المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{ثُمَّ لۡيَقۡضُواْ تَفَثَهُمۡ وَلۡيُوفُواْ نُذُورَهُمۡ وَلۡيَطَّوَّفُواْ بِٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ} (29)

اختلفت القراءة في سكون اللام في قوله تعالى : { ليقضوا وليوفوا وليطوفوا } وفي تحريك جميع ذلك بالكسر وفي تحريك «ليقضوا » وتسكين الاثنين وقد تقدم في قوله : { فليمدد }{[8363]} [ الحج : 15 ، مريم : 75 ] بسبب توجيه جميع ذلك ، و «التفث » ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه وإزالة شعث ونحوه من إقامة الخمس من الفطرة حسب الحديث{[8364]} وفي ضمن ذلك قضاء جميع مناسكه إذ لا يقضى التفث إلا بعد ذلك ، وقرأ عاصم وحده في رواية أبي بكر «وليوَفّوا » بفتح الواو وشد الفاء ، ووفى وأوفى لغتان مستعملتان في كتاب الله تعالى ، وأوفى أكثر{[8365]} . و «النذور » ما معهم من هدي وغيره ، والطواف المذكور في هذه الآية هو طواف الإفاضة الذي هو من واجبات الحج ، قال الطبري لا خلاف بين المتأولين في ذلك ، قال مالك : هو واجب يرجع تاركه من وطنه إلا أن يطوف طواف وداع فإنه يجزئه منه .

قال القاضي أبو محمد : ويحتمل بحسب الترتيب أن تكون الإشارة إلى طواف الوادع إذ المستحسن أن يكون ولا بد ، وقد أسند الطبري عن عمرو بن أبي سلمة قال : سألت زهيراً{[8366]} عن قوله تعالى : { وليطوفوا } بالبيت العتيق } فقال : هو طواف الوداع ، وقال مالك في الموطأ واختلف المتألون في وجه صفة البيت ب { العتيق } ، فقال مجاهد والحسن { العتيق } القديم يقال سيف عتيق وقد عتق الشيء ، قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا قول يعضده النظر إذ هو أول بيت وضع للناس إلا أن ابن الزبير قال : سمي عتيقاً لأن الله تعالى أعتقه من الجبابرة بمنعه إياه منهم وروي في هذا حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا نظر مع الحديث{[8367]} ، وقال فرقة : سمي عتيقاً لأنه لم يملك موضعه قط ، وقالت فرقة : سمي عتيقاً لأن الله تعالى يعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب ، قال الفقيه الإمام القاضي : وهذا يرد التصريف{[8368]} : وقيل : سمي عتيقاً لأنه أعتق من غرق الطوفان ، قاله ابن جبير ، ويحتمل أن يكون { العتيق } صفة مدح تقتضي جودة الشيء كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «حملت على فرس عتيق » الحديث{[8369]} ونحوه قولهم كلام حر وطين حر .


[8363]:من الآية (15) من هذه السورة (الحج) راجع ص (241) من هذا الجزء.
[8364]:حديث خمس من الفطرة أخرجه البخاري في اللباس، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه في الطهارة، وأبو داود في الترجل، والترمذي في الأدب، ومالك في موطئه في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، = وأحمد في مسنده 2 ـ 229، 239، 283، 410، ولفظه فيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خمس من الفطرة: قص الشارب، وتقليم الأظافر، ونتف الإبط، والاستحداد، والختان).
[8365]:مما جاء بَوَّفى قوله تعالى: {وإبراهيم الذي وفى} ـ 37 النجم، {ووجد الله عنده فوفاه حسابه} ـ 39 النور، {فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم} ـ 173 النساء، وما جاء بأوفى قوله تعالى: {بلى من أوفى بعهده واتقى فإن الله يحب المتقين} ـ 76 آل عمران، وقوله تعالى: {ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما} ـ 10 الفتح.
[8366]:في بعض النسخ: "سألت زيدا"، واخترنا ما يوافق الطبري.
[8367]:أخرجه البخاري في تاريخه، والترمذي وحسنه، وابن جرير، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، ولفظه كما في الدر المنثور: قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما سمي البيت العتيق لأن الله أعتقه من الجبابرة، فلم يظهر عليه جبار قط). قالوا: قصده تبع ليهدمه فأصابه الفالج فأشار الأخيار عليه أن يكف عنه، وقالوا: له رب يمنعه، فتركه وكساه، وهو أول من كساه، وقصده أبرهة فأصابه ما أصابه من الطير الأبابيل، أما الحجاج فلم يقصد التسلط على البيت، لكن تحصن به عبد الله بن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه.
[8368]:قال أبو حيان في البحر: "ولا يرده التصريف لأنه فسره تفسير معنى، وأما من حيث الإعراب فلأن (العتيق) فعيل بمعنى مفعل، أي معتق رقاب المذنبين، ونسب الإعتاق إليه مجازا إذ بزيارته والطواف به يحصل الإعتاق".
[8369]:أخرجه مسلم في الهبات، ومالك في الزكاة، ولفظه كما في مسلم: حملت على فرس عتيق في سبيل الله ـ أي تصدقت به ـ فأضاعه صاحبه، فظننت أنه بائعه برخص، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: لا تبتعه، ولا تعد في صدقتك، فإن العائد في صدقته كالمطلب يعود في قيئه). ومعنى (أضاعه): همله.