فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{وَقَالَ فِرۡعَوۡنُ يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمَلَأُ مَا عَلِمۡتُ لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرِي فَأَوۡقِدۡ لِي يَٰهَٰمَٰنُ عَلَى ٱلطِّينِ فَٱجۡعَل لِّي صَرۡحٗا لَّعَلِّيٓ أَطَّلِعُ إِلَىٰٓ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُۥ مِنَ ٱلۡكَٰذِبِينَ} (38)

{ وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري } كأنه أحس بنفاذ دعوة الرسولين الكريمين إلى القلوب ، وأن الإيمان بإله واحد له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ، هذا الإيمان يلمس الفطرة الإنسانية وتسكن إليه الجوانح ، فسارع اللعين يذكر بفتونه وجنونه ، ولكن في اضطراب من القول ، فبينما كان يقول لهم ما حكاه القرآن عنه : ) . . أنا ربكم الأعلى( {[3041]} عاد يقول : ) . . ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد( {[3042]}( . . يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون . أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين . فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين( {[3043]} ، { فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين } فأعد ياهامان لبنات ثم أوقد عليها لتصبح آجرا- والطوب اللبن يصنع من الطين ، فإذا أحرق واحمر لونه صار آجرّا- ثم ابن بهذا الطين المحترق- الآجر- بناء عاليا ظاهرا متضحا- من صرح الشيء إذ ظهر- لأصعد عليه لعلي أرى الإله الذي يذكر موسى أنه إلهه وإله العالمين ، وذلك ما جاء بيانه في آيات أخرى كريمة : )وقال فرعون ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب . أسباب السماوات فأطلع إلى موسى وإني لأظنه كاذبا . . . ){[3044]} ؛ يعني أنه سيحاول الصعود والإطلاع ليس ليقينه في وجود إله العالمين ، ولا لتصديقه دعوة موسى وهارون ، [ والظاهر أنه أراد حقيقة ما يدل عليه كلامه وهو نفي علمه بإله غيره دون وجوده ، فإن عدم العلم بالشيء لا يدل على عدمه ، ولم يجزم بالعدم بأن يقول : ليس لكم إله غيري ، مع أن كلا من هذا وما قاله كذب ، لأن ظاهر قول موسى عليه السلام له : ) . . لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر . . ( {[3045]} يقتضي أنه كان عالما بأن إلههم غيره . . . فكأنه قال : ما علمت في الأزمنة الماضية لكم إلها غيري كما يقول موسى ، والأمر محتمل وسأحقق لكم ذلك . . . والأمر بجعل الصرح وبنائه لا يدل على أنه بني ، وقد اختلف في ذلك ، فقيل : بناه . . . وقيل لم يبن ، وعلى هذا يكون قوله ذلك وأمره للتلبيس على قومه وإيهامه إياهم أنه بصدد تحقيق الأمر . . . وأيا ما كان فالقوم كانوا في غاية الغباوة والجهل وإفراط العماية والبلادة ، وإلا لما نفق عليهم مثل هذا الهذيان . . . ولا يبعد أن يقال : كان فيهم من ذوي العقول من يعلم تمويهه وتلبيسه ، ويعتقد هذيانه فيما يقول ، إلا أنه نظم نفسه في سلك الجهال ، ولم يظهر خلافا لما عليه اللعين بحال من الأحوال ، وذلك إما للرغبة فيما لديه ، أو للرهبة من سطوته واعتدائه عليه ، وكم رأينا عاقلا ، وعالما فاضلا ، يوافق لذلك الظلمة الجبابرة ، ويصدقهم فيما يقولون وإن كان مستحيلا أو كفرا بالآخرة ]{[3046]} .


[3041]:سورة النازعات. من الآية 24.
[3042]:سورة غافر. من الآية 29.
[3043]:سورة الزخرف. من الآية 51 والآيتان 52، 53.
[3044]:سورة غافر. الآية 36، ومن الآية 37.
[3045]:سورة الإسراء. من الآية 102.
[3046]:ما بين العلامتين[ ] مقتبس من روح المعاني.