نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَأُ مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرِي فَأَوۡقِدۡ لِي يَٰهَٰمَٰنُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجۡعَل لِّي صَرۡحٗا لَّعَلِّيٓ أَطَّلِعُ إِلَىٰٓ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ} (38)

{ وقال فرعون } جواباً لهذا الترغيب والترهيب بعد الإعذار ، ببيان الآيات الكبار ، قانعاً في مدافعة ما رأى أنه اجتذب قومه الأغمار الأغبياء عن الجهل من ظهور تلك الآيات البينات بأن يوقفهم عن الإيمان إلى وقت ما ، وكذا كانت عادته كلما أظهر موسى عليه الصلاة والسلام برهاناً ، لأن قومه في غاية الغباوة والعراقة في الميل إلى الباطل والنفرة من الحق وترجيح المظنة على المئنة : { يا أيها الملأ } أي الأشراف ، معظماً لهم استجلاباً لقلوبهم { ما علمت لكم } وأعرق في النفي فقال : { من إله غيري } نفى علمه بذلك إظهاراً للنصفة ، وأنه ما قصد غشهم ، وذلك منه واضح في أنه قصد تشكيكهم ، إشارة منه إلى أن انتقاء علمه بوجوده ما هو إلا لانتفاء وجوده بعد علمه بأن الحق مع موسى عليه الصلاة والسلام لأنه أنهى ما قدر عليه بعد رؤيتهم لباهر الآيات ، وظاهر الدلالات ؛ ثم زاد في إيقافهم عن المتابعة بأن سبب عن جهله قوله لوزيره معلماً له صنعة الآجر لأنه أول من عمله ، مع أنه هذه العبارة أشبه بهمم الجبابرة من أن يقول : اصنع لي آجراً : { فأوقد لي } أضاف الإيقاد إليه إعلاماً بأنه لا بد منه { يا هامان } وهو وزيره { على الطين } أي المتخذ لبناً ليصير آجراً ؛ ثم سبب عن الإيقاد قوله : { فاجعل لي } أي منه { صرحاً } أي بناء عالياً يتاخم السماء ، قال الطبري : وكل بناء مسطح فهو صرح كالقصر ، وقال الزجاج : كل بناء متسع مرتفع { لعلي أطلع } أي أتكلف الطلوع { إلى إله موسى } أي الذي يدعو إليه ، فإنه ليس في الأرض أحد بهذا الوصف الذي ذكره فأنا أطلبه في السماء موهماً لهم أنه مما يمكن الوصول إليه على تقدير صحة الدعوى بأنه موجود ، وهو قاطع بخلاف ذلك ، ولكنه يقصد المدافعة من وقت إلى وقت ، لعلمه أن العادة جرت بأن أكثر الناس يظنون بالملوك القدرة على كل ما يقولونه ؛ ثم زادهم شكاً بقوله ، مؤكداً لأجل دفع ما استقر في الأنفس من صدق موسى عليه الصلاة والسلام : { وإني لأظنه } أي موسى { من الكاذبين* } أي دأبه ذلك ، وقد كذب هو ولبس لعنة الله ووصف أصدق أهل ذلك الزمان بصفة العريقة في العدوان ، وإن كان هذا الكلام منه على حقيقته فلا شيء أثبت شهادة على إفراط جهله وغباوته منه حيث ظن أنه يصل إلى السماء ؛ ثم على تقدير الوصول يقدر على الارتقاء على ظهرها ، ثم على تقدير ذلك يقدر على منازعة بانيها وسامكها ومعليها .