جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰٓ أَعۡيُنَهُمۡ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلۡحَقِّۖ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ} (83)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرّسُولِ تَرَىَ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ مِمّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقّ يَقُولُونَ رَبّنَآ آمَنّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشّاهِدِينَ } . .

يقول تعالى ذكره : وإذا سمع هؤلاء الذين قالوا إنا نصارى الذين وصفت لك يا محمد صفتهم ، أنك تجدهم أقرب الناس مودّة للذين آمنوا ، ما أنزل إليك من الكتاب يتلى ، " تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ " . وفيض العين من الدمع : امتلاؤها منه ، ثم سيلانه منها كفيض النهر من الماء ، وفيض الإناء ، وذلك سيلانه عن شدّة امتلائه ومنه قول الأعشى :

فَفاضَتْ دُمُوعِي فَطَلّ الشّؤو ***نِ إمّا وَكِيفا وإمّا انْحِدَارَا

وقوله : مِمّا عَرَفُوا مِنَ الحَقّ يقول : فيض دموعهم لمعرفتهم بأن الذي يتلى عليهم من كتاب الله الذي أنزله إلى رسول الله حقّ .

كما : حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : حدثنا أسباط بن نصر الهمداني ، عن إسماعيل بن عبد الرحمن السديّ ، قال : بعث النجاشيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم اثنى عشر رجلاً يسألونه ويأتونه بخبره ، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فبكوا . وكان منهم سبعة رهبان وخمسة قسيسون ، أو خمسة رهبان وسبعة قسيسون ، فأنزل الله فيهم : وَإذَا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرّسُولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ . . . إلى آخر الاَية .

حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عمر بن عليّ بن مقدّم ، قال : سمعت هشام بن عروة يحدّث عن أبيه ، عن عبد الله بن الزبير ، قال : نزلت في النجاشيّ وأصحابه : " وَإذَا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرّسُولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ " .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا عبدة بن سليم ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله : تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ مِمّا عَرفُوَا مِنَ الحَقّ قال : ذلك في النجاشيّ .

حدثنا هناد وابن وكيع ، قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، قال : كانوا يرون أن هذه الاية أنزلت في النجاشيّ : " وَإذَا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرّسُولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ " .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا يونس بن بكير ، قال : قال ابن إسحاق ، سألت الزهري عن الآيات : " ذَلِكَ بأنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبانا وأنّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَإذَا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرّسُولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ . . . الاية " . وقوله " وَإذَا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلاما " قال : ما زلت أسمع علماءنا يقولون : نزلت في النجاشيّ وأصحابه .

وأما قوله : يَقولُونَ فإنه لو كان بلفظ اسم كان نصبا على الحال ، لأنّ معنى الكلام : وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحقّ ، قائلين ربنا آمنا . ويعني بقوله تعالى ذكره : " يَقُولُونَ رَبَنّا آمَنا " أنهم يقولون : يا ربنا صدّقنا لما سمعنا ما أنزلته إلى نبيك محمد صلى الله عليه وسلم من كتابك ، وأقررنا به أنه من عندك وأنه الحقّ لا شكّ فيه .

وأما قوله : " فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ " فإنه رُوي عن ابن عباس وغيره في تأويله ، ما :

حدثنا به هناد قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي وابن نمير جميعا ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : " اكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ : قال : أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : " فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ " مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ " يعنون بالشاهدين : محمدا صلى الله عليه وسلم وأمته .

حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، في قوله : " فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ " قال محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، أنهم شهدوا أنه قد بلّغ ، وشهدوا أن الرسل قد بلّغت .

حدثنا الربيع ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا يحيى بن زكريا ، قال : ثني إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، مثل حديث الحارث بن عبد العزيز ، غير أنه قال : وشهدوا للرسل أنهم قد بلّغُوا .

فكأنّ متأوّل هذا التأويل قصد بتأويله هذا إلى معنى قول الله تعالى ذكره : " وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أمّةً وَسَطا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ على النّاسِ وَيَكُونَ الرّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدا " ، فذهب ابن عباس إلى أن الشاهدين هم الشهداء في قوله : " لِتَكُونوا شُهَدَاءَ على النّاسِ " وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم .

وإذا كان التأويل ذلك ، كان معنى الكلام : يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين الذين يشهدون لأنبيائك يوم القيامة أنهم قد بلّغوا أممهم رسالاتك .

ولو قال قائل : معنى ذلك : فاكتبنا مع الشاهدين الذين يشهدون أن ما أنزلته إلى رسولك من الكتاب حقّ ، كان صوابا ، لأن ذلك خاتمة قوله : " وَإذَا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرّسُولِ تَرَى أعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الحَقّ يَقُولُونَ رَبّنا آمَنّا فاكْتُبْنا مَعَ الشّاهِدِينَ " وذلك صفة من الله تعالى ذكره لهم بإيمانهم ، لما سمعوا من كتاب الله ، فتكون مسألتهم أيضا الله أن يجعلهم ممن صحت عنده شهادتهم بذلك ، ويُلحقهم في الثواب والجزاء منازلهم . ومعنى الكتاب في هذا الموضع : الجَعْل ، يقول : فاجْعَلْنا مَعَ الشّاهِدِينَ ، وأثبتنا معهم في عدادهم .