قوله تعالى : { وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين }يعني : فاطبخ لي الآجر ، وقيل : إنه أول من اتخذ الآجر وبنى به ، { فاجعل لي صرحاً } قصراً عالياً ، وقيل : منارة ، قال أهل السير : لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح ، جمع هامان الفعلة حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء ، ومن يطبخ الآجر والجص وينجر الخشب ويضرب المسامير ، فرفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعاً لم يبلغه بنيان أحد من الخلق ، أراد الله عز وجل أن يفتنهم فيه ، فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه وأمر بنشابة فرمى بها نحو السماء فردت إليه وهي ملطخة دماً ، فقال قد قتلت إله موسى ، وكان فرعون يصعد على البراذين ، فبعث الله جبريل جنح غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع فوقعت قطعة منها على عسكر فرعون فقتلت منهم ألف ألف رجل ، ووقعت قطعة في البحر وقطعة في المغرب ، ولم يبق أحد ممن عمل فيه بشيء إلا هلك ، فذلك قوله تعالى : { فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحاً } { لعلي أطلع إلى إله موسى } أنظر إليه وأقف على حاله ، { وإني لأظنه } يعني موسى ، { من الكاذبين } في زعمه أن للأرض والخلق إلهاً غيري ، وأنه رسوله .
يخبر تعالى عن كفر فرعون وطغيانه وافترائه في دعوى الإلهية لنفسه القبيحة - لعنه الله - كما قال تعالى : { فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ } [ الزخرف : 54 ] ، وذلك لأنه دعاهم إلى الاعتراف له بالإلهية ، فأجابوه إلى ذلك بقلة عقولهم وسخافة أذهانهم ؛ ولهذا قال : { يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } ، [ و ]{[22322]} قال تعالى إخبارا عنه : { فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [ النازعات : 23 - 26 ] يعني : أنه جمع قومه ونادى فيهم بصوته العالي مُصَرِّحا لهم بذلك ، فأجابوه سامعين مطيعين . ولهذا انتقم الله تعالى منه ، فجعله عبرة لغيره في الدنيا والآخرة ، وحتى إنه واجه موسى الكليم بذلك فقال : { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } [ الشعراء : 29 ] .
وقوله : { فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى } أي : أمر وزيره هامان ومدبر رعيته ومشير دولته أن يوقد له على الطين ، ليتخذ له آجُرّا لبناء الصرح ، وهو القصر المنيف الرفيع - كما قال في الآية الأخرى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ . أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ } [ غافر : 36 ، 37 ] ، وذلك لأن{[22323]} فرعون بنى هذا الصرح الذي لم يُرَ في الدنيا بناء أعلى منه ، إنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما زعمه من دعوى إله غير فرعون ؛ ولهذا قال : { وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ } أي : في قوله إن ثَمّ ربًّا غيري ، لا أنه كذبه في أن الله أرسله ؛ لأنه لم يكن يعترف بوجود الصانع ، فإنه قال : { وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 23 ] وقال : { لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لأجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ } [ الشعراء : 29 ] وقال : { يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي } وهذا قول ابن جرير .
كلام فرعون المحكي هنا واقع في مقام غير مقام المحاورة مع موسى فهو كلام أقبل به على خطاب أهل مجلسه إثر المحاورة مع موسى فلذلك حُكي بحرف العطف عطف القصة على القصة . فهذه قصة محاورة بين فرعون وملئه في شأن دعوة موسى فهي حقيقة بحرف العطف كما لا يخفى .
أراد فرعون بخطابه مع ملئه أن يثبتهم على عقيدة إلهيته فقال { ما علمتُ لكم من إله غيري } إبطالا لقول موسى المحكي في سورة [ الشعراء : 26 ] { قال ربكم ورب آبائكم الأولين } وقوله هناك { رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين } [ الشعراء : 24 ] . فأظهر لهم فرعون أن دعوة موسى لم تَرُجْ عنده وأنه لم يصدق بها فقال { ما علمت لكم من إله غيري } .
والمراد بنفي علمه بذلك نفي وجود إله غيره بطريق الكناية يريهم أنه أحاط علمه بكل شيء حق فلو كان ثمة إله غيره لعلمه .
والمقصود بنفي وجود إله غيره نفي وجود الإله الذي أثبته موسى وهو خالق الجميع . وأما آلهتهم التي يزعمونها فإنها مما تقتضيه إلهية فرعون لأن فرعون عندهم هو مظهر الآلهة المزعومة عندهم لأنه في اعتقادهم ابن الآلهة وخلاصة سرهم ، وكل الصيد في جوف الفرا .
وحيث قال موسى إن الإله الحق هو رب السموات فقد حسب فرعون أن مملكة هذا الرب السماء تصوراً مختلاً ففرع على نفي إله غيره وعلى توهم أن الرب المزعوم مقره السماء أن أمر { هامان } وزيره أن يبني له صرحاً يبلغ به عنان السماء ليرى الإله الذي زعمه موسى حتى إذا لم يجده رجع إلى قومه فأثبت لهم عدم إله في السماء إثبات معاينة ، أراد أن يظهر لقومه في مظهر المتطلب للحق المستقصي للعوالم حتى إذا أخبر قومه بعد ذلك بأن نتيجة بحثه أسفرت عن كذب موسى ازدادوا ثقة ببطلان قول موسى عليه السلام .
وفي هذا الضغث من الجدل السفسطائي مبلغ من الدلالة على سوء انتظام تفكيره وتفكير ملئه ، أو مبلغ تحيله وضعف آراء قومه .
و { هامان } لقب أو اسم لوزير فرعون كما تقدم آنفاً . وأراد بقوله { فأوقد لي يا هامان على الطين } أن يأمر { هامان } العملة أن يطبخوا الطين ليكون آجراً ويبنوا به فكني عن البناء بمقدماته وهي إيقاد الأفران لتجفيف الطين المتخذ آجراً . والآجرّ كانوا يبنون به بيوتهم فكانوا يجعلون قوالب من طين يتصلب إذا طبخ وكانوا يخلطونه بالتبن ليتماسك قبل إدخاله التنور كما ورد وصف صنع الطين في الإصحاح الخامس من سفر الخروج .
وابتدأ بأمره بأول أشغال البناء للدلالة على العناية بالشروع من أول أوقات الأمر لأن ابتداء البناء يتأخر إلى ما بعد إحضار مواده فلذلك أمره بالأخذ في إحضار تلك المواد التي أولها الإيقاد ، أي إشعال التنانير لطبخ الآجرّ .
وعُبر عن الآجرّ بالطين لأنه قوام صنع الآجرّ وهو طين معروف . وكأنه لم يأمره ببناء من حجر وكلس قصداً للتعجيل بإقامة هذا الصرح المرتفع إذ ليس مطلوباً طول بقائه بإحكام بنائه على مرّ العصور بل المراد سرعة الوصول إلى ارتفاعه كي يشهده الناس ، ويحصل اليأس ثم يُنقض من الأساس .
وعدل عن التعبير بالآجرّ ، قال ابن الأثير في « المثل السائر » : لأن كلمة الآجرّ ونحوها كالقرمد والطوب كلمات مبتذلة فذكر بلفظ الطين اه . وأظهر من كلام ابن الأثير : أن العدول إلى الطين لأنه أخف وأفصح .
وإسناد الإيقاد على الطين إلى هامان مجاز عقلي باعتبار أنه الذي يأمر بذلك كما يقولون : بنى السلطان قنطرة وبنى المنصور بغداد .
وتقدم ذكر هامان آنفاً وأنه وزير فرعون . وكانت أوامر الملوك في العصور الماضية تصدر بواسطة الوزير فكان الوزير هو المنفذ لأوامر الملك بواسطة أعوانه من كتاب وأمراء ووكلاء ونحوهم ، كل فيما يليق به .
والصرح : القصر المرتفع ، وقد تقدم عند قوله تعالى { قيل لها ادخلي الصرح } في سورة [ النمل : 44 ] .
ورجا أن يصل بهذا الصرح إلى السماء حيث مقر إله موسى . وهذا من فساد تفكيره إذ حسب أن السماء يوصل إليها بمثل هذا الصرح ما طال بناؤه ، وأن الله مستقر في مكان من السماء .
والاطلاع : الطلوع القوي المتكلف لصعوبته .
وقوله { وإني لأظنه من الكاذبين } استعمل فيه الظن بمعنى القطع فكانت محاولته الوصول إلى السماء لزيادة تحقيق ظنه ، أو لأنه أراد أن يقنع قومه بذلك . ولعله أراد بهذا تمويه الأمر على قومه ليلقي في اعتقادهم أن موسى ادعى أن الله في مكان معين يبلغ إليه ارتفاع صرحه . ثم يجعل عدم العثور على الإله في ذلك الارتفاع دليلاً على عدم وجود الإله الذي ادعاه موسى . وكانت عقائد أهل الضلالة قائمة على التخيل الفاسد ، وكانت دلائلها قائمة على تمويه الدجالين من زعمائهم .
وقوله { من الكاذبين } يدل على أنه يعده من الطائفة الذين شأنهم الكذب كما تقدم في قوله تعالى { قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [ البقرة : 67 ] .
ولم يذكر القرآن أن هذا الصرح بُني ، وليس هو أحد الأهرام لأن الأهرام بنيت من حجارة لا من آجرّ ، ولأنها جعلت مدافن للذين بنوها من الفراعنة . واختلف المفسرون هل وقع بناء هذا الصرح وتم أو لم يقع ؛ فحكى بعضهم أنه تم وصعد فرعون إلى أعلاه ونزل وزعم أنه قتل رب موسى . وحكى بعضهم أن الصرح سقط قبل إتمام بنائه فأهلك خلقاً كثيراً من عملة البناء والجند . وحكى بعضهم أنه لم يشرع في بنائه . وقد لاح لي في معنى الآية وجه آخر سأذكره في سورة المؤمن .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وقال فرعون يا أيها الملأ} يعني الأشراف من قومه {ما علمت لكم من إله غيري} هذا القول من فرعون كفر {فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا} يقول: أوقد النار على الطين حتى يصير اللبن أجُرا...
{فاجعل لي صرحا} يعني قصرا طويلا، {لعلي أطلع إلى إله موسى}... {وإني لأظنه} يقول: إني لأحسب موسى {من الكاذبين} بما يقول: إن في السماء إلها.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وقال فرعون لأشراف قومه وسادتهم:"يا أيّها المَلأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرِي" فتعبدوه وتصدّقوا قول موسى فيما جاءكم به من أن لكم وله ربا غيري ومعبودا سواي، "فَأوْقِدْ لي يا هامانُ عَلى الطّينِ "يقول: فاعمل لي آجرا... عن مجاهد "فَأَوْقِدْ لي يا هامانُ عَلى الطّينِ" قال: على المدَر يكون لَبِنا مطبوخا...
وقوله: "فاجْعَلْ لي صَرْحا" يقول: ابن لي بالآجرّ بناء، وكل بناء مسطح فهو صرح كالقصر...
وقوله: "لَعَلّي أطّلِعُ إلى إلَهِ مُوسَى" يقول: أنظر إلى معبود موسى، الذي يعبده، ويدعو إلى عبادته، "وإنّي لأظُنّهُ" فيما يقول من أن له معبودا يعبده في السماء، وأنه هو الذي يؤيده وينصره، وهو الذي أرسله إلينا، "من الكاذبين"...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري} كأنه قال: للملإ خصوصيته لهم لأنه كان اتخذ للأتباع أصناما يعبدونها، وجعل للملإ نفسه إلها لما لم ير الأتباع أهلا لعبادة نفسه، جعل لهم عبادة الأصنام، ورأى الملأ أهلا لذلك، فخصهم... وقوله تعالى: {فاجعل لي صرحا} أي قصرا {لعلي أطلع إلى إله موسى} كان يعرف أنه ليس بإله السماء والأرض، إذ لا يملك ذلك، فكأنه أراد بقوله {ما علمت لكم من إله غيري} قومه وأهله خاصة...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
قصد بنفي علمه بإله غيره: نفي وجوده، معناه: {مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرِى} [الأعراف: 59]... ويجوز أن يكون على ظاهره، وأنّ إلها غيره غير معلوم عنده، ولكنه مظنون بدليل قوله: {وَإِنّي لأظُنُّهُ مِنَ الكاذبين}، وإذا ظنّ موسى عليه السلام كاذباً في إثباته إلهاً غيره ولم يعلمه كاذباً، فقد ظنّ أن في الوجود إلهاً غيره، ولو لم يكن المخذول ظاناً ظناً كاليقين، بل عالماً بصحة قول موسى عليه السلام لقول موسى له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السموات والأرض بَصَائِرَ} [الإسراء: 102] لما تكلف ذلك البنيان العظيم، ولما تعب في بنائه ما تعب، لعله يطلع بزعمه إلى إله موسى عليه السلام، وإن كان جاهلاً مفرط الجهل به وبصفاته... ويجوز أن يفسر الظن على القول الأوّل باليقين... ويكون بناء الصرح مناقضة لما ادعاه من العلم واليقين، وقد خفيت على قومه لغباوتهم وبلههم. أوْ لم تخْفَ عليهم، ولكن كلا كان يخاف على نفسه سوطه وسيفه.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وقال فرعون} جواباً لهذا الترغيب والترهيب بعد الإعذار، ببيان الآيات الكبار، قانعاً في مدافعة ما رأى أنه اجتذب قومه الأغمار الأغبياء عن الجهل من ظهور تلك الآيات البينات بأن يوقفهم عن الإيمان إلى وقت ما، وكذا كانت عادته كلما أظهر موسى عليه الصلاة والسلام برهاناً، لأن قومه في غاية الغباوة والعراقة في الميل إلى الباطل والنفرة من الحق وترجيح المظنة على المئنة: {يا أيها الملأ} أي الأشراف، معظماً لهم استجلاباً لقلوبهم {ما علمت لكم} وأعرق في النفي فقال: {من إله غيري} نفى علمه بذلك إظهاراً للنصفة، وأنه ما قصد غشهم، وذلك منه واضح في أنه قصد تشكيكهم، إشارة منه إلى أن انتقاء علمه بوجوده ما هو إلا لانتفاء وجوده بعد علمه بأن الحق مع موسى عليه الصلاة والسلام لأنه أنهى ما قدر عليه بعد رؤيتهم لباهر الآيات، وظاهر الدلالات؛ ثم زاد في إيقافهم عن المتابعة بأن سبب عن جهله قوله لوزيره معلماً له صنعة الآجر لأنه أول من عمله، مع أنه هذه العبارة أشبه بهمم الجبابرة من أن يقول: اصنع لي آجراً: {فأوقد لي} أضاف الإيقاد إليه إعلاماً بأنه لا بد منه {يا هامان} وهو وزيره {على الطين} أي المتخذ لبناً ليصير آجراً؛ ثم سبب عن الإيقاد قوله: {فاجعل لي} أي منه {صرحاً} أي بناء عالياً يتاخم السماء، قال الطبري: وكل بناء مسطح فهو صرح كالقصر، وقال الزجاج: كل بناء متسع مرتفع {لعلي أطلع} أي أتكلف الطلوع {إلى إله موسى} أي الذي يدعو إليه، فإنه ليس في الأرض أحد بهذا الوصف الذي ذكره فأنا أطلبه في السماء موهماً لهم أنه مما يمكن الوصول إليه على تقدير صحة الدعوى بأنه موجود، وهو قاطع بخلاف ذلك، ولكنه يقصد المدافعة من وقت إلى وقت، لعلمه أن العادة جرت بأن أكثر الناس يظنون بالملوك القدرة على كل ما يقولونه؛ ثم زادهم شكاً بقوله، مؤكداً لأجل دفع ما استقر في الأنفس من صدق موسى عليه الصلاة والسلام: {وإني لأظنه} أي موسى {من الكاذبين} أي دأبه ذلك، وقد كذب هو ولبس لعنة الله ووصف أصدق أهل ذلك الزمان بصفة العريقة في العدوان، وإن كان هذا الكلام منه على حقيقته فلا شيء أثبت شهادة على إفراط جهله وغباوته منه حيث ظن أنه يصل إلى السماء؛ ثم على تقدير الوصول يقدر على الارتقاء على ظهرها، ثم على تقدير ذلك يقدر على منازعة بانيها وسامكها ومعليها.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري.. كلمة فاجرة كافرة، يتلقاها الملأ بالإقرار والتسليم. ويعتمد فيها فرعون على الأساطير التي كانت سائدة في مصر من نسب الملوك للآلهة. ثم على القهر، الذي لا يدع لرأس أن يفكر، ولا للسان أن يعبر. وهم يرونه بشرا مثلهم يحيا ويموت، ولكنه يقول لهم هذه الكلمة فيسمعونها دون اعتراض ولا تعقيب! ثم يتظاهر بالجد في معرفة الحقيقة، والبحث عن إله موسى، وهو يلهو ويسخر: (فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى).. في السماء كما يقول! وبلهجة التهكم ذاتها يتظاهر بأنه شاك في صدق موسى، ولكنه مع هذا الشك يبحث وينقب ليصل إلى الحقيقة: (وإني لأظنه من الكاذبين)!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كلام فرعون المحكي هنا واقع في مقام غير مقام المحاورة مع موسى فهو كلام أقبل به على خطاب أهل مجلسه إثر المحاورة مع موسى فلذلك حُكي بحرف العطف عطف القصة على القصة. فهذه قصة محاورة بين فرعون وملئه في شأن دعوة موسى فهي حقيقة بحرف العطف كما لا يخفى...
{ما علمت لكم من إله غيري}. والمراد بنفي علمه بذلك نفي وجود إله غيره بطريق الكناية يريهم أنه أحاط علمه بكل شيء حق فلو كان ثمة إله غيره لعلمه... وحيث قال موسى إن الإله الحق هو رب السموات فقد حسب فرعون أن مملكة هذا الرب السماء تصوراً مختلاً ففرع على نفي إله غيره وعلى توهم أن الرب المزعوم مقره السماء أن أمر {هامان} وزيره أن يبني له صرحاً يبلغ به عنان السماء ليرى الإله الذي زعمه موسى حتى إذا لم يجده رجع إلى قومه فأثبت لهم عدم إله في السماء إثبات معاينة، أراد أن يظهر لقومه في مظهر المتطلب للحق المستقصي للعوالم حتى إذا أخبر قومه بعد ذلك بأن نتيجة بحثه أسفرت عن كذب موسى ازدادوا ثقة ببطلان قول موسى عليه السلام.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي} وذلك في ما خيّل إليه من سيطرة موسى على عقولهم ومشاعرهم من خلال ما قدّمه من الآيات والمنطق الرسالي، لأنه شعر بتأثير ذلك في نفسه، مع أنه صاحب السلطة وصاحب المصلحة في الرفض، فخاف أن يؤثر ذلك على قومه. ولهذا أراد أن يقوم بأسلوب إيحائيٍّ وبطريقةٍ استعراضية، فهو الحاكم الذي عوّدهم أن يفكر لهم، وأن يكتشف الحقائق التي يريدهم أن يؤمنوا بها، لأنه عطّل لهم تفكيرهم وأبعدهم عن السعي للحصول على المعرفة بشكل مستقل. ولهذا، فالعقيدة تصدر عنه بمرسوم كما هي الشريعة التي قرّرها بمرسوم، كما هي سيرة الطغاة الذين لا يرون لشعوبهم قيمةً في ميزان الفكر، ولا يرون لهم حقاً في تقرير مصيرهم بأنفسهم، وهذا ما جعله يواجههم بأن دعواه الألوهية، التي تجعله في موقع الإِله المعبود، وتجعلهم في موقف العبودية له، لم تنطلق من حالةٍ ذاتيةٍ طموحةٍ، بل من موقع الحقيقة التي تفرض نفسها على الواقع، لأنه بحث في كل ما حوله، فلم يجد إلهاً غيره يملك سلطة الحكم، ويسيطر على مواقع القوّة. أمّا ما قاله موسى، فليس فيه أيّة حجةٍ تؤكده، ولم يجد فيه هو برهاناً قوّياً مقنعاً، ولذلك فإنه يؤكد لهم ضرورة البقاء على ما هم عليه من خط العقيدة والعبادة. ثم يبدأ الاستعراض الذي يراد من خلاله الإِيحاء بأنه لا يقف في موقف العناد، بل في موقف الشخص الذي لا يدّخر جهداً في الوصول إلى الحقيقة، مما يملك من إمكانات التحرك نحوها، ولذا فهو يطلب من الناس أن يجمّدوا موقفهم، ولا يغيّروه، حتى تتمّ عملية استنفاد الجهد كله في السعي إلى معرفة هذا الإِله، ليعرّفهم بعد ذلك كل ما وصل إليه، {فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ} الآجر الذي كانوا يستعملونه للبناء، فيطبخون الطين بالنار ليتماسك ويتحول إلى حجر صلب {فَاجْعَل لِّي صَرْحاً} وهو البناء العالي الذي يملك من خلاله التطلع إلى الأعالي في رحاب الفضاء، {لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} إذ كان يتصوره شخصاً ساكناً في طبقات الجو، في مكان ما، في طريقة إيماء إلى الناس ليتصوروا الأمر كما لو كان هناك شخص ينازع شخصاً، أو يبحث عنه، أو يلاحقه في أماكن وجوده، لتسقط هيبته من النفوس كقوّةٍ خالقةٍ قادرةٍ مهيمنةٍ على الكون كله، كأسلوب من أساليب إضلال الناس. ثم يثير أمامهم الفكرة الموحية بأن الأمر لا يعدو أن يكون وهماً كاذباً من موسى (عليه السلام)، لأنه لو كان كما يقول لتطلَّع الناس إليه في الفضاء، لعدم وجود ما يحجبه عنهم في القصر الذي يسكنه، {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} لأنه لا يملك دليلاً حسياً على ما يدّعيه من وجود هذا الإِله الخفيّ. وهذا الأسلوب الفرعوني، يمثل لوناً من ألوان التذاكي الطغياني لدى الطغاة في إضلالهم للناس عندما يواجههم الخطر على سلطانهم ويخافون من تأثر الناس به، فيعملون على التقرب إليهم بالأساليب المتحركة بين الإيحاء بالإخلاص لهم، والنصح لأمورهم، وبين الاستعراض المسرحي في التأثير على مشاعرهم...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
من سنن الساسة القدماء في أعمالهم أنّه كلما وقعت حادثة مهمّة على خلاف رغباتهم وميولهم -ومن أجل التمويه وإيهام الناس- يبادرون إلى خلق جوّ جديد ليلفتوا أنظار الناس إليه، وليصرفوهم عن تلك الحادثة المطلوبة. ويبدو أنّ بناء «الصرح العظيم» حدث بعد ما جرى لموسى من مواجهته السحرة ما جرى... فقد شاع خبر انتصار موسى (عليه السلام) على السحرة في مصر، وإيمان السحرة بموسى زاد في الأمر أهمية، كما أن موقع الحكومة الفرعونية أصبح في خطر جديّ شديد. واحتمال تيقظ الجماهير التي في أسر الذل كان كبيراً جدّاً.. فيجب صرف أفكار الناس بأية قيمة كانت، وإشغالهم بسلسلة من المشاغل الذهنية مقرونة ببذل من الجهاز الحكومي، لإغفال الناس وتحميقهم! وفي هذا الصدد يتحدث القرآن الكريم عن جلوس فرعون للتشاور في معالجة الموقف، إذ نقرأ في أوّل آية من هذا المقطع: (وقال فرعون يا أيّها الملأ ما علمت لكم من إله غيري). فأنا إلهكم في الأرض.. أمّا إله السماء فلا دليل على وجوده، ولكنني سأتحقق في الأمر ولا أترك الاحتياط، فالتفت إلى وزيره هامان وقال: (فأوقد لي يا هامان على الطين) ثمّ أصدر الأوامر ببناء برج أو قصر مرتفع جدّاً لأصعد عليه وأستخبر عن إله موسى... والذي يلفت النظر أن فرعون في كلامه هذا (ما علمت لكم من إله غيري) كان قد استعمل نهاية الخبث ومنتهى الشيطنة.. إذ كان يرى من المسلّم به أنّه إله!!.. وكان مدار بحثه: هل يوجد إله غيره؟!!.. ثمّ ينفي أن يكون هناك إله سواه؛ لعدم وجود الدليل!! وفي المرحلة الثّالثة والأخيرة، ومن أجل أن يقيم الدليل على عدم وجود إله غيره بنى ذلك الصرح!. كل هذه الأُمور تؤكّد جيداً أنّه كان يعرف تلك المسائل، إلاّ أنّه كان يضلل الناس ويصرف أفكارهم عن الحق، ليحفظ موقعه وحكومته!