قوله تعالى : { ما أشهدتهم } ما أحضرتهم ، وقرأ أبو جعفر ما أشهدتهم بالنون والألف على التعظيم ، أي : أحضرناهم يعني : إبليس وذريته . وقيل : الكفار . وقال الكلبي : يعني الملائكة ، { خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم } ، يقول : ما أشهدتهم خلقاً فأستعين بهم على خلقها وأشاورهم فيها ، { وما كنت متخذ المضلين عضداً { ، أي : الشياطين الذين يضلون الناس عضداً ، أي : أنصاراً وأعواناً .
يقول تعالى : هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني عبيد أمثالكم ، لا يملكون شيئًا ، ولا أشهدتهم خلقي للسموات{[18270]} والأرض ، ولا كانوا إذ ذاك موجودين ، يقول تعالى : أنا المستقل بخلق الأشياء كلها ، ومدبرها ومقدرها وَحْدي ، ليس معي في ذلك شريك ولا وزير ، ولا مشير ولا نظير ، كما قال : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } الآية [ سبا : 23 ، 22 ] ؛ ولهذا قال : { وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا } قال مالك : أعوانًا .
تتنزل هذه الجملة منزلة التعليل للجملتين اللتين قبلها وهما { أفتتخذونه وذريته } إلى قوله : { بدلاً } [ الكهف : 50 ] ، فإنهم لما لم يشهدوا خلق السماوات والأرض لم يكونوا شركاء لله في الخلق بطريق الأولى فلم يكونوا أحقاء بأن يعبدوا . وهذا احتجاج على المشركين بما يعترفون به فإنهم يعترفون بأن الله هو المتفرد بخلق السماوات والأرض وخلق الموجودات .
والإشهاد : جعل الغير شاهداً ، أي حاضراً ، وهو هنا كناية عن إحضار خاص ، وهو إحضار المشاركة في العمل أو الإعانة عليه . ونفي هذا الشهود يستلزم نفي المشاركة في الخلق والإلهية بالفحوى أي ، بالأولى ، فإن خلق السماوات كان قبل وجود إبليس وذريته ، فهو استدلال على انتفاء إلهيتهم بسبق العدم على وجودهم . وكل ما جاز عليه العدم استحال عليه القِدم ، والقدم من لوازم الإلهية . وضمائر الغيبة في قوله : { أشهدتهم } وقوله : { أنفسهم } عائدة إلى المتحدث عنه ، أي إبليس وذريته كما عاد إليهم الضمير في قوله : { وهم لكم عدوّ } .
ومعنى { أنفسهم } ، أنفس بعضهم بقرينة استحالة مشاهدة المخلوق خلق نفسه ، فإطلاق الأنفس هنا نظير إطلاقه في قوله تعالى : { فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم } [ النور : 61 ] وفي قوله : { ولا تخرجون أنفسكم من دياركم } [ البقرة : 84 ] ، أي أنفس بعضكم . فعلى هذا الوجه تتناسق الضمائر ويتقوم المعنى المقصود .
واعلم أن الله تعالى خلق السماوات والأرض قبل أن يخلق لهما سكانهما كما دل عليه قوله : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً ذلك رب العالمين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها } [ فصّلت : 9 12 ] . وكان أهل الجاهلية يعتقدون في الأرض جنّا متصرفين فكانوا إذا نزلوا وادياً مخوفاً قالوا : أعوذ بعزيز هذا الوادي ، ليكونوا في أمن من ضره .
وقرأ أبو جعفر { ما أشهدناهم } بنون العظمة ، وقرأ { وما كنتَ } بفتح التاء على الخطاب ، والخطاب للنبيء صلى الله عليه وسلم وهو خبر مستعمل في النهي .
والمراد ب { المضلّين } الشياطين ، لأنهم أضلوا الناس بإلقاء خواطر الضلالة والفساد في النفوس ، كما قال تعالى : { وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } [ الأنعام : 121 ] .
وجملة { وما كنت متخذ المضلين عضداً } تذييل لجملة { ما أشهدتهم خلق السموات والأرض } .
والعدول عن الإضمار بأن يقال : وما كنت متخذهم إلى { المضلين } لإفادة الذم ، ولأن التذييل ينبغي أن يكون كلاماً مستقلاً .
والعضد بفتح العين وضم الضاد المعجمة في الأفصح ، و بالفتح وسكون الضاد في لغة تميم . وفيه لغات أخرى أضعف . ونسب ابن عطية أن أبا عمرو قرأه بضم العين وضم الضاد على أنها لغة في عَضد وهي رواية هارون عن أبي عمرو وليست مشهورة . وهو : العظم الذي بين المرفق والكتف ، وهو يطلق مجازاً على المعين على العمل ، يقال : فلان عَضدي واعتضدت به .
والمعنى : لا يليق بالكمال الإلهي أن أتخذ أهل الإضلال أعواناً فأشركهم في تصرفي في الإنشاء ، فإن الله مفيض الهداية وواهب الدراية فكيف يكون أعوانه مصَادر الضلالة ، أي لا يعين المُعين إلا على عمل أمثاله ، ولا يكون إلا قريناً لأشكاله .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.