معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰٓ أَعۡيُنَهُمۡ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلۡحَقِّۖ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ} (83)

قوله تعالى : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول } ، محمد صلى الله عليه وسلم .

قوله تعالى : { ترى أعينهم تفيض } ، تسيل .

قوله تعالى : { من الدمع مما عرفوا من الحق } ، قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عطاء : يريد النجاشي وأصحابه ، قرأ عليهم جعفر بالحبشة { كهيعص } ، فمازالوا يبكون حتى فرغ جعفر من القراءة .

قوله تعالى : { يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين } ، يعني أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، دليله قوله تعالى : { لتكونوا شهداء على الناس } [ البقرة : 143 ] .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰٓ أَعۡيُنَهُمۡ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلۡحَقِّۖ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ} (83)

82

ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف ، فقال : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ } أي : مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم { يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } أي : مع من يشهد بصحة هذا ويؤمن به .

وقد روى النسائي عن عمرو بن علي الفَلاس ، عن عمر{[10213]} بن علي بن مُقَدَّم ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير [ رضي الله عنهما ]{[10214]} قال : نزلت هذه الآية في النجاشي وفي أصحابه : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ }{[10215]}

وقال الطبراني : حدثنا أبو شُبَيْل عُبَيد الله بن عبد الرحمن بن واقد ، حدثنا أبي ، حدثنا العباس بن الفضل ، عن عبد الجبار بن نافع الضبي ، عن قتادة وجعفر بن إياس ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قول الله : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ } قال : إنهم كانوا كرابين - يعني : فلاحين - قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة ، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن آمنوا وفاضت أعينهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ولعلكم إذا رجعتم إلى أرضكم انتقلتم{[10216]} إلى دينكم " . فقالوا : لن ننتقل عن ديننا . فأنزل الله ذلك من قولهم . {[10217]}

وروى ابن أبي حاتم : وابن مَرْدويه ، والحاكم في مستدركه ، من طريق سِماك عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس في قوله : { فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } أي : مع محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمته هم{[10218]} الشاهدون ، يشهدون لنبيهم أنه قد بلغ ، وللرسل أنهم قد بلغوا . ثم قال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه . {[10219]}


[10213]:في ر، أ: "عمرو".
[10214]:زيادة من أ.
[10215]:سنن النسائي الكبرى برقم (11148).
[10216]:في أ: "انقلبتم".
[10217]:المعجم الكبير (12/55) وقال الهيثمي في المجمع (7/18): "فيه العباس بن الفضل الأنصاري وهو ضعيف".
[10218]:في د، ر، أ: "وهم".
[10219]:المستدرك (2/313).
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰٓ أَعۡيُنَهُمۡ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلۡحَقِّۖ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ} (83)

وقوله تعالى : { وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم } الآية ، الضمير في { سمعوا } ظاهره العموم ومعناه الخصوص فيمن آمن من هؤلاء القادمين من أرض الحبشة ، إذ هم عرفوا الحق وقالوا آمنا ، وليس كل النصارى يفعل ذلك ، وصدر الآية في قرب المودة عام فيها ولا يتوجه أن يكون صدر الآية خاصاً فيمن آمن ، لأن من آمن فهو من الذين آمنوا ، وليس يقال فيه : قالوا إنا نصارى ولا يقال في مؤمنين : { ذلك بأن منهم قسيسين } ولا يقال إنهم أقرب مودة ، بل من آمن فهو أهل مودة محضة ، فإنما وقع التخصيص من قوله تعالى : { وإذا سمعوا } وجاء الضمير عاماً إذ قد تحمد الجماعة بفعل واحد منها ، وفي هذا استدعاء للنصارى ولطف من الله تعالى بهم ، ولقد يوجد فيض الدموع غالباً فيهم وإن لم يؤمنوا{[4664]} ، وروي أن وفداً من نجران قدم على أبي بكر الصديق في شيء من أمورهم فأمر من يقرأ القرآن بحضرتهم فبكوا بكاء شديداً فقال أبو بكر : هكذا كنا ولكن قست القلوب ، وروي أن راهباً من رهبان ديارات الشام نظر إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورأى عبادتهم وجدهم في قتال عدوهم فعجب من حالهم ، وبكى ، وقال : ما كان الذين نشروا بالمناشير على دين عيسى بأصبر من هؤلاء ولا أجدّ في دينهم .

قال القاضي أبو محمد : فالقوم الذين وصفوا بأنهم عرفوا الحق هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعوا ما عنده ، فلما رأوه قرأ عليهم القرآن وهو المراد بقوله تعالى : { ما أنزل إلى الرسول } فاضت أعينهم بالدمع من خشية الله ورقت القلوب . والرؤية رؤية العين ، و { تفيض } حال من الأعين{[4665]} ، و { يقولون } حال أيضاً و { آمنا } معناه صدقنا أن هذا رسولك ، والمسموع كتابك . والشاهدون محمد وأمته ، قاله ابن عباس وابن جريج وغيرهما ، وقال الطبري : لو قال قائل : معنى ذلك :مع الشاهدين بتوحيدك من جميع العالم من تقدم ومن تأخر لكان ذلك صواباً .

قال القاضي أبو محمد : هذا معنى قول الطبري وهو كلام صحيح ، وكان ابن عباس رضي الله عنه خصص أمة محمد عليه السلام لقول الله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً }{[4666]} .


[4664]:- هذا تعليل لطيف مقبول، وقد اتفق القرطبي مع ابن عطية في أن المدح لمن آمن من النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم دون من أصرّ منهم على كفره، قال: ولهذا قال: {وأنهم لا يستكبرون} أي عن الانقياد إلى الحق.
[4665]:- معنى [تفيض من الدمع] أنها تمتلئ فتفيض، لأن الفيض لا يكون إلا بعد الامتلاء، وقد جعل الأعين تفيض والفائض إنما هو الدمع قصدا للمبالغة، كقولهم: دمعت عينُه، قال امرؤ القيس: ففاضت دموع العين مني صبابة على النحر حتى بلّ دمعي محملي و(من) في [من الدمع] قال فيها أبو البقاء: يمكن أن تكون لابتداء الغاية، أي: فيضها من كثرة الدموع، ويمكن أن تكون حالا، والتقدير: تفيض مملوءة من الدمع مما عرفوا من الحق. وقال بعضهم (من) بمعنى الباء، أي: تفيض بالدمع. و(من) في [مما عرفوا من الحق] بيانيّة، والمعنى: كان الفيض ناشئا من معرفة الحق. قاله أبو حيان في "البحر المحيط" نقلا عن الزمخشري في "الكشاف" وعن غيره.
[4666]:- قوله تعالى: {وكذلك جعلناكم أمة وسطا} هي الآية (143) من سورة البقرة، وكأنما هي حجة ابن عباس في تخصيص أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأنها هي المرادة بقوله تعالى هنا: {فاكتبنا مع الشاهدين}، ولكن هناك آراء أخرى، ومعنى [اكتبنا] اجعلنا كما قال القرطبي فيكون بمنزلة ما قد كتب ودوّن.