قوله تعالى : { استكباراً في الأرض } نصب استكباراً على البدل من النفور ، { ومكر السيئ } يعني : العمل القبيح ، أضيف المكر إلى صفته ، قال الكلبي : هو اجتماعهم على الشرك وقتل النبي صلى الله عليه وسلم ، وقرأ حمزة : مكر السيء ساكنة الهمزة تخفيفاً ، وهي قراءة الأعمش ، { ولا يحيق المكر السيئ } أي : لا يحل ولا يحيط المكر السيء ، { إلا بأهله } فقتلوا يوم بدر ، وقال ابن عباس : عاقبة الشرك لا تحل إلا بمن أشرك . والمعنى : وبال مكرهم راجع إليهم ، { فهل ينظرون } ينتظرون ، { إلا سنة الأولين } إلا أن ينزل بهم العذاب كما نزل بمن مضى من الكفار .
ثم بين ذلك بقوله : { اسْتِكْبَارًا فِي الأرْضِ } أي : استكبروا عن اتباع آيات الله ، { وَمَكْرَ السَّيِّئِ } أي : ومكروا بالناس في صدِّهم إياهم عن سبيل الله ، { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ } [ أي : وما يعود وبال ذلك إلا عليهم{[24633]} أنفسهم دون غيرهم .
قال{[24634]} ابن أبي حاتم : ذكر علي بن الحسين ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان ، عن أبي زكريا الكوفي عن رجل حدثه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إياك ومكر السيئ ، فإنه لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ]{[24635]} ، ولهم من الله طالب " ، {[24636]} ، وقد قال محمد بن كعب القُرَظِي : ثلاث من فعلهن لم ينجُ حتى ينزل به من مكر أو بغي أو نكث ، وتصديقها في كتاب الله : { وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ } . { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } [ يونس : 23 ] ، { فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ } [ الفتح : 10 ] .
وقوله : { فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّةَ الأوَّلِينَ } يعني : عقوبة الله لهم على تكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره{[24637]} ، { فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا } أي{[24638]} لا تغير ولا تبدل ، بل هي جارية كذلك في كل مكذب ، { وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا } أي : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ } [ الرعد : 11 ] ، ولا يكشف ذلك عنهم ، ويحوله عنهم أحد .
{ استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله }
و{ استكبارا } بدل اشتمال من { نفوراً } أو مفعول لأجله ، لأن النفور في معنى الفعل فصحّ إعماله في المفعول له . والتقدير : نفروا لأجل الاستكبار في الأرض .
والاستكبار : شدة التكبر ، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استجاب .
والأرض : موطن القوم كما في قوله تعالى : { لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا } [ الأعراف : 88 ] أي بلدنا ، فالتعريف في { الأرض } للعهد . والمعنى : أنهم استكبروا في قومهم أن يتبعوا واحداً منهم .
{ ومكر السيىء } عطف على { استكباراً } بالوجوه الثلاثة ، وإضافة { مكر } إلى { السيىء } من إضافة الموصوف إلى الصفة مثل : عِشَاء الآخرة . وأصله : أن يمكروا المكر السيّىء بقرينة قوله : { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } .
والمكر : إخفاء الأذى وهو سيِّىء لأنه من الغدر وهو مناف للخلق الكريم ، فوصفه بالسيّىء وصف كاشف ، ولَعل التنبيهَ إلى أنه وصف كاشف هو مقتضى إضافة الموصوف إلى الوصف لإِظهار ملازمة الوَصف للموصوف فلم يقل : ومكراً سيئاً ( ولم يرخص في المكر إلا في الحرب لأنها مدخول فيها على مثله ) أي مكراً بالنذير وأتباعه وهو مكر ذميم لأنه مقابلة المتسبب في صلاحهم بإضمار ضره .
وقد تبين كذبهم في قسمهم إذ قالوا : « لئن جاءنا نذير لنكونن أهدى منهم » وأنهم ما أرادوا به إلا التفصّي من اللوم .
وجملة { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } تذييل أو موعظة . و { يحيق } : ينزل به شيء مكروه حاق به ، أي نزل وأَحاط إحاطة سوء ، أي لا يقع أثره إلا على أهله . وفيه حذف مضاف تقديره : ضر المكر السيّىء أو سوء المكر السيىء كما دل عليه فعل { يحيق } ؛ فإن كان التعريف في { المكر } للجنس كان المراد ب « أهله » كل ماكر . وهذا هو الأنسب بموقع الجملة ومحملِها على التذييل ليعم كل مكر وكل ماكر ، فيدخل فيه الماكرون بالمسلمين من المشركين ، فيكون القصر الذي في الجملة قصراً ادعائياً مبنيّاً على عدم الاعتداد بالضر القليل الذي يحيق بالممكور به بالنسبة لما أعده الله للماكر في قدره من ملاقاة جزائه على مَكره فيكون ذلك من النواميس التي قدَّرها القدر لنظام هذا العالم لأن أمثال هذه المعاملات الضارة تؤول إلى ارتفاع ثقة الناس بعضهم ببعض والله بنى نظام هذا العالم على تعاون الناس بعضهم مع بعض لأن الإِنسان مدني بالطبع ، فإذا لم يأمن أفراد الإنسان بعضهم بعضاً تنكَّر بعضهم لبعض وتبادروا الإِضرار والإِهلاك ليفوز كل واحد بكيد الآخر قبل أن يَقع فيه فيفضي ذلك إلى فساد كبير في العالم والله لا يحب الفساد ، ولا ضر عبيده إلا حيث تأذن شرائعه بشيء ، ولهذا قيل في المثل : « وما ظالم إلا سيُبلى بظالم » .
لكل شيء آفة من جنسه *** حتى الحديدُ سطا عليه المِبْرَد
وكم في هذا العالم من نواميس مغفول عنها ، وقد قال الله تعالى : { والله لا يحب الفساد } [ البقرة : 205 ] . وفي كتاب ابن المبارك في الزهد بسنده عن الزهري بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تمكر ولا تُعِن ماكراً فإن الله يقول { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } " ومن كلام العرب « من حفر لأخيه جباً وقع فيه منكباً » ، ومن كلام عامة أهل تونس ( يا حافرْ حُفرة السَّوْء ما تحفر إلا قِيَاسكَ » .
وإذا كان تعريف { المكر } تعريف العهد كان المعنى : ولا يحيق هذا المكر إلا بأهله ، أي الذين جاءهم النذير فازدادوا نفوراً ، فيكون موقع قوله : { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } موقع الوعيد بأن الله يدفع عن رسوله صلى الله عليه وسلم مكرهم ويحيق ضر مكرهم بهم بأن يسلط عليهم رسوله على غفلة منهم كما كان يوم بدر ويوم الفتح ، فيكون على نحو قوله تعالى : { ومكروا ومكر اللَّه واللَّه خير الماكرين } [ آل عمران : 54 ] فالقصر حقيقي .
فكم انهالت من خلال هذه الآية من آداب عمرانية ومعجزات قرآنية ومعجزات نبوية خفية .
واعلم أن قوله تعالى : { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } قد جُعل في علم المعاني مثالاً للكلام الجاري على أسلوب المساواة دون إيجاز ولا إطناب . وأول من رأيْته مثَّل بهذه الآية للمساواة هو الخطيب القزويني في « الإِيضاح » وفي « تلخيص المفتاح » ، وهو مما زاده على ما في « المفتاح » ولم يمثل صاحب « المفتاح » للمساواة بشيء ولم أدر من أين أخذه القزويني فإن الشيخ عبد القاهر لم يذكر الإِيجاز والإِطناب في كتابه .
وإذ قد صرح صاحب « المفتاح » « أن المساواة هي متعارف الأوساط وأنه لا يحمد في باب البلاغة ولا يذم » فقد وجب القطع بأن المساواة لا تقع في الكلام البليغ بَلْه المعجز . ومن العجيب إقرار العلامة التفتزاني كلام صاحب « تلخيص المفتاح » وكيف يكون هذا من المساواة وفيه جملة ذات قصر والقصر من الإِيجاز لأنه قائم مقام جملتين : جملة إثبات للمقصود ، وجملة نفيه عما سواه ، فالمساواة أن يقال : يحيق المكر السيّىء بالماكرين دون غيرهم ، فما عدل عن ذلك إلى صيغة القصر فقد سلك طريقة الإِيجاز .
وفيه أيضاً حذف مضاف إذ التقدير : ولا يحيق ضر المكر السيّىء إلا بأهله على أن في قوله : { بأهله } إيجازاً لأنه عوض عن أن يقال : بالذين تقلدوه . والوجه أن المساواة لم تقع في القرآن وإنما مواقعها في محادثات الناس التي لا يعبأ فيها بمراعاة آداب اللغة .
وقرأ حمزة وحده { ومكر السيىء } بسكون الهمزة في حالة الوصل إجراء للوصل مجرى الوقف .
{ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ آلاَْوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تحويلا } .
تفريع على جملة { فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفوراً } الآية .
ويجوز أن يكون تفريعاً على جملة { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } على الوجه الثاني في تعريف { المكر } وفي المراد ب { بأهله } ، أي كما مكر الذين من قبلهم فحاق بهم مكرُهم كذلك هؤلاء .
و { ينظرون } هنا من النظر بمعنى الانتظار . كقول ذي الرُّمة :
وشُعثٍ ينظُرون إلى بِلال *** كما نَظَر العِطاش حَيَا الغمام
فقوله : « إلى » مفرد مضاف ، وهو النعمة وجمعه آلاء .
ومعنى الانتظار هنا : أنهم يستقبلون ما حلّ بالمكذبين قَبلهم ، فشبه لزوم حلول العذاب بهم بالشيء المعلوم لهم المنتظر منهم على وجه الاستعارة .
والسُّنَّة : العادة : والأوّلون : هم السابقون من الأمم الذين كذبوا رسلهم ، بقرينة سياق الكلام . و { سنة } مفعول { ينظرون } وهو على حذف مضاف . تقديره : مِثلَ أو قِياسَ ، وهذا كقوله تعالى : { فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم } [ يونس : 102 ] .
والفاء في قوله : { فلن تجد لسنت اللَّه تبديلاً } فاء فصيحة لأن ما قبلها لمّا ذكّر الناس بسنة الله في المكذبين أفصح عن اطّراد سنن الله تعالى في خلقه . والتقدير : إذا علموا ذلك فلن تجد لسنة الله تبديلاً .
والخطاب في { تجد } لغير معيّن فيعم كل مخاطب ، وبذلك يتسنّى أن يسير هذا الخبر مسير الأمثال . وفي هذا تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم وتهديد للمشركين .
والتبديل : تغيير شيء وتقدم عند قوله تعالى : { ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } في سورة [ النساء : 2 ] .
والتحويل : نقل الشيء من مكان إلى غيره ، وكأنه مشتق من الحَوْل وهو الجانب .
والمعنى : أنه لا تقع الكرامة في موقع العقاب ، ولا يترك عقاب الجاني . وفي هذا المعنى قول الحكماء : ما بالطبع لا يتخلف ولا يختلف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{استكبارا في الأرض ومكر السيئ} قول الشرك.
{ولا يحيق المكر السيئ} ولا يدور قول الشرك {إلا بأهله}.
ثم خوفهم فقال: {فهل ينظرون} ما ينظرون {إلا سنت الأولين} مثل عقوبة الأمم الخالية ينزل بهم العذاب ببدر كما نزل بأوائلهم.
{فلن تجد لسنت الله} في العذاب {تبديلا ولن تجد لسنت الله تحويلا} لا يقدر أحد أن يحول العذاب عنهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"اسْتِكْبارا في الأرْضِ" يقول: نفروا استكبارا في الأرض، وخِدْعة سيئة، وذلك أنهم صدّوا الضعفاء عن اتباعه مع كفرهم به. والمكر هاهنا: هو الشرك...
وقوله: "وَلا يَحِيقُ المَكْرُ السيئ إلاّ بأهْلِهِ "يقول: ولا ينزل المكر السيئ إلاّ بأهله، يعني بالذين يمكرونه، وإنما عَنَى أنه لا يحل مكروه ذلك المكر الذي مكره هؤلاء المشركون إلاّ بهم...
وقوله: "فَهَلْ يَنْظُرُونَ إلاّ سُنّةَ الأوّلِينَ" يقول تعالى ذكره: فهل ينتظر هؤلاء المشركون من قومك يا محمد إلاّ سنة الله بهم في عاجل الدنيا على كفرهم به أليمَ العقاب. يقول: فهل ينتظر هؤلاء إلاّ أن أُحلّ بهم من نقمتي على شركهم بي وتكذيبهم رسولي مثل الذي أحللت بمن قبلهم من أشكالهم من الأمم...
"فَلَنْ تَجِدَ لِسُنّتِ اللّهِ تَبْدِيلاً" يقول: فلن تجد يا محمد لسنة الله تغييرا.
وقوله: "وَلَنْ تَجِدَ لِسُنّتِ اللّهِ تَحْوِيلاً" يقول: ولن تجد لسنّة الله في خلقه تبديلاً يقول: لن يغير ذلك، ولا يبدّله، لأنه لا مردّ لقضائه.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ومكر السّيء} يحتمل مكرهم ما مكروه برسول الله من أنواع المكر حين همّوا بقتله وإخراجه كقوله: {وإذ يمكُر بك الذين كفروا ليُثبتوك} الآية [الأنفال: 30]، ويحتمل أيضا ما ذُكر أنه لما خرج، ودعا الناس إلى توحيد الله أقعدوا على الطرق والمراصد ناسا يقولون لمن قصد الرسول: إنه ساحر وإنه كذاب وإنه مجنون، يصدّون الناس بذلك عنه، فذلك كيدهم ومكرهم به، وقد كان منهم برسول الله من أنواع المكر سوى ذلك مما لا يُحصى.
{ولا يحيق المكر السّيء إلا بأهله} هو في الدنيا من أنواع العذاب والقتل الذي نزل بهم، ويحتمل أن يكون ذلك في الآخرة.
وسنّة الأولين، هي الاستئصال والإهلاك عند العناد والمكابرة.
{فلن تجد لسنّة الله تبديلا ولن تجد لسنّة الله تحويلا} هذا يحتمل وجوها:
أحدها:... وإن اختلفت جهة الإهلاك والاستئصال.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا" ...فالتبديل: تصيير الشيء مكان غيره، والتحويل: تصيير الشيء في غير المكان الذي كان فيه، والتغيير: تصيير الشيء على خلاف ما كان.
{يحيق} تنبئ عن الإحاطة التي هي فوق اللحوق، وفيه من التحذير ما ليس في قوله ولا يلحق أو ولا يصل.
{بأهله} ففيه ما ليس في قول القائل: ولا يحيق المكر السيء إلا بالماكر، كي لا يأمن المسيء، فإن من أساء ومكره سيء آخر قد يلحقه جزاء على سيئه، وأما إذا لم يكن سيئا فلا يكون أهلا فيأمن المكر السيء، وأما في النفي والإثبات ففائدته الحصر بخلاف ما يقول القائل المكر السيء يحيق بأهله، فلا ينبئ عن عدم الحيق بغير أهله...
{فهل ينظرون إلا سنة الأولين}... [و] أضافها إليهم لأنها سنة سنت بهم، وأضافها إلى نفسه بعدها بقوله: {فلن تجد لسنة الله تبديلا} لأنها سنة من سنن الله، إذا علمت هذا فنقول:
أضافها في الأول إليهم حيث قال: {سنة الأولين} لأن سنة الله الإهلاك بالإشراك والإكرام على الإسلام فلا يعلم أنهم ينتظرون أيهما فإذا قال سنة الأولين تميزت.
وفي الثاني أضافها إلى الله، لأنها لما علمت؛ فالإضافة إلى الله تعظمها وتبين أنها أمر واقع ليس لها من دافع.
وثانيهما: أن المراد من سنة الأولين استمرارهم على الإنكار واستكبارهم عن الإقرار، وسنة الله استئصالهم بإصرارهم فكأنه قال: أنتم تريدون الإتيان بسنة الأولين والله يأتي بسنة لا تبديل لها ولا تحويل عن مستحقها.
[و] التبديل تحويل، فما الحكمة في التكرار؟ نقول بقوله: {فلن تجد لسنة الله تبديلا} حصل العلم بأن العذاب لا تبديل له بغيره، وبقوله: {ولن تجد لسنة الله تحويلا} حصل العلم بأن العذاب مع أنه لا تبديل له بالثواب لا يتحول عن مستحقه إلى غيره فيتم تهديد المسيء.
المسألة الثالثة: المخاطب بقوله: {فلن تجد} يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون عاما كأنه قال فلن تجد أيها السامع لسنة الله تبديلا.
والثاني: أن يكون مع محمد صلى الله عليه وسلم وعلى هذا فكأنه قال: سنة الله أنه لا يهلك ما بقي في القوم من كتب الله إيمانه، فإذا آمن من في علم الله أنه يؤمن يهلك الباقين كما قال نوح: {إنك إن تذرهم} أي تمهل الأمر وجاء وقت سنتك...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كانوا قد جبلوا على الضلال، وكان النفور قد يكون لأمر محمود أو مباح، علله بقوله: {استكباراً} أي طلباً لإيجاد الكبر لأنفسهم.
{في الأرض} أي التي من شأنها السفول والتواضع والخمول.
{ومكر السيئ}...قراءة عبد الله {ومكراً سيئاً} يدل على أنه من إضافة الشيء إلى صفته، وقراءة حمزة بإسكان الهمزة بنية الوقف؛ إشارة إلى تدقيقهم المكر وإتقانه وإخفائه جهدهم.
{ولا} أي والحال أنه لا {يحيق} أي يحيط إحاطة لازمة ضارة {المكر السيئ} أي الذي هو عريق في السوء {إلا بأهله} وإن آذى غير أهله، لكنه لا يحيط بذلك الغير.
ولما كان هذا سنة الله التي لا تبديل لها، قال مسبباً عن ذلك: {فهل ينظرون} أي ينتظرون، ولعله جرد الفعل إشارة إلى سرعة الانتقام من الماكر المتكبر، ويمكن أن يكون من النظر بالعين لأنه شبه العلم بالانتقام من الأولين -مع العلم بأن عادته مستمرة، لأنه لا مانع له منها- لعظيم تحققه وشدة استيقانه وقوة استحضاره بشيء محسوس حاضر، لا ينظر شيء غيره في ماض ولا آت لأن غيره بالنسبة إليه عدم.
ولما جعل استقبالهم لذلك انتظاراً منهم له، وكان الاستفهام إنكاريا، فكان بمعنى النفي قال: {إلا سنت الأولين} أي طريقتهم في سرعة أخذ الله لهم وإنزال العذاب بهم.
ولما كان هذا النظر يحتاج إلى صفاء في اللب وذكاء في النفس، عدل عن ضميرهم إلى خطاب أعلى الخلق، تنبيهاً على أن هذا مقام لا يذوقه حق ذوقه غيره، فسبب عن حصر النظر أو الانتظار في ذلك قوله، مؤكداً لأجل اعتقاد الكفرة الجازم بأنهم لا يتغيرون عن حالهم وأن المؤمنين لا يظهرون عليهم: {فلن تجد} أي أصلاً في وقت من الأوقات.
{لسنت الله} أي طريقة الملك الأعظم التي شرعها وحكم بها، وهي إهلاك العاصين وإنجاء الطائعين.
{تبديلاً} أي من أحد يأتي بسنة أخرى غيرها تكون بدلاً لها لأنه لا مكافئ له.
{ولن تجد لسنت الله} أي الذي لا أمر لأحد معه {تحويلاً} أي من حالة إلى أخفى منها لأنه لا مرد لقضائه، لأنه لا كفوء له.
وفي الآية أن أكثر حديث النفس الكذب، فلا ينبغي لأحد أن يظن بنفسه خيراً، ولا أن يقضي على غائب، إلا أن يعلقه بالمشيئة تبرؤاً من الحول والقوة لعل الله يسلمه في عاقبته.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
ليس إقسامهم المذكور، لقصد حسن، وطلب للحق، وإلا لوفقوا له، ولكنه صادر عن استكبار في الأرض على الخلق، وعلى الحق، وبهرجة في كلامهم هذا، يريدون به المكر والخداع، وأنهم أهل الحق، الحريصون على طلبه، فيغتر به المغترون، ويمشي خلفهم المقتدون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإنه لقبيح بمن كانوا يقسمون هذه الأيمان المشددة أن يكون هذا مسلكهم: استكباراً في الأرض ومكر السيئ، والقرآن يكشفهم هذا الكشف، ويسجل عليهم هذا المسلك، ثم يضيف إلى هذه المواجهة الأدبية المزرية بهم، تهديد كل من يسلك هذا المسلك الزري: ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
... سنّة الله في الكون في ما جعله من نظام السببية التي ترتبط فيها المسبّبات بأسبابها، بعيداً عن خصوصيات الزمان والمكان والشخص، ما يجعلها ممتدةً في كل مواقع الحياة، فلا تتخلف النتائج عن المقدّمات، انطلاقاً من إرادة الله التي لا تتغير ولا تتبدل، فالسنّة تعني الثبات، ولو كان الأمر متحولاً أو متبدلاً لما كان هناك سنّةً في معناها الكوني، وهذا ما يريدنا الله أن نفرّق فيه بين الإرادة المتعلقة بالحالات الطارئة للأشياء، وبين الإرادة المتعلقة بالقوانين الثابتة في الكون، لنواجه المسألة في نهاية الأمور ضمن هذا الاتجاه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الآية التالية توضيح لما في الآية السابقة، تقول: إنّ بُعدهم عن الحقّ لأنّهم سلكوا طريق الاستكبار في الأرض، ولم تكن لديهم أهلية الخضوع لمنطق الحقّ (استكباراً في الأرض) وكذلك لأنّهم كانوا يحتالون ويسيئون (ومكر السيئ). ولكن (ولا يحيق المكر السيئ إلاّ بأهله).
ختام الآية تهديد لتلك المجموعة المستكبرة الماكرة والخائنة، وبجملة عميقة المعنى وبكلمات تهزّ المشاعر، يقول تعالى: (فهل ينظرون إلاّ سنّة الأوّلين). هذه الجملة القصيرة تشير إلى جميع المصائر المشؤومة التي أحاقت بالأقوام السالفة كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم فرعون، حيث أصاب كلا منهم بلاء عظيم، والقرآن الكريم أشار مراراً إلى جوانب من مصائر هؤلاء الأقوام المشؤومة والأليمة. وهنا وبتلك الجملة القصيرة جسّد جميع ذلك أمام بصيرة تلك الفئة في مكّة، ثمّ تضيف الآية لزيادة التأكيد قائلة: (فلن تجد لسنّة الله تبديلا ولن تجد لسنّة الله تحويلا). فكيف يمكن لله سبحانه وتعالى أن يعاقب قوماً على أعمال معيّنة، ثمّ لا يعاقب غيرهم الذين يسلكون نفس سلوكهم؟ أليس هو العدل الحكيم، وكلّ ما يفعله بناءً على حكمة وعدل تامين؟! فإنّ تغيير السنن يمكن تصوّره بالنسبة إلى من يمتلك اطّلاعاً أو معرفة محدودة، إذ يزداد معرفة بمرور الزمان يعرض عن سنّة سابقة، أو يكون الإنسان عالماً، إلاّ أنّه لا يتصرّف طبقاً للحكمة والعدالة، بل طبقاً لميول خاصّة في نفسه، ولكن الله سبحانه وتعالى منزّه عن جميع تلك الاُمور، وسنّته حاكمة على من يأتي كما كانت تحكم من مضى، ولا تقبل التغيير أبداً.
الجدير بالملاحظة أنّه ورد في بعض الآيات القرآنية الحديث عن «عدم تبديل» السنن الإلهيّة، الأحزاب 62، وفي البعض الآخر الحديث عن «عدم تحويل» السنن الإلهية، سورة الإسراء 77، ولكن الآية مورد البحث أكّدت على الحالتين معاً...
بمراجعة أصل اللفظين يتّضح أنّهما إشارة إلى معنيين مختلفين: (تبديل) الشيء، تعويضه بغيره كاملا، بحيث يرفع الأوّل ويوضع الثاني، ولكن (تحويل) الشيء، هو تغيّر بعض صفات الشيء الأوّل من ناحية كيفية أو كمية، مع بقائه؛ وعليه فإنّ السنن الإلهية لا تقبل الاستبدال ولا التعويض الكامل، ولا التغيير النسبي من حيث الشدّة والضعف أو القلّة والزيادة، من جملتها أنّ الله سبحانه وتعالى يوقع عقوبات متشابهة بالنسبة إلى الذنوب والجرائم المتشابهة ومن جميع الجهات، لا أن يوقع العقاب على مجموعة ولا يوقعه على مجموعة اُخرى، ولا أن يوقع عقاباً أقلّ شدّة على مجموعة دون اُخرى، وهكذا قانون يستند إلى أصل ثابت، لا يقبل التبديل ولا التحويل.
آخر ما نريد التوقّف عنده هو أنّ الآية تضيف «سنّة» إلى لفظ الجلالة «الله» وفي موضع آخر من نفس الآية تضيف «سنّة» إلى «الأوّلين» ويظهر في بادئ الأمر وجود تنافي بين الحالتين، ولكن الأمر ليس كذلك، لأنّه في الحالة الاُولى اُضيفت «سنّة» إلى «الفاعل»، وفي الحالة الثانية اُضيفت «سنّة» إلى «المفعول به». ففي الحالة الاُولى تعبير عن مجري السنّة، وفي الثانية عمّن اُجريت عليه السنّة.