{ وإذا ما سمعوا ما أنزل إلى رسول الله ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق } هذا وصف برقة القلوب والتأثر بسماع القرآن ، والظاهر أن الضمير يعود على قسيسين ورهباناً فيكون عامّاً ، ويكون قد أخبر عنهم بما يقع من بعضهم كما جرى للنجاشي حيث تلا عليه جعفر سورة مريم إلى قوله { ذلك عيسى ابن مريم } وسورة طه إلى قوله
{ وهل أتاك حديث موسى } فبكى وكذلك قومه الذين وفدوا على الرسول حين قرأ عليها { يس } فبكوا .
وقال ابن عطية ما معناه : صدر الآية عام في النصارى و { إذا ما سمعوا } عام في من آمن من القادمين من أرض الحبشة ، إذ ليس كل النصارى يفعل ذلك ، بل هم الذين بعثهم النجاشي ليروا النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعوا ما عنده ، فلما رأوه وتلا عليهم القرآن فاضت أعينهم من خشية الله تعالى ، انتهى .
وقال السديّ : لما رجعوا إلى النجاشي آمن وهاجر بمن معه فمات في الطريق ، فصلى عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمون واستغفروا له ، و { ترى } من رؤية العين وأسند الفيض إلى الأعين وإن كان حقيقة للدموع كما قال :
ففاضت دموع العين مني صبابة *** إقامة للمسبب مقام السبب ، لأن الفيض مسبب عن الامتلاء ، فالأصل ترى أعينهم تمتلىء من الدمع حتى تفيض ، لأن الفيض على جوانب الإناء ناشىء عن امتلائه ، قال الشاعر :
قوارض تأتيني ويحتقرونها *** وقد يملأ الماء الإناء فيفعم
ويحتمل أنه أسند الفيض إلى الأعين على سبيل المبالغة في البكاء لما كانت تفاض فيها جعلت الفائضة بأنفسها على سبيل المجاز والمبالغة ، و { من } في { من الدمع } قال أبو البقاء : فيه وجهان أحدهما : أن مِن لابتداء الغاية أي فيضها من كثرة الدموع والثاني : أن يكون حالاً ، والتقدير تفيض مملوءة من الدمع مما عرفوا من الحق ، ومعناها من أجل الذي عرفوه ، و { من الحق } حال من العائد المحذوف أو حال من ضمير الفاعل في { عرفوا } .
وقيل : { من } في { من الدمع } بمعنى الباء أي بالدمع .
وقال الزمخشري : { من الدمع } من أجل البكاء من قولك دمعت عينه دمعاً .
( فإن قلت ) : أي فرق بين مِن ومِن في قوله : { مما عرفوا من الحق } ( قلت ) : الأول لابتداء الغاية على أن فيض الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحق ، وكان من أجله وسببه ، والثانية لتبيين الموصول الذي هو ما عرفوا ، ويحتمل معنى التبعيض على أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم ، انتهى .
والجملة من قوله : { وإذا سمعوا } تحتمل الاستئناف ، وتحتمل أن تكون معطوفة على خبر إنهم .
وقرئ : { ترى أعينهم } على البناء لما لم يسمّ فاعله { يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين } المراد بآمنا أنشأنا الإيمان الخاص بهذه الأمة الإسلامية .
والشاهدون : قال ابن عباس وابن جريج وغيرهما : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقالوا ذلك هم شهداء على سائر الأمم ، كما قال تعالى : { لتكونوا شهداء على الناس } قال الزمخشري : وقالوا ذلك لأنهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك ، انتهى .
وقال الطبري : معناه ولو قيل معناه { مع الشاهدين } بتوحيدك من جميع العالم من تقدم ومن تأخر لكان صواباً .
وقيل : مع الذين يشهدون بالحق .
وقال الزجاج المراد بالشاهدين الأنبياء ، والمؤمنون ، والكتابة في اللوح المحفوظ .
وقيل : معناه أثبتنا من قولهم كتب فلان في الجند أي ثبت ، و { يقولون } في موضع نصب على الحال ، قاله ابن عطية وأبو البقاء ، ولم يبينا ذا الحال ولا العامل فيها ، ولا جائز أن يكون حالاً من الضمير في أعينهم لأنه مجرور بالإضافة لا موضع له من رفع ولا نصب إلا على مذهب من ينزل الخبر منزلة المضاف إليه ، وهو قول خطأ ، وقد بينا ذلك في كتاب منهج السالك من تأليفنا ، ولا جائز أن يكون حالاً من ضمير الفاعل في { عرفوا } لأنها تكون قيداً في العرفان وهم قد عرفوا الحق في هذه الحال وفي غيرها ، فالأولى أن تكون مستأنفة ، أخبر تعالى عنهم بأنهم التبسوا بهذا القول ، والمعنى أنهم عرفوا الحق بقلوبهم ونطقت به وأقرت ألسنتهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.