اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{ثُمَّ لۡيَقۡضُواْ تَفَثَهُمۡ وَلۡيُوفُواْ نُذُورَهُمۡ وَلۡيَطَّوَّفُواْ بِٱلۡبَيۡتِ ٱلۡعَتِيقِ} (29)

قوله : { ثُمَّ ليَقْضُواْ تَفَثَهُمْ } . العامة على كسر اللام ، وهي لام الأمر . وقرأ نافع والكوفيون والبزي بسكونها{[30989]} ، إجراء للمنفصل مجرى المتصل نحو كتف ، وهو نظير تسكين هاء ( هو ) بعد ( ثُمَّ ) في قراءة الكسائي وقالون حيث أجريت ( ثُمَّ ) مجرى الواو والفاء{[30990]} والتَّفَث : قيل أصله من التف{[30991]} . وهو وسخ{[30992]} الأظفار قلبت الفاء ثاء{[30993]} كمعثور في معفور{[30994]} . وقيل : هو الوسخ{[30995]} والقذر يقال : ما تفثك . وحكى قطرب : تفث الرجل ، أي : كثر وسخه في سفره{[30996]} . قال الزجاج{[30997]} : إن أهل اللغة لا يعرفون التّفَث إلا من التفسير{[30998]} . وقال المبرد : أصل{[30999]} التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها . وقال القفال : قال نفطويه{[31000]} : سألت أعرابياً فصيحاً ما معنى قوله : { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ } ، فقال : ما أفسر القرآن ، ولكنا نقول للرجل : ما أتفثك ، أي : أوسخك وما أدرنك{[31001]} . ثم قال القفال{[31002]} : وهذا أولى من قول الزجاج لأن القول قول المثبت لا قول النافي{[31003]} . والمراد بالتفث هنا{[31004]} : الوسخ والقذارة من طول الشعر والأظفار والشعث والحاج أشعث أغبر ، والمراد قص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة . والمراد بالقضاء إزالة ذلك ، والمراد به الخروج من الإحرام بالحلق وقص الشارب والتنظيف ولبس الثياب{[31005]} . وقال ابن عمر{[31006]} وابن عباس{[31007]} : قضاء التفث مناسك الحج كلها . وقال مجاهد : هو مناسك الحج وأخذ الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقلم الأظفار . وقيل : التفث هنا رمي الجمار{[31008]} . وقيل : معنى «لِيَقْضُوا تَفَثَهُم » ليصنعوا{[31009]} ما يصنعه المحرم من إزالة شعر وشعث ونحوهما عند حله ، وفي ضمن هذا قضاء جميع المناسك إذ لا يفعل هذا إلا بعد فعل المناسك كلها {[31010]} .

قوله : «وَليُوفُوا » . قرأ أبو بكر «وَليُوفُّوا » بالتشديد ، والباقون بالتخفيف {[31011]} . وتقدّم في البقرة أن فيه ثلاث لغات وَفّى ، وَوفَى ، وأَوْفَى{[31012]} . وقرأ ابن ذكوان : «ولِيوفوا » بكسر اللام ، والباقون بسكونها . وهذا الخلاف جار في قوله «وَلِيَطَّوَّفُوا »{[31013]} . والمراد بالوفاء ما أوجبه بالنذر ، وقيل : ما أوجبه الدخول في الحج من المناسك{[31014]} . قال مجاهد : أراد نذر الحج والهدي ، وما ينذره الإنسان من شيء يكون في الحج{[31015]} . وقيل : المراد الوفاء بالنذر مطلقاً{[31016]} وقوله : «وَلِيَطَّوَّفُوا » المراد الطواف الواجب ، وهو طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق{[31017]} وسمي البيت العتيق قال الحسن : القديم لأنه أول بيت وضع للناس{[31018]} . وقال ابن عباس وابن الزبير : لأنه أُعْتِقَ من الجبابرة{[31019]} ، فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه الله ، ولما قصده أبرهة فُعِل به ما فعل . فإن قيل : قد تسلَّط الحجاج عليه ؟

فالجواب : أنه ما قصد التسلط على البيت وإنما تحصّن به عبد الله بن الزبير فاحتال لإخراجه ثم بناه{[31020]} وقال ابن عيينة : لم يُمْلك قط{[31021]} . وقال مجاهد : أعتق من الغرق{[31022]} .

وقيل : لأنه بيت كريمٌ من قولهم : عِتاق الخيل والطير{[31023]} .

فصل{[31024]}

والطواف ثلاثة{[31025]} أطواف :

الأول : طواف القدوم وهو أن من قدم مكة يطوف بالبيت سبعاً ، يرمل ثلاثاً من الحجر الأسود إلى أن ينتهي إليه ، ويمشي أربعاً وهذا الطواف سنة لا شيء على تاركه .

والثاني : طواف الإفاضة يوم النحر بعد الرمي والحلق ، ويسمى أيضاً طواف الزيارة وطواف الصدر ، وهو واجب لا يحصل التحلل من الإحرام ما لم يأت به .

والثالث : طواف الوداع لا رخصة لمن أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر في أن يفارقها حتى يطوف بالبيت سبعاً ، فمن تركه فعليه دم إلا الحائض والنفساء ، فلا وداع عليهما لما روى ابن عباس قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه أرخص للمرأة الحائض . والرمل يختص بطواف القدوم ، ولا رمل في طواف الإفاضة والوداع .


[30989]:وفي السبعة: قرأ أبو عمرو وابن عامر "ثم ليقضوا" يكسر لام الأمر واختلف عن نافع ففي رواية بكسر اللام، وفي رواية أخرى ساكنة اللام، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي "ثم ليقضوا" ساكنة اللام (434 – 435) الكشف 2/116 – 117، النشر 2/326، الإتحاف (314).
[30990]:سبق أن تحدثت عن حركة لام الأمر بعد واو العطف وفائه وثم عند قوله تعالى: {فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ} [الحج: 15].
[30991]:في ب: التفث. وهو تحريف.
[30992]:في النسختين: مسح والصواب ما أثبته.
[30993]:في ب: باء. وهو تحريف.
[30994]:في ب: كمعفور في يعفور. والصواب ما أثبته، وهو قول أبي محمد البصري. البحر المحيط 6/347 وتبدل الثاء من الفاء كقولهم في أثاف: أثاث. انظر سر صناعة الإعراب 1/173.
[30995]:وقيل هو الوسخ: مكرر في ب.
[30996]:البحر المحيط 6/347.
[30997]:من هنا نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 23/31.
[30998]:معاني القرآن وإعرابه 3/424 – 424. والبغوي 5/573.
[30999]:في الأصل: أهل. وهو تحريف.
[31000]:هو إبراهيم بن محمد بن عرفة العتكي الأزدي الواسطي أبو عبد الله الملقب نفطويه، كان عالما بالعربية واللغة والحديث، أخذ عن ثعلب والمبرد، ومن مصنفاته: إعراب القرآن، المقنع في النحو، الأمثال المصادر، أمثال القرآن، وغير ذلك، مات سنة 323 هـ. بغية الوعاة 1/338 – 440.
[31001]:في النسختين: وما أدراك. والصواب ما أثبته.
[31002]:القفال: سقط من ب.
[31003]:آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي 23/30.
[31004]:من هنا نقله ابن عادل عن البغوي 5/576.
[31005]:آخر ما نقله هنا عن البغوي 5/576.
[31006]:من هنا نقله ابن عادل عن البغوي 5/576.
[31007]:في الأصل: وابن العباس. وهو تحريف.
[31008]:آخر ما نقله هنا عن البغوي 5/577.
[31009]:في الأصل: يصنعوا.
[31010]:كلها: سقط من ب.
[31011]:السبعة (436) الكشف 2/116—117، النشر 2/326، الإتحاف 314.
[31012]:عند قوله تعالى: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون} [البقرة: 40].
[31013]:السبعة (434 – 435) الكشف 2/326، الإتحاف 314.
[31014]:انظر الفخر الرازي 23/31.
[31015]:انظر البغوي 5/577.
[31016]:المرجع السابق.
[31017]:انظر البغوي 5/578.
[31018]:المرجع السابق.
[31019]:المرجع السابق والدر المنثور 4/357.
[31020]:انظر الفخر الرازي 23/31.
[31021]:انظر البغوي 5/578.
[31022]:المرجع السابق.
[31023]:انظر الفخر الرازي 23/31.
[31024]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن البغوي 5/578 – 579.
[31025]:في ب: ثلاث.