{ أسكنوهن } يعني مطلقات نسائكم { من حيث سكنتم } من صلة ، أي : أسكنوهن حيث سكنتم ، { من وجدكم } سعتكم وطاقتكم ، يعني : إن كان موسراً يوسع عليها في المسكن والنفقة ، وإن كان فقيراً فعلى قدر الطاقة ، { ولا تضاروهن } لا تؤذوهن ، { لتضيقوا عليهن } مساكنهن فيخرجن ، { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } فيخرجن من عدتهن .
فصل : اعلم أن المعتدة الرجعية تستحق على الزوج النفقة والسكنى ما دامت في العدة . ونعني بالسكنى . مؤنة السكنى ، فإن كانت الدار التي طلقها فيها ملكاً للزوج يجب على الزوج أن يخرج ويترك الدار لها مدة عدتها ، وإن كانت بإجارة فعلى الزوج الأجرة ، وإن كانت عارية ورجع المعير فعليه أن يكتري لها دارا تسكنها . فأما المعتدة البائنة بالخلع أو بالطلقات الثلاث أو باللعان ، فلها السكنى ، حاملاً كانت أو حائلاً ، عند أكثر أهل العلم . روي عن ابن عباس أنه قال : لا سكنى لها إلا أن تكون حاملاً وهو قول الحسن وعطاء والشعبي . واختلفوا في نفقتها : فذهب قوم إلى أنه لا نفقة لها إلا أن تكون حاملاً . روي ذلك عن علي وابن عباس وهو قول الحسن ، وعطاء ، والشعبي ، وبه قال الشافعي ، وأحمد . ومنهم من أوجبها بكل حال ، روي ذلك عن ابن مسعود ، وهو قول إبراهيم النخعي ، وبه قال الثوري وأصحاب الرأي . وظاهر القرآن يدل على أنها لا تستحق إلا أن تكون حاملاً ، لأن الله تعالى قال : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن } والدليل عليه من جهة السنة ما أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان ، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن فاطمة بنت قيس ، " أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة ، وهو غائب بالشام ، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته ، فقال : والله مالك علينا من شيء فجاءت النبي الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له . فقال لها : ليس لك عليه نفقة ، وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك . ثم قال : تلك امرأة يغشاها أصحابي فاعتدي عند ابن أم مكتوم ، فإنه رجل أعمى ، تضعين ثيابك ، فإذا حللت فآذنيني . قالت : فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ، وأما معاوية فصعلوك لا مال له ، انكحي أسامة بن زيد ، قالت : فكرهته ، ثم قال : انكحي أسامة ، فنكحته ، فجعل فيه خيراً واغتبطت به " . واحتج من لم يجعل لها السكنى بحديث فاطمة بنت قيس : " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد في بيت عبد الله بن أم مكتوم ولا حجة فيه ، لما روي عن عائشة أنها قالت : كانت فاطمة في مكان وحش ، فخيف على ناحيتها . وقال سعيد بن المسيب : إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على أحمائها ، وكان للسانها ذرابة . أما المعتدة عن وطء الشبهة والمفسوخ نكاحها بعيب أو خيار عتق فلا سكنى لها ولا نفقة وإن كانت حاملاً . والمعتدة عن وفاة الزوج لا نفقة لها حاملاً كانت أو حائلاً ، عند أكثر أهل العلم ، وروي عن علي رضي الله عنه أن لهذه النفقة ، إن كانت حاملاً ، من التركة حتى تضع ، وهو قول شريح ، والشعبي ، والنخعي ، والثوري . واختلفوا في سكناها ، وللشافعي رضي الله عنه فيه قولان : أحدهما لا سكنى لها ، بل تعتد حيث تشاء ، وهو قول علي ، وابن عباس وعائشة . وبه قال عطاء ، والحسن وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه . والثاني : لها السكنى وهو قول عمر ، وعثمان ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عمر ، وبه قال مالك ، وسفيان الثوري ، وأحمد ، وإسحاق . واحتج من أوجب لها السكنى بما : أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب عن مالك ، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة ، عن عمته زينب بنت كعب : أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري أخبرتها : " أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة ، فإن زوجها خرج في طلب أعبد له أبقوا حتى إذا كانوا بطرف القدوم لحقهم ، فقتلوه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن أرجع إلى أهلي فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ولا نفقة ؟ فقالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني أو أمر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعيت له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف قلت ؟ قالت : فرددت عليه القصة التي ذكرت من شأن زوجي ، فقال : امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله . قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً . قالت : فلما كان عثمان أرسل إلي فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به " . فمن قال بهذا القول قال : إذنه لفريعة أولاً بالرجوع إلى أهلها صار منسوخاً بقوله آخراً : " امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله " . ومن لم يوجب السكنى قال : أمرها بالمكث في بيتها آخراً استحباباً لا وجوباً . قوله عز وجل { فإن أرضعن لكم } أي أرضعن أولادكم ، { فآتوهن أجورهن } على إرضاعهن ، { وأتمروا بينكم بمعروف } ليقبل بعضكم من بعض إذا أمره بالمعروف ، قال الكسائي : شاوروا ، قال مقاتل : بتراضي الأب والأم على أجر مسمى . والخطاب للزوجين جميعاً ، يأمرهم أن يأتوا بالمعروف وبما هو الأحسن ، ولا يقصدوا الضرار . { وإن تعاسرتم } في الرضاع والأجرة فأبى الزوج أن يعطي المرأة أجرتها وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها على إرضاعه ، ولكنه يستأجر للصبي مرضعاً غير أمه ذلك قوله : { فسترضع له أخرى لينفق ذو سعة من سعته } .
يقول تعالى آمرًا عباده إذا طلّق أحدُهم المرأة أن يُسكنَها في منزل حتى تنقضي عدتها ، فقال : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ } أي : عندكم ، { مِنْ وُجْدِكُمْ } قال ابن عباس ، ومجاهد ، وغير واحد : يعني سَعَتكم . حتى قال قتادة : إن لم تجد إلا جنب بيتك فأسكنها فيه .
وقوله : { وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ } قال مقاتل بن حيان : يعني يضاجرها لتفتدي منه بمالها أو تخرج من مسكنه .
وقال الثوري ، عن منصور ، عن أبي الضُّحَى : { وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ } قال : يطلقها ، فإذا بقي يومان راجعها .
وقوله : { وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } قال كثير من العلماء منهم ابن عباس ، وطائفة من السلف ، وجماعات من الخلف : هذه في البائن ، إن كانت حاملا أنفق عليها حتى تضع حملها ، قالوا : بدليل أن الرجعية تجب نفقتها ، سواء كانت حاملا أو حائلا .
وقال آخرون : بل السياق كله في الرجعيات ، وإنما نص على الإنفاق على الحامل وإن كانت رجعية ؛ لأن الحمل تطول مدته غالبا ، فاحتيج إلى النص على وجوب الإنفاق إلى الوضع ؛ لئلا يتوهم أنه إنما تجب النفقة بمقدار مدة العدة .
واختلف العلماء : هل النفقة لها بواسطة الحمل ، أم للحمل وحده ؟ على قولين منصوصين عن الشافعي وغيره ، ويتفرع عليها مسائل مذكورة في علم الفروع .
وقوله : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } أي : إذا وضعن حملهن وهن طوالق ، فقد بنَّ بانقضاء عدتهن ، ولها حينئذ أن ترضع الولد ، ولها أن تمتنع منه ، ولكن بعد أن تغذيه باللبَّأ - وهو باكورة اللبن الذي لا قوام للولد غالبًا إلا به - فإن أرضعت استحقت أجر مثلها ، ولها أن تعاقد أباه أو وليه على ما يتفقان عليه من أجرة ؛ ولهذا قال تعالى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وقوله : { وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } أي : ولتكن أموركم فيما بينكم بالمعروف ، من غير إضرار ولا مضارة ، كما قال تعالى في سورة " البقرة " : { لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ } [ البقرة : 233 ]
وقوله : { وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } أي : وإن اختلف الرجل والمرأة ، فطلبت المرأة أجرة الرضاع كثيرًا ولم يجبها الرجل إلى ذلك ، أو بذل الرجل قليلا ولم توافقه عليه ، فليسترضع له غيرها . فلو رضيت الأم بما استؤجرت عليه الأجنبية فهي أحق بولدها .
والوجد : السعة في المال ، وضم الواو وفتحها وكسرها ، هي كلها بمعنى واحد ، وقرأ الجمهور : «وُجدكم » بضم الواو بمعنى سعة الحال ، وقرأ الأعرج فيما ذكر عصمة «وَجدكم » بفتح الواو ، وذكرها أبو عمرو عن الحسن وأبي حيوة ، وقرأ الفياض بن غزوان ويعقوب : بكسر الواو وذكرها المهدوي عن الأعرج وعمرو بن ميمون ، وأما الحامل فلا خلاف في وجوب سكناها ونفقتها بتت أو لم تبت لأنها مبينة في الآية ، واختلفوا في نفقة الحامل المتوفى عنها زوجها على قولين لعلماء الأمة ، فمنعها قوم وأوجبها في التركة قوم ، وكذلك النفقة على المرضع واجبة وهي الأجر مع الكسوة وسائر المؤن التي بسطها في كتب الفقه ، وقوله تعالى : { وائتمروا بينكم بمعروف } أي ليأمر كل واحد صاحبه بخير ، ولا شك أن من أمر بخير فهو أسرع إلى فعل ذلك الخير وليقبل كل واحد ما أمر به من المعروف ، والقبول والامتثال هو الائتمار ، وقال الكسائي : { ائتمروا } معناه : تشاوروا ، ومنه قوله تعالى :
{ إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك }{[11169]} [ القصص : 20 ] ، ومنه قول امرئ القيس :
ويعدو على المرء ما يأتمر***{[11170]}
وقوله تعالى : { وإن تعاسرتم } أي تشططت المرأة في الحد الذي يكون أجرة على الرضاع ، فللزوج أن يسترضع أخرى بما فيه رفقه إلا أن لا يقبل المولود غير أمه فتجبر حينئذ على رضاعه بأجرة مثلها ومثل الزوج في حالهما وغناهما .