الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىٰٓ أَعۡيُنَهُمۡ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمۡعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ ٱلۡحَقِّۖ يَقُولُونَ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَٱكۡتُبۡنَا مَعَ ٱلشَّـٰهِدِينَ} (83)

مدحهم سبحانه ، فقال : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع . . . } [ المائدة :83 ] ، قال النوويُّ : ينبغي للقارئ أن يكون شأنُهُ الخشوعَ ، والتدبُّر ، والخضوعَ ، فهذا هو المقصود المطلوبُ ، وبه تنشرح الصدورُ ، وتستنيرُ القُلُوب ، ودلائلُه أكْثَرُ من أنْ تُحْصَر ، وأشهرُ من أنْ تُذْكَر ، وقد بات جماعةٌ من السَّلَف يتلو الواحدُ منهم آيةً واحدةً ، ليلةً كاملةً ، أو معظمَ ليلةٍ يتدَبَّرها ، وصُعِقَ جماعاتٌ منهم عند سماع القرآن ، وقراءتِهِ ، وماتَ جماعاتٌ منهم ، ويستحب البكاءُ والتباكِي لِمَنْ لا يقدر على البكاء ، فإن البكاء عند القراءة صفةُ العارفين ، وشعارُ عُبَّادِ اللَّه الصَّالحين ، قال اللَّه عزَّ وجلَّ : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً }[ الإسراء : 109 ] وقد وردَتْ آثار كثيرة في ذلك ، انتهى من «الحلية » للنوويِّ .

وذكر ابن عباس وابن جُبَيْر ، ومجاهد ، أنَّ هذه الآية نزلَتْ بسبب وَفْدٍ بعثهم النجاشيُّ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، لِيَرَوْهُ ، ويَعْرِفُوا حالَهُ ، فقرأ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليهم القُرآن ، فَبَكَوْا وآمَنُوا ، ورَجعُوا إلى النجاشيِّ ، فآمن ، ولم يَزَلْ مؤمناً حتى ماتَ ، فصلى عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وروي أنَّ نَعْشَ النجاشيِّ كُشِفَ للنبيِّ عليه السلام ، فكان يراه مِنْ موضعه بالمدينةِ ، وجاء الخَبَرُ بعد مدة أنَّ النجاشيَّ دُفِنَ في اليومِ الذي صلى فيه النبيُّ صلى الله عليه وسلم عليه ، قال أبو صالح : كانوا سبعةً وستين رجلاً ، وقال ابن جُبَيْرٍ : كانوا سبعين ، عليهم ثيابُ الصُّوف ، وكُلُّهم صاحبُ صَوْمَعَة ، اختارهم النجاشيُّ .

وصَدْرُ الآية في قُرْب المودَّة عامٌّ فيهم ، ولا يتوجَّه أنْ يكون صَدْر الآية خاصًّا فيمن آمن ، وإنما وقع التخصيص مِنْ قوله تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ } ، وجاء الضمير عامًّا ، إذ قد تُحْمَدُ الجماعةُ بفعْلِ واحدٍ منهم ، وفي هذا استدعاء للنصارى ، ولُطْفٌ من اللَّه بهم ، ليؤمنوا .

قال ( ص ) : { مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } : ( مِن ) الأولى لابتداءِ الغاية .

قال أبو البقاء : ومعناها : مِنْ أجْل الذي عَرَفُوا ، و( من ) الثانية لبيانِ ( ما ) الموصولة ، انتهى .

قال العراقيُّ : { تَفِيضُ } ، أي : تسيل منها العَبْرَةُ ، وفي الحديثِ : ( اقرأوا القُرْآنَ وابكوا ، فَإنْ لَمْ تَبْكُوا ، فَتَبَاكَوْا ) ، خرَّجه البزِّار ، انتهى من " الكوكب الدري " ، وفيه عن البزَّار أيضاً ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : ( مَنْ خَرَجَ مِنْ عَيْنَيْهِ مِثْلُ جَنَاحِ ذُبَابٍ دُمُوعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ، لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ حتى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهِ ) انتهى .

وقولهم : { مَعَ الشاهدين } ، يعني : نبيِّنا محمَّداً صلى الله عليه وسلم ، وأمته ، قاله ابن عباس ، وغيره ، وقال الطبريُّ : لو قال قائلٌ : معنى ذلك : ( مع الشاهِدينَ ) بتَوْحيدك من جميع العَالَمِ ، لكان صواباً ، وهو كلامٌ صحيحٌ ، وكأن ابنَ عَبَّاس خصَّص أمة محمد ، لقول اللَّه سبحانه : { وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطاً . . . }[ البقرة : 143 ] .