السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَأُ مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرِي فَأَوۡقِدۡ لِي يَٰهَٰمَٰنُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجۡعَل لِّي صَرۡحٗا لَّعَلِّيٓ أَطَّلِعُ إِلَىٰٓ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ} (38)

{ وقال فرعون } جواباً لهذا الترغيب والترهيب { يا أيها الملأ } أي : الأشراف معظماً لهم استجلاباً لقلوبهم { ما علمت لكم من إله غيري } فتضمن كلامه نفي إلهية غيره وإثبات إلهية نفسه فكأنه قال : ما لكم من إله إلا أنا كما قال الله تعالى : { قل أتنبّئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض } ( يونس : 18 ) أي : بما ليس فيهنّ وذلك أنّ العلم تابع للموجود لا يتعلق به إلا على ما هو عليه فإذا كان الشيء معدوماً لم يتعلق به موجود فمن ثم كان انتفاء العلم بوجوده انتفاء لوجوده ، فعبر عن انتفاء وجوده بانتفاء العلم بوجوده ، ويجوز أن يكون على ظاهره وأنّ إلهاً غير معلوم عنده ولكنه مظنون بدليل قوله { وأني لأظنه من الكاذبين } وإذا ظنه كاذباً في إثباته إلهاً غيره ولم يعلمه كاذباً فقد ظنّ أنّ في الوجود إلهاً غيره ولو لم يكن المخذول ظاناً ظناً كاليقين بل عالماً بصحة قول موسى لقول موسى له : { لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر } ( الإسراء ، 102 ) ثم تسبب عن جهله قوله لوزيره معلماً له صنعة الآجر لأنه أوّل من عمله ، قال عمر رضي الله تعالى عنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر ما علمت أنّ أحداً بنى بالآجر غير فرعون { فأوقد لي } وأضاف الإيقاد إليه إعلاماً بأنه لا بدّ منه { يا هامان } وهو وزيره { على الطين } أي : المتخذ لبناً ليصير آجراً ، ثم تسبب عن الإيقاد قوله { فاجعل لي } أي : منه { صرحاً } أي : قصراً عالياً ، وقيل : منارة ، وقال الزجاج : هو كل بناء متسع مرتفع { لعلي أطلع } أي : أتكلف الطلوع { إلى إله موسى } أي : الذي يدعو إليه فإنه ليس في الأرض أحد بهذا الوصف الذي ذكره فأنا أطلبه في السماء موهماً لهم أنه مما يمكن الوصول إليه وهو قاطع بخلاف ذلك ولكنه يقصد المدافعة من وقت إلى وقت .

قال أهل السير : لما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع العمال والفعلة حتى اجتمع خمسون ألف بناء سوى الأتباع والأجراء ومن يطبخ الآجر والجص وينجر الخشب ويضرب المسامير فرفعوه وشيدوه حتى ارتفع ارتفاعاً لم يبلغه بنيان أحد من الخلق أراد الله تعالى أن يفتنهم فيه فلما فرغوا منه ارتقى فرعون فوقه فأمر بنشابه فضرب بها نحو السماء فردّت إليه وهي ملطخة دماً فقال : قد قتلت إله موسى وكان فرعون يصعد على البراذين فبعث الله تعالى جبريل عليه السلام فضرب الصرح بجناحه فقطعه ثلاث قطع فوقع منها قطعة على عسكر فرعون فقتلت منهم ألف ألف رجل ، ووقعت قطعة في البحر ، وقطعة في المغرب ولم يبق أحد ممن عمل فيه بشيء إلا هلك ثم زادهم شكاً بقوله مؤكداً لأجل رفع ما استقرّ في الأنفس من صدق موسى عليه السلام { وإني لأظنه } أي : موسى عليه السلام { من الكاذبين } أي : دأبه ذلك وفرعون هو الذي قد لبس وكذب ووصف أصدق أهل ذلك الزمان بصفة نفسه العريقة في العدوان .