فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَجَآءَتۡ سَيَّارَةٞ فَأَرۡسَلُواْ وَارِدَهُمۡ فَأَدۡلَىٰ دَلۡوَهُۥۖ قَالَ يَٰبُشۡرَىٰ هَٰذَا غُلَٰمٞۚ وَأَسَرُّوهُ بِضَٰعَةٗۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِمَا يَعۡمَلُونَ} (19)

{ وجاءت سيارة فأرسلوا } ذكر على المعنى مكان أرسلت { واردهم } هذا شروع في حكاية خلاص يوسف وما كان بعد ذلك من خبره ، وقد تقدم تفسير السيارة أي جماعة مسافرون سموا سيارة لسيرهم في الأرض والمراد بها هنا رفقة مارة تسير من الشام أو من مدين إلى مصر فأخطأوا الطريق وهاموا حتى نزلوا قريبا من الجب ، وكان في قفرة بعيدة من العمران ترده المارة والرعاة وكان ماؤه ملحا والوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم وكان اسمه فيما ذكر المفسرون مالك ابن ذعر الخزاعي من العرب العاربة .

{ فأدلى دلوه } يقال أدلى دلوه إذا أرسلها ليملأها ودلاها إذا أخرجها قال الأصمعي والدلو مؤنث وقد يذكر والدلو الذي يستقىي بها فتعلق يوسف بالحبل فلما أخرج الدلو من البئر أبصره الوارد { قال يا بشرى } ومعنى مناداته للبشرى أنه أراد حضورها في ذلك الوقت فكأنه قال هذا وقت مجيئك وأوان حضورك .

وقيل أنه نادى رجلا اسمه بشرى وهذا على ما فيه من البعد لا يتم إلا على قراءة من قرأ يا بشرى وقد قرأ يا بشراي وعليه أهل المدينة وأهل البصرة وأهل الشام قرأوا بإضافة البشرى إلى الضمير فالأول أولى قال النحاس : والمعنى من نداء البشرى التبشير لمن حضر وهو أوكد من قولك بشرته كما تقول يا عجبا أي يا عجب هذا من أيامك فاحضر قال : وهذا مذهب سيبويه .

{ هذا غلام } وكان يوسف أحسن ما يكون من الغلمان وقد أعطى شطر الحسن وقيل ورثه من جدته سارة وكانت قد أعطيت سدس الحسن ، فكان حسن الوجه جعد الشعر ضخم العينين مستوي الخلق أبيض اللون غليظ الساعدين والعضدين والساقين خميص البطن صغير السرة وكان إذا تبسم ظهر النور من ضواحكه وإذا تكلم ظهر من ثناياه ولا يستطيع أحد وصفه .

قال الضحاك : فاستبشروا بأنهم أصابوا غلاما لا يعلمون علمه ولا منزلته من ربه وقال قتادة : تباشروا به حين استخرجوه من البئر وهي ببيت المقدس معلوم مكانها .

{ وأسروه } أي أسر الوارد وأصحابه الذين كانوا معه يوسف عن بقية الرفقة فلم يظهروه لهم وقيل إنهم لم يخفوه ولكن أخفوا وجدانهم له في الجب ، وزعموا أنه دفعه إليهم أهل الماء ليبيعوه لهم بمصر . وقال مجاهد : أسره التجار بعضهم من بعض وقيل ضمير الفاعل في أسروه لإخوة يوسف وضمير المفعول ليوسف وذلك أنه كان يأتيه أخوه يهوذا كل يوم بطعام فأتاه يوم خروجه من البئر فلم يجده فأخبر إخوته فأتوا الرفقة وقالوا هذا غلام أبق منا فاشتروه منهم وسكت يوسف مخافة أن يأخذوه فيقتلوه .

وعن ابن عباس : يعني إخوة يوسف أسروا شأنه وكتموا أن يكون أخاهم وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته ، واختار البيع فباعه إخوته بثمن بخس والأول أولى .

{ بضاعة } أي أخفوه حال كونه بضاعة أي متاعا للتجارة والبضاعة يبضع من المال أي يقطع منه لأنها قطعة من المال الذي يتجر به قيل قاله لهم الوارد وأصحابه أنه بضاعة استبضعناها من الشام مخافة أن يشاركوهم فيه .

{ والله عليم بما يعملون } أي بما يترتب على عملهم القبيح بحسب الظاهر من الأسرار والفوائد المنطوية تحت باطنه ، فإن هذا البلاء الذي فعلوه به كان سببا لوصوله إلى مصر ، وتنقله في أطوار حتى ملكها فرحم الله به العباد والبلاد خصوصا في سنين القحط الذي وقع بها كما سيأتي ، قيل وفيه وعيد شديد لمن كان فعله سببا لما وقع فيه يوسف من المحن وما صار فيه من الابتذال يجري البيع والشراء فيه وهو الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف ابن يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم في وصفه بذلك .