فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَأُ مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرِي فَأَوۡقِدۡ لِي يَٰهَٰمَٰنُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجۡعَل لِّي صَرۡحٗا لَّعَلِّيٓ أَطَّلِعُ إِلَىٰٓ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ} (38)

{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحًا لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ( 38 ) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ ( 39 ) }

{ وقال فرعون : يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري } تمسك اللعين بمجرد الدعوى الباطلة مغالطة لقومه منه ، وقد كان يعلم أن ربه الله عز وجل والظاهر أنه لا يريد بإلهية نفسه كونه خالقا للسماوات والأرض وما بينهما ، فإن العلم بامتناع ذلك مما لا يخفى على أحد ، فالشك في ذلك يقتضي زوال العقل بالكلية ، فالمخذول لعنه الله كأنه يظن أن الأفلاك والكواكب كافية في اختلاف أحوال هذا العالم السفلي ، فلا حاجة إلى إثبات صانع .

قال القاضي : نفي علمه بإله غيره دون وجوده إذ لم يكن عنده ما يقتضي الجزم بعدمه . ولذلك أمر ببناء الصرح ، قلت : هو رد على الزمخشري في قوله : إن المقصود بنفي العلم بالإله نفي وجوده ، ويمكن التوجيه بأن يقال : الوجود وجودان ، وجود ذهني ووجود خارجي والمراد في كلامه الأول .

ولا شك أنه إذا انتفى علم الإنسان بشيء انتفى وجوده في ذهنه ، ولكن ربما كان هذا غير مراد للزمخشري ، لأن الظاهر من كلامه الوجود الشائع عند أهل اللغة ، وهو الخارجي . قال سراج الدين : غرض صاحب الكشاف أن عدم الوجود سبب لعدم العلم بالوجود في الجملة ، ولا شك أنه كذلك فأطلق المسبب وأريد السبب ، لا أن بينهما ملازمة كلية على أنه لما كان من أقوى أسباب عدم العلم لأنه المطرد ، جاز أن يطلق ويراد به الوجود ، إذ لا يشترط عند علماء هذا الفن اللزوم العقلي ، بل العادي والعرفي كاف أيضا .

وقد يقول أحد منا : لا أعلم ذلك ، أي : لو كان موجودا لعلمته إذا قامت قرينة ، وهذا استعمال شائع في عرف العرب والعجم ، عند العامة والخاصة ، كيف ! وكان المخذول يدعي الإلهية ! فالظاهر أنه من الكناية لا من المجاز والمصنف إنما ذكر معلومية انتفاء العلم لانتفاء الوجود ليبين أن انتقاء العلم من روادف انتفاء الوجود انتهى . قال الشوكاني : وهو الذي خطر ببالي أنه الجواب ، لكنه عارض ذلك الخاطر إشكالات لا يتسع لها المقام انتهى .

وقد أشار أبو السعود في تفسيره إلى الجواب عن هذا الإشكال فقال : وهذا من خواص العلوم الفعلية فإنها لازمة لتحقق معلوماتها ، فيلزم من انتفائها انتفاء معلوماتها ، ولا كذلك العلوم الانفعالية انتهى . وقد وافق على هذا القاضي ، ولاح لك عن هذا جوابان{[1347]} :

الأول : أنه ذكر نفي العلم ، وأراد نفي المعلوم بطريقة الكناية على الوجه الذي ذكره السراج .

الثاني : تخصيص العلم بالفعلي لا الانفعالي ، كما ذكره أبو السعود والبيضاوي .

والثالث : أن يراد بالوجود الوجود في ذهن المتكلم بتلك الكلمة ، وفي كل جواب من هذه الأجوبة كلام لا يلتبس على العالم بالفن قال الخفاجي وعلى كل حال فكلام القاضي لا يخلوا عن ضعف ، والذي غره فيه كلام صاحب الانتصاف انتهى .

قال ابن عباس : لما قال فرعون هذا القول قال جبريل : يا رب طغى عبدك فأذن لي في هلكه ، فقال : يا جبريل هو عبدي ولن يسبقني ، له أجل يجيء ذلك الأجل ، فلما قال : أنا ربكم الأعلى ! قال الله : يا جبريل سبقت دعوتك في عبدي ، وقد جاء أوان هلاكه .

وأخرج ابن مردويه عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كلمتان قالهما فرعون { ما علمت لكم من إله غيري } ، { وقوله أنا ربكم الأعلى } قال : كان بينهما أربعون عاما فأخذه الله نكال الآخرة والأولى " .

ثم رجع إلى تكبره وتجبره وإيهام قومه بكمال اقتداره فقال :

{ فأوقد لي يا هامان على الطين } أي اطبخ لي الطين حتى يصير آجرا أي بعد اتخاذه لبنا ، عن قتادة قال : بلغني أن فرعون أول من طبخ الآجر ، وبنى به . وعن ابن جريج نحوه ، والنداء ب ( يا ) في وسط الكلام دليل التعظيم والتجبر .

{ فاجعل لي } من هذا الطين الذي توقد عليه حتى يصير آجر { صرحا } أي قصرا عاليا ، وقيل منارة ، روى أن هامان بنى صراحا لم يبلغه بناء أحد من الخلق ، وأراد الله أن يفتنهم فيه ، فضرب الصرح جبريل بجناحه فقطعه ثلاث قطع وقعت قطعة على عسكر فرعون ، وقطعة في البحر وقطعه في المغرب ولم يبق أحد من عماله إلا هلك .

{ لعلي أطلع إلى إله موسى } أي أصعد إليه وأنظر وأقف على حاله كأنه توهم أنه لو كان هناك إله كان جسما في السماء ، يمكن الرقي إليه والإطلاع الصعود والطلوع والإطلاع واحد ، يقال : طلع الجبل واطلع أي صعد .

{ وإني لأظنه } أي موسى { من الكاذبين } في دعواه أن للأرض والخلق إلها سواه ، وأنه أرسله .


[1347]:والأصح(ثلاث إجابات)