معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ثُمَّ لۡيَقۡضُواْ تَفَثَهُمۡ وَلۡيُوفُواْ نُذُورَهُمۡ وَلۡيَطَّوَّفُواْ بِٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ} (29)

قوله تعالى :{ ثم ليقضوا تفثهم } التفث : الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظفار . والشعث : تقول العرب لمن تستقذره : ما أتفثك : أي : ما أوسخك . والحاج أشعث أغبر ، أي : لم يحلق شعره ولم يقلم ظفره ، فقضاء التفث : إزالة هذه الأشياء ليقضوا تفثهم ، أي : ليزيلوا أدرانهم ، والمراد منه : الخروج عن الإحرام بالحلق ، وقص الشارب ، ونتف الإبط ، والاستحداد ، وقلم الأظفار ، ولبس الثياب . قال ابن عمر وابن عباس : قضاء التفث : مناسك الحج كلها . وقال مجاهد : هو مناسك الحج ، وأخذ الشارب ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، وقلم الأظفار . وقيل : التفث هاهنا رمي الجمار . قال الزجاج : لا نعرف التفث ومعناه : إلا من القرآن . قوله تعالى : { وليوفوا نذورهم } قال مجاهد : أراد نذر الحج والهدي وما ينذر الإنسان من شيء يكون في الحج أي : ليتموها بقضائها . وقيل : المراد منه الوفاء بما نذر على ظاهره . وقيل : أراد به الخروج . عما وجب عليه نذر أو لم ينذر . والعرب تقول لكل من خرج عن الواجب عليه وفى بنذره . وقرأ عاصم برواية أبي بكر ( وليوفوا ) بنصب الواو وتشديد الفاء . { وليطوفوا بالبيت العتيق } أراد به الطواف الواجب عليه وهو طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق . والطواف ثلاثة : طواف القدوم ، وهو أن من قدم مكة يطوف بالبيت سبعاً يرمل ثلاثاً من الحجر الأسود إلى أن ينتهي إليه ويمشي أربعاً ، وهذا الطواف سنة لا شيء على من تركه . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا أحمد هو أبو عيسى ، أنبأنا ابن وهب ، أنبأنا عمرو بن الحارث ، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل القرشي . سأل عروة بن الزبير فقال : " قد حج النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرتني عائشة أنه أول شيء بدأ به حين قدم أنه توضأ ثم طاف بالبيت ثم لم يكن عمرة ، ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم يكن عمرة ، ثم عمر مثل ذلك ، ثم حج عثمان فرأيته أول شيء بدأ الطواف بالبيت " .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا أنس بن عياض ، عن موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه كان إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم يسعى ثلاثة أطواف ويمشي أربعاً ، ثم يصلي سجدتين ، ثم يطوف بين الصفا والمروة سبعاً " . والطواف الثاني : هو طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق ، وهو واجب لا يحصل التحلل من الإحرام ما لم يأت به .

أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عمر بن حفص ، حدثنا أبي ، أنبأنا الأعمش ، أنبأنا إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت : " حاضت صفية ليلة النفر فقالت : ما أراني إلا حابستكم قال النبي صلى الله عليه وسلم : عقري حلقى أطافت يوم النحر . قيل : نعم ، قال : فانفري " فثبت بهذا أن من لم يطف يوم النحر طواف الإفاضة لا يجوز له أن ينفر . والطواف الثالث : هو طواف الوداع لا رخصة فيه لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر أن يفارقها حتى يطوف بالبيت سبعاً ، فمن تركه فعليه دم إلا المرأة الحائض يجوز لها ترك طواف الوداع .

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز أحمد الخلال ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا سفيان ، عن سليمان الأحول ، عن طاووس عن ابن عباس ، قال : " أمر الناس أن يكون آخر عهدهم الطواف بالبيت إلا أنه رخص للمرأة الحائض " والرمل : مختص بطواف القدوم ، ولا رمل في طواف الإفاضة والوداع . قوله : ( بالبيت العتيق ) اختلفوا في معنى العتيق ، فقال ابن عباس ، وابن الزبير و مجاهد و قتادة : سمى عتيقاً لأن الله أعتقه من أيدي الجبابرة أن يصلوا إلى تخريبه ، فلم يظهر عليه جبار قط . وقال سفيان بن عيينة : سمي عتيقاً لأنه لم يملك قط ، وقال الحسن وابن زيد : سمي به لأنه قديم وهو أول بيت وضع للناس ، يقال : دينار عتيق أي قديم ، وقيل : سمي عتيقاً لأن الله أعتقه من الغرق ، فإنه رفع أيام الطوفان .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ثُمَّ لۡيَقۡضُواْ تَفَثَهُمۡ وَلۡيُوفُواْ نُذُورَهُمۡ وَلۡيَطَّوَّفُواْ بِٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ} (29)

وقوله : { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } : قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو وضع [ الإحرام ]{[20161]} من حلق الرأس ولبس الثياب وقص الأظفار ، ونحو ذلك . وهكذا روى عطاء ومجاهد ، عنه . وكذا قال عكرمة ، ومحمد بن كعب القُرَظي .

وقال عكرمة ، عن ابن عباس : { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } قال : التفث : المناسك .

وقوله : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } ، قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني : نحر ما نذر من أمر البُدن .

وقال ابن أبي نَجِيح ، عن مجاهد : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } :{[20162]} نذر الحج والهدي وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج .

وقال إبراهيم بن مَيْسَرَة ، عن مجاهد : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } قال : الذبائح .

وقال ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } كل نذر إلى أجل .

وقال عكرمة : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } ، قال : [ حجهم .

وكذا روى الإمام ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان في قوله : { وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } قال : ] {[20163]} نذر الحج ، فكل من دخل الحج فعليه من العمل فيه : الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ، وعرفة ، والمزدلفة ، ورمي الجمار ، على ما أمروا به . وروي عن مالك نحو هذا .

وقوله : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } : قال مجاهد : يعني : الطواف الواجب يوم النحر .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا حماد ، عن أبي حمزة قال : قال لي ابن عباس : أتقرأ سورة الحج ؟ يقول{[20164]} الله : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ، فإن آخر المناسك الطواف بالبيت .

قلت : وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر بدأ يرمي الجمرة ، فرماها بسبع حصيات ، ثم نحر هديه ، وحلق رأسه ، ثم أفاض فطاف بالبيت . وفي الصحيح عن ابن عباس أنه قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف ، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض{[20165]} .

وقوله : { بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } : فيه مستدل لمن ذهب إلى أنه يجب الطواف من وراء الحجر ؛ لأنه من أصل{[20166]} البيت الذي بناه إبراهيم ، وإن كانت قريش قد أخرجوه من البيت ، حين قصرت بهم النفقة ؛ ولهذا طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الحِجْر ، وأخبر أن الحجر من البيت ، ولم يستلم الركنين الشاميين ؛ لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم العتيقة ؛ ولهذا قال ابن أبي حاتم :

حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر العَدَني ، حدثنا سفيان ، عن هشام بن حُجْر ، عن رجل ، عن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ، طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ورائه{[20167]} .

وقال قتادة ، عن الحسن البصري في قوله : { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } [ قال ]{[20168]} : لأنه أول بيت وضع للناس . وكذا قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم .

وعن عكرمة أنه قال : إنما سمي البيت العتيق ؛ لأنه أعتق يوم الغرق زمان نوح .

وقال خَصِيف : إنما سمي البيت العتيق ؛ لأنه لم يظهر عليه جبار قط .

وقال ابن أبي نَجِيح وليث عن مجاهد : أعتق من الجبابرة أن يسلطوا عليه . وكذا قال قتادة .

وقال حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن بن مسلم ، عن مجاهد : لأنه لم يُرِده أحد بسوء إلا هلك .

وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن الزهري ، عن ابن الزبير قال : إنما سمي البيت العتيق ؛ لأن الله أعتقه من الجبابرة{[20169]} .

وقال الترمذي : حدثنا محمد بن إسماعيل وغير واحد ، حدثنا عبد الله بن صالح ، أخبرني الليث ، عن عد الرحمن بن خالد ، عن ابن شهاب ، عن محمد بن عروة ، عن عبد الله بن الزبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما سمي البيت العتيق ؛ لأنه لم يظهر عليه جبار " .

وكذا رواه ابن جرير ، عن محمد بن سهل النجاري{[20170]} ، عن عبد الله بن صالح ، به{[20171]} . وقال : إن كان صحيحًا وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، ثم رواه من وجه آخر عن الزهري ، مرسلا{[20172]} .


[20161]:- زيادة من ف ، أ.
[20162]:- زيادة من ت ، ف ، أ.
[20163]:- زيادة من ت ، ف ، أ".
[20164]:- في ت : "فيقول".
[20165]:- صحيح البخاري برقم (329) وصحيح مسلم برقم (1328) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
[20166]:- في أ : "داخل".
[20167]:- ورواه ابن مردويه في تفسيره كما في الدر المنثور (6/41).
[20168]:- زيادة من ف ، أ.
[20169]:- تفسير عبد الرزاق (2/32).
[20170]:- في ف : "المحاربي".
[20171]:- سنن الترمذي برقم (3170) وفيه "هذا حديث حسن صحيح" وأظنه خطأ.
[20172]:- صحيح البخاري برقم (2654) وصحيح مسلم برقم (87).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{ثُمَّ لۡيَقۡضُواْ تَفَثَهُمۡ وَلۡيُوفُواْ نُذُورَهُمۡ وَلۡيَطَّوَّفُواْ بِٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ} (29)

اختلفت القراءة في سكون اللام في قوله تعالى : { ليقضوا وليوفوا وليطوفوا } وفي تحريك جميع ذلك بالكسر وفي تحريك «ليقضوا » وتسكين الاثنين وقد تقدم في قوله : { فليمدد }{[8363]} [ الحج : 15 ، مريم : 75 ] بسبب توجيه جميع ذلك ، و «التفث » ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه وإزالة شعث ونحوه من إقامة الخمس من الفطرة حسب الحديث{[8364]} وفي ضمن ذلك قضاء جميع مناسكه إذ لا يقضى التفث إلا بعد ذلك ، وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر «وليوَفّوا » بفتح الواو وشد الفاء ، ووفى وأوفى لغتان مستعملتان في كتاب الله تعالى ، وأوفى أكثر{[8365]} . و «النذور » ما معهم من هدي وغيره ، والطواف المذكور في هذه الآية هو طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج ، قال الطبري لا خلاف بين المتأولين في ذلك ، قال مالك : هو واجب يرجع تاركه من وطنه إلا أن يطوف طواف وداع فإنه يجزئه منه .

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل بحسب الترتيب أن تكون الإشارة إلى طواف الوادع إذ المستحسن أن يكون ولا بد ، وقد أسند الطبري عن عمرو بن أبي سلمة قال : سألت زهيراً{[8366]} عن قوله تعالى : { وليطوفوا } بالبيت العتيق } فقال : هو طواف الوداع ، وقال مالك في الموطأ واختلف المتألون في وجه صفة البيت ب { العتيق } ، فقال مجاهد والحسن { العتيق } القديم يقال سيف عتيق وقد عتق الشيء ، قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا قول يعضده النظر إذ هو أول بيت وضع للناس إلا أن ابن الزبير قال : سمي عتيقاً لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة بمنعه إياه منهم وروي في هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا نظر مع الحديث{[8367]} ، وقال فرقة : سمي عتيقاً لأنه لم يملك موضعه قط ، وقالت فرقة : سمي عتيقاً لأن الله تعالى يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب ، قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا يرد التصريف{[8368]} : وقيل : سمي عتيقاً لأنه أعتق من غرق الطوفان ، قاله ابن جبير ، ويحتمل أن يكون { العتيق } صفة مدح تقتضي جودة الشيء كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «حملت على فرس عتيق » الحديث{[8369]} ونحوه قولهم كلام حر وطين حر .


[8363]:من الآية (15) من هذه السورة (الحج) راجع ص (241) من هذا الجزء.
[8364]:حديث خمس من الفطرة أخرجه البخاري في اللباس، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه في الطهارة، وأبو داود في الترجل، والترمذي في الأدب، ومالك في موطئه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، = وأحمد في مسنده 2 ـ 229، 239، 283، 410، ولفظه فيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس من الفطرة: قص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، والاستحداد، والختان).
[8365]:مما جاء بَوَّفى قوله تعالى: {وإبراهيم الذي وفى} ـ 37 النجم، {ووجد الله عنده فوفاه حسابه} ـ 39 النور، {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم} ـ 173 النساء، وما جاء بأوفى قوله تعالى: {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين} ـ 76 آل عمران، وقوله تعالى: {ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما} ـ 10 الفتح.
[8366]:في بعض النسخ: "سألت زيدا"، واخترنا ما يوافق الطبري.
[8367]:أخرجه البخاري في تاريخه، والترمذي وحسنه، وابن جرير، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، ولفظه كما في الدر المنثور: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما سمي البيت العتيق لأن الله أعتقه من الجبابرة، فلم يظهر عليه جبار قط). قالوا: قصده تبع ليهدمه فأصابه الفالج فأشار الأخيار عليه أن يكف عنه، وقالوا: له رب يمنعه، فتركه وكساه، وهو أول من كساه، وقصده أبرهة فأصابه ما أصابه من الطير الأبابيل، أما الحجاج فلم يقصد التسلط على البيت، لكن تحصن به عبد الله بن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه.
[8368]:قال أبو حيان في البحر: "ولا يرده التصريف لأنه فسره تفسير معنى، وأما من حيث الإعراب فلأن (العتيق) فعيل بمعنى مفعل، أي معتق رقاب المذنبين، ونسب الإعتاق إليه مجازا إذ بزيارته والطواف به يحصل الإعتاق".
[8369]:أخرجه مسلم في الهبات، ومالك في الزكاة، ولفظه كما في مسلم: حملت على فرس عتيق في سبيل الله ـ أي تصدقت به ـ فأضاعه صاحبه، فظننت أنه بائعه برخص، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك، فإن العائد في صدقته كالمطلب يعود في قيئه). ومعنى (أضاعه): همله.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{ثُمَّ لۡيَقۡضُواْ تَفَثَهُمۡ وَلۡيُوفُواْ نُذُورَهُمۡ وَلۡيَطَّوَّفُواْ بِٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ} (29)

هذا من جملة ما خاطب الله به إبراهيم عليه السلام .

وقرأ ورش عن نافع ، وقنبلٌ عن ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عَمرو بكسر لام { لِيَقْضوا } . وقرأه الباقون بسكون اللام . وهما لغتان في لام الأمر إذا وقعت بعد ( ثم ) ، كما تقدم آنفاً في قوله تعالى : { ثم ليقطع } [ الحج : 15 ] .

و ( ثم ) هنا عطفت جملة على جملة فهي للتراخي الرتبي لا الزمني فتفيد أنّ المعطوف بها أهم في الغرض المسوق إليه الكلام من المعطوف عليه . وذلك في الوفاء بالنذر والطواف بالبيت العتيق ظاهرٌ إذ هما نسكان أهم من نحرِ الهدايا ، وقضاء التّفث محول على أمر مهم كما سنبينه .

والتفث : كلمة وقعت في القرآن وتردّد المفسرون في المراد منها . واضطرب علماء اللغة في معناها لعلّهم لم يعثروا عليها في كلام العرب المحتج به . قال الزجاج : إن أهل اللغة لا يعلمون التفث إلاّ من التفسير ، أي من أقوال المفسرين . فعَن ابن عُمر وابن عبّاس : التفث : مناسك الحجّ وأفعالُه كلها . قال ابن العربي : لم صح عنهما لكان حجة الإحاطة باللغة . قلت : رواه الطبري عنهما بأسانيد مقبولة . ونسبة الجصّاص إلى سعيد . وقال نفطويه وقطرب : التفث : هو الوسخ والدرَن . ورواه ابن وهب عن مالك بن أنس ، واختاره أبو بكر بن العربي وأنشد قطرب لأمية بن أبي الصلت :

حفّوا رؤوسهم لم يَحلقوا تفثاً *** ولم يسلّموا لهم قَمْلاً وصِئْبانا

ويحتمل أن البيت مصنوع لأن أيمة اللّغة قالوا : لم يَجىء في معنى التفث شعر يحتج به . قال نفطويه : سألت أعرابياً : ما معنى قوله { ثم ليقضوا تفثهم } ، فقال : ما أفسّرُ القرآن ولكن نقول للرجل ما أتفثك ، أي ما أدرَنَك .

وعن أبي عبيدة : التّفَث : قصّ الأظفار والأخذُ من الشارب وكل ما يحرم على المُحرم ، ومثله قوله عكرمة ومجاهد وربما زاد مجاهد مع ذلك : رمي الجمار .

وعن صاحب « العين » والفراء والزجاج : التفث الرمي ، والذبح ، والحلق ، وقصّ الأظفار والشارب وشعر الإبط . وهو قول الحسن ونسب إلى مالك بن أنس أيضاً .

وعندي : أن فعل { ليقضوا } ينادي على أن التفث عمل من أعمال الحج وليس وسَخاً ولا ظفراً ولا شعراً . ويؤيده ما روي عن ابن عمر وابن عباس آنفاً . وأن موقع ( ثمّ ) في عطف جملة الأمر على ما قبلها ينادي على معنى التراخي الرتبي فيقتضي أنّ المعطوف ب ( ثمّ ) أهم مما ذكر قبلها فإن أعمال الحج هي المهم في الإتيان إلى مكة ، فلا جرم أن التفث هو من مناسك الحجّ وهذا الذي درج عليه الحريري في قوله في المقامة المكية : « فلمّا قضيت بعون الله التفث ، واستبحت الطيبَ والرفث ، صادف موسم الخَيف ، معمعان الصيف » .

وقوله : { وليوفوا نذورهم } أي إن كانوا نذوراً أعمالاً زائدة على ما تقتضيه فريضة الحجّ مثل نذر طواف زائد أو اعتكاف في المسجد الحرام أو نسكاً أو إطعام فقير أو نحو ذلك .

والنذر : التزام قُربة لله تعالى لم تكن واجبة على ملتزِمها بتعليقٍ على حصول مرغوب أو بدون تعليق ، وبالنذر تصير القربة الملتزَمة واجبة على الناذر . وأشهر صِيَغِه : لله عليّ . . . وفي هذه الآية دليل على أن النذر كان مشروعاً في شريعة إبراهيم ، وقد نذر عُمر في الجاهلية اعتكاف ليلة بالمسجد الحرام ووفى به بعد إسلامه كما في الحديث .

وقرأ الجمهور { ولِيُوفوا } بضم التحتية وسكون الواو بعدها مضارع أوفى ، وقرأ أبو بكر عن عاصم { وليوَفُّوا } بتشديد الفاء وهو بمعنى قراءة التخفيف لأن كلتا الصيغتين من فعل وفي المزيد فيه بالهمزة وبالتضعيف .

وختم خطاب إبراهيم بالأمر بالطواف بالبيت إيذاناً بأنّهم كانوا يجعلون آخر أعمال الحج الطواف بالبيت وهو المسمّى في الإسلام طواف الإفاضة .

والعتيق : المحرر غير المملوك للناس . شبه بالعبد العتيق في أنه لا ملك لأحد عليه . وفيه تعريض بالمشركين إذ كانوا يمنعون منه من يشاءون حتى جعلوا بابه مرتفعاً بدون درج لئلا يدخله إلاّ من شاءوا كما جاء في حديث عائشة أيام الفتح . وأخرج الترمذي بسند حسن أن رسول الله قال : « إنما سمّى الله البيت العتيق لأنه أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبّار قطّ » . واعلم أنّ هذه الآيات حكاية عما كان في عهد إبراهيم عليه السلام فلا تؤخذ منها أحكام الحجّ والهدايا في الإسلام .

وقرأ الجمهور { ثمّ لْيَقْضوا } و{ لْيُوفُوا } و{ لْيَطَوّفُوا } بإسكان لام الأمر في جميعها . وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر : { وليوفوا - ولِيطوّفوا } بكسر اللام فيهما . وقرأ ابن هشام عن ابن عامر ، وأبو عمرو ، وورش عن نافع ، وقنبلٌ عن ابن كثير ، ورويس عن يعقوب : { ثمّ لِيقضوا } بكسر اللاّم . وتقدّم توجيه الوجهين آنفاً عند قوله تعالى : { ثم ليقطع } [ الحج : 15 ] .

وقرأ أبو بكر عن عاصم { ولْيُوفّوا } بفتح الواو وتشديد الفاء من وفّى المضاعف .