الآية 6 وقوله تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } في قراءة ابن مسعود {[21484]} : { أسكنوهن من حيث سكنتم } وأنفقوا عليهن{ من وجدكم } . ويجوز أن تكون قراءة عمر/576-ب/رضي الله عنه هذه أيضا .
ألا ترى أنه قال : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت ، أم كذبت ؟ فالكتاب هذا ، والسنة : يجوز أن يكون سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك . أو يجوز أن تكون عند عمر رضي الله عنه في هذا تلاوة ، قد رفعت عينها ، وبقي حكمها ، لذلك قال : لا ندع كتاب ربنا .
ألا ترى[ إلى ما ]{[21485]} قال عمر رضي الله عنه في أمر الزنى : سيأتي [ على الناس ]{[21486]} زمان يقولون : لا نجد الرجم في كتاب الله ، وإنا كنا نتلو من قبل في سورة الأحزاب : إن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من الله والله عزيز حكيم ، فقد رفعت التلاوة ، وبقي حكمها ؟
فكذلك في أمر النفقة يجوز أن تكون التلاوة مرفوعة ، وحكمها باقيا ، والله أعلم .
ثم قوله [ رضي الله عنه ]{[21487]} : لا ندع كتاب ربنا : [ في ]{[21488]} الخبر دلالة أن الكتاب قد ينسخ بالسنة ، لأن عمر رضي الله عنه إنما احتج في امتناعه عن ترك كتاب ربه لقول امرأة ، لم ندر أصدقت أم كذبت . ولولا أن الكتاب قد ينسخ بالسنة ، وإلا لم يكن لاحتجاجه{[21489]} بقوله : لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة ، لا ندري أصدقت ، أم كذبت ، معنى . بل كان يقول : لا ندع كتاب ربنا بالسنة . فلما قال : لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة ، لا ندري أصدقت ، أم كذبت ، دل أن السنة قد تنسخ الكتاب ، والله أعلم .
وروى أبو بكر الأصم أن فاطمة بنت قيس لما أنكر عليها عمر رضي الله عنه حديثها ، تركت روايتها ، إلى زمن مروان ، فلما استخلف مروان جعلت تروي حديثها ، فأخبر بذلك مروان فدعاها ، فروت هذا الحديث ، فقال لها مروان على ما كان يقول لها عمر رضي الله عنه وقالت له : أين كتاب ربنا ؟ فتلا عليها قوله : { أسكنوهن من حيث سكنتم } وأنفقوا عليهن { من وجدكم } فقالت : كيف يحتمل أن يكون هذا في المطلقة ثلاثا ؟ والله يقول في هذه { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } [ الطلاق : 2 ] ومعنى الإمساك في المطلقة معدوم ، فأفحم مروان . ولو فهم مروان ما فهمه غيره لم يفحم ؛ وذلك أن هذه العدة المذكورة في هذه الآيات إنما هي مكان قوله : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء }[ البقرة : 228 ] ولا فرق هناك بين التطليقة الواحدة والثلاث .
وإذا كان المذكور في هذه العدة مكان تلك ، فالمذكور في النفقة في هذه كالمذكورة في تلك الآيات [ وليس في تلك الآية {[21490]} فرق بين الثلاث والواحدة ، فلذلك قلنا : في كتاب الله تعالى دلالة إيجاب النفقة في المبتوتة والمطلقة ثلاثا ، والله أعلم ، ويكون حجة على الشافعي .
ومما يدل عليه ، وهو أنه لما استدل بذكر الإنفاق في قوله : { فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } على وجوب الإسكان والنهي عن الإخراج مع توهم الإنفاق دون الإسكان ، فلان يستدل بذكر الإسكان على الإنفاق ، ولا يكون الإسكان إلا بالإنفاق لاتصاله به ، أحرى ، فصار قوله : { أسكنوهن } دليلا على وجوب الإنفاق . وإنما قلنا : إن الإنفاق متصل بالإسكان لأنه نهى عن إخراجها من بيته ، وأمر بإسكانها ، فلا يحتمل ألا يؤمر بالإنفاق لأن في ذلك [ تضييقا عليها وتعسيرا ]{[21491]} .
ألا ترى أنها إنما تكتسب النفقة بالخروج ، فإذا نهي الزوج عن إخراجها ، ونهيت هي عن الخروج ، لم تصل إلى نفقتها إلا بالزواج ضرورة ، والله أعلم ؟ .
ولأجل أنا نظرنا أن النفقة في الحامل للحمل أو العدة ، فوجدنا أنها لو كانت واجبة للحمل ، لم يجب إذا كان حملها بحيث لو وضعته لم يلزم نفقته عليه . وقد وجدنا هذا الحكم نحو حر يتزوج أمة رجل بإذن سيدها ، فولدت ولد : أن نفقة الولد على السيد ، وكان يجب عليه مادام في بطن أمه ، فلما استقام وجوب النفقة على الزوج ما دامت حاملا ، وإن كان بحيث لو وضعته لم تلزمه نفقته . ثبت أن النفقة في الحامل لمكان العدة لا للحبل . والعدة في الحائل والحامل واحدة ، فكذلك كان حكمها واحدا ، والله أعلم .
ثم الأصل عندنا ما وصفنا أن النفقة إنما وجبت لاستمتاعه المتقدم . فإذا كانت محبوسة لاستمتاعه السابق أوجبت النفقة عليه . وإذا كانت محبوسة لا بهذا الحق لم يكن عليه النفقة ، والله أعلم .
ولأن في قوله : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } إضمار النفقة ، كأنه يقول : { أسكنوهن من حيث سكنتم } وأنفقوا عليهن { من وجدكم } لأنه لولا هذا الإضمار لم يكن لقوله : { من وجدكم } على الظاهر معنى ، لأنه لما قال : { أسكنوهن } علم أنه جعل الإسكان عليهم . ومن كان عليه الإسكان فإنما يكون من وجده . فلم يكن في قوله : { من وجدكم } إلا إعلام ما علمناه . وإذا كان كذلك ثبت أن في قوله : { من وجدكم } [ إضمارا{[21492]} يستقيم عليه المعنى في قوله : { من وجدكم }{[21493]} وليس بين القراءتين اختلاف ، ولكن إحداهما خرجت على الإجمال ، والثانية على التفسير على ما قرئ في قوله : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } [ المائدة : 38 ] [ فاقطعوا أيمانهما ]{[21494]} ولم يحمل ذلك على الاختلاف ، بل حملت إحداهما على الإجمال ، والثانية على التفسير ، فكذلك الأول ، والله أعلم ، مع ما إن لم يثبت اللفظ في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فتأويله{[21495]} أن يكون من خبر الآحاد .
ومعلوم أن خبر ابن مسعود رضي الله عنه وإن كان من خبر الآحاد في ما يسنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مقبول . أو لما وجب قبول خبر أبي هريرة رضي الله عليه مع ما قيل فيه من الضعف ، فلأن يقبل خبر ابن مسعود رضي الله عليه مع فضله وورعه وكثرة مصاحبته{[21496]} مع النبي صلى الله عليه وسلم وتبحّره في الفقه أولى . ومن هجر قراءة ابن مسعود رضي الله عنه خيف عليه الزّلّّّة .
ألا ترى إلى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما تعدون آخر القراءة ؟ قالوا : قراءة زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : كلاّ ، كان يعرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه و سلم كل عام مرة ، وعرض عليه في العام الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين ، وقد شهدهما جميعا ابن مسعود رضي الله عنه وإذا كان ابن مسعود ، قراءته آخر القراءات ، وهو الذي شهد عليه قراءة القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر مرة لم ينبغ أن يعرض عن قراءته ، وتهجر ، والله أعلم .
وفي قوله : { أسكنوهن من حيث سكنتم } دلالة أنه إنما يسكنها في جزء من أجزاء مسكنه لا في الموضع الذي يسكنه ، هو لأن حرف { من } للتجزئة والتبعيض .
وقوله تعالى : { ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن } يحتمل وجهين من التأويل :
أحدهما : أي لا تضارّوهن في الإنفاق ، فتضيقوا عليهن النفقة ، فيخرجن .
[ والثاني : ]{[21497]} لا تضاروهن في المسكن ، فتدخلوا عليهن من غير استئذان ، فيضيق عليهن المسكن ، فيخرجن ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } دل الأمر بالإنفاق على النهي عن الإخراج كما دل النهي عن الإخراج على وجوب الإنفاق .
ثم التخصيص بذكر الإنفاق على الحامل يحتمل أن يكون لمعنى أنها في الحقيقة لم تدخل في قوله : { لا تخرجوهن } لأنا قد وصفنا أنها نهيت[ عن الخروج ]{[21498]} لتحصّن ماء الزوج ، وإذا مضت تسعة أشهر فقد خرجت عن التحصين ، فكان الواجب أن تسقط النفقة/577-أ/بعد التسعة ، قد ذكرنا هذا المعنى في ما تقدم .
ويحتمل أن تكون الفائدة في تخصيص الحوامل بالإنفاق عندنا ، والله أعلم ، أنه لولا هذه الآية لكانت الحوامل يخرجن عن قوله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن } وعن قوله : { ولا يخرجن } ، لأن الأزواج لهم أن يحتجوا عليهن أن حرمة النكاح في ذوات الأحمال ليست لحق الأزواج ، ولكن لحق ما في بطنها من الولد{[21499]} .
ألا ترى أنه يحرم عليها النكاح من غيره ، وقد قلنا : إن النفقة إنما أوجبت في غير الحوامل لأنهن يحبسن عن نكاح الأجانب بحق الأزواج ؟ فإذا كان الحبس في الحوامل لا لحق الأزواج جاز أن يكون حجة لهم في إسقاط النفقة عنهم .
وإذا كانت كذلك حث الله لهم في الإنفاق على الحوامل ما لم يضعن حملهن ، لأن ذلك الحمل من أثر استمتاعهم المتقدم . ففائدة تخصيص ذكر الحوامل هذا ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } هذا يتضمن أوجها من أدلة الفقه :
أحدهما : أنه قال : { فآتوهن أجورهن } يثبت أن الإرضاع كان بإجارة ، وأنه إذا استأجرها لترضع ولده منها بعد المفارقة جازت الإجارة ، وحل لها أخذ الأجر ، وأنه [ لو ]{[21500]} استأجر امرأته في صلب النكاح على إرضاع ولده منها لم يجز ، ولم يكن لها أخذ الأجر لأن الله تعالى ذكر بدل الرضاع في صلب النكاح بلفظ الرزق بقوله : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } [ البقرة : 233 } فإذا سمى ما ذكره الله تعالى رزقا أجرا لم يكن أجرا ، وكان بحق الرزق والكسوة ، فلذلك لم تجز الإجازة في صلب النكاح ، والله أعلم .
[ والثاني ]{[21501]} : قوله{ فآتوهن أجورهن } دليل على أن اللبن ، وإن خلق لمكان الولد ، فهو ملك لها ، ولولا ذلك لم يكن لها أن تأخذ الأجرة على لبن ليس لها فيه ملك .
[ والثالث ]{[21502]} : فيه دليل على أن حق الإرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد ، وحق الإمساك والحضانة والكفالة على الزوجات ، ولولا ذلك لكان بعض الأجر ، ثبت أن حق الإرضاع على الأزواج ، وعلى الزوجات الكفالة والإمساك ، والله أعلم .
[ والرابع ]{[21503]} : لأجل أنا لو جعلنا اللبن ملكا للولد مخلوقا له ، وجعلنا النفقة على الأم من مال نفسها لكانت نفقتها تغني ، ولا يتهيأ لها كسب النفقة لاشتغالها بالإرضاع [ تجوع ، وتهلك ، ويذهب لبنها ، فيبطل الرضاع ] {[21504]} وإذا كان إيجاب الرضاع عليها يسقط [ عنه ]{[21505]} من حيث يراد جعل النفقة ، أسقطناه{[21506]} عنها ، وجعلنا ملك اللبن [ لها ]{[21507]} لتأخذ الأجر عليه ، والله أعلم .
[ والخامس ]{[21508]} : في هذه الآية دلالة على أن الأجر إنما يجب بعد استيفاء المنافع فإنه قال : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } إنما أوجب الإيتاء بعد الإرضاع .
[ والسادس{[21509]} : في قوله : { أجورهن } دلالة على أن الإرضاع إنما هو بإجارة قد سبقت . لذلك قال أصحابنا : إن الأجرة إنما تجب عند استيفاء العمل .
وقوله تعالى : { وأتمروا بينكم بمعروف } له وجهان :
أحدهما : { وأتمروا } يعني تشاوروا في إرضاعه إذا تعاسرت هي .
والثاني : { وأتمروا } أي اعملوا بأمر من جعل الله تعالى إليه الأمر بالمعروف .
وقوله تعالى : { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } يعني إذا تنازعتم في الرضاع ، وأبت الأم أن ترضعه ، فاطلبوا أخرى ، ترضعه عندها .