوا للرفقة : هذا غلام قد أبق لنا فاشتروه منا ، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه ، وذلك أنه روي أن بعضهم رجع إلى الجب ليتحققوا أمر يوسف ويقفوا على الحقيقة من فقده ، فلما علموا أن الوارد قد أخذوه ، جاؤوهم وقالوا تلك المقالة .

وانتصب بضاعة على الحال أي : متجراً لهم ومكسباً .

والله عليم بما يعملون أي : لم تخف عليه أسرارهم ، وهو وعيد لهم حيث استبضغوا ما ليس لهم ، أو والله عليم بعمل أخوة يوسف بأبيهم وأخيهم من سوء الصنع ، وفي ذلك أعظم تذكار بما فعلوا بيوسف .

قيل : أوحى الله إليه في الجب أن لا يطلع أباه ولا غيره على حاله ، لحكمة أراد مضاءها ، وظهر بعد ذلك ما جرى له من جعله على خزائن الأرض ، وإحواج أخواته إليه ، ورفع أبويه على العرش ، وما جرى مجرى ذلك مما كان مكنوناً في القدر .