تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{أَسۡكِنُوهُنَّ مِنۡ حَيۡثُ سَكَنتُم مِّن وُجۡدِكُمۡ وَلَا تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيۡهِنَّۚ وَإِن كُنَّ أُوْلَٰتِ حَمۡلٖ فَأَنفِقُواْ عَلَيۡهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعۡنَ حَمۡلَهُنَّۚ فَإِنۡ أَرۡضَعۡنَ لَكُمۡ فَـَٔاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأۡتَمِرُواْ بَيۡنَكُم بِمَعۡرُوفٖۖ وَإِن تَعَاسَرۡتُمۡ فَسَتُرۡضِعُ لَهُۥٓ أُخۡرَىٰ} (6)

الآية 6 وقوله تعالى : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } في قراءة ابن مسعود {[21484]} : { أسكنوهن من حيث سكنتم } وأنفقوا عليهن{ من وجدكم } . ويجوز أن تكون قراءة عمر/576-ب/رضي الله عنه هذه أيضا .

ألا ترى أنه قال : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت ، أم كذبت ؟ فالكتاب هذا ، والسنة : يجوز أن يكون سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك . أو يجوز أن تكون عند عمر رضي الله عنه في هذا تلاوة ، قد رفعت عينها ، وبقي حكمها ، لذلك قال : لا ندع كتاب ربنا .

ألا ترى[ إلى ما ]{[21485]} قال عمر رضي الله عنه في أمر الزنى : سيأتي [ على الناس ]{[21486]} زمان يقولون : لا نجد الرجم في كتاب الله ، وإنا كنا نتلو من قبل في سورة الأحزاب : إن الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من الله والله عزيز حكيم ، فقد رفعت التلاوة ، وبقي حكمها ؟

فكذلك في أمر النفقة يجوز أن تكون التلاوة مرفوعة ، وحكمها باقيا ، والله أعلم .

ثم قوله [ رضي الله عنه ]{[21487]} : لا ندع كتاب ربنا : [ في ]{[21488]} الخبر دلالة أن الكتاب قد ينسخ بالسنة ، لأن عمر رضي الله عنه إنما احتج في امتناعه عن ترك كتاب ربه لقول امرأة ، لم ندر أصدقت أم كذبت . ولولا أن الكتاب قد ينسخ بالسنة ، وإلا لم يكن لاحتجاجه{[21489]} بقوله : لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة ، لا ندري أصدقت ، أم كذبت ، معنى . بل كان يقول : لا ندع كتاب ربنا بالسنة . فلما قال : لا ندع كتاب ربنا لقول امرأة ، لا ندري أصدقت ، أم كذبت ، دل أن السنة قد تنسخ الكتاب ، والله أعلم .

وروى أبو بكر الأصم أن فاطمة بنت قيس لما أنكر عليها عمر رضي الله عنه حديثها ، تركت روايتها ، إلى زمن مروان ، فلما استخلف مروان جعلت تروي حديثها ، فأخبر بذلك مروان فدعاها ، فروت هذا الحديث ، فقال لها مروان على ما كان يقول لها عمر رضي الله عنه وقالت له : أين كتاب ربنا ؟ فتلا عليها قوله : { أسكنوهن من حيث سكنتم } وأنفقوا عليهن { من وجدكم } فقالت : كيف يحتمل أن يكون هذا في المطلقة ثلاثا ؟ والله يقول في هذه { فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف } [ الطلاق : 2 ] ومعنى الإمساك في المطلقة معدوم ، فأفحم مروان . ولو فهم مروان ما فهمه غيره لم يفحم ؛ وذلك أن هذه العدة المذكورة في هذه الآيات إنما هي مكان قوله : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء }[ البقرة : 228 ] ولا فرق هناك بين التطليقة الواحدة والثلاث .

وإذا كان المذكور في هذه العدة مكان تلك ، فالمذكور في النفقة في هذه كالمذكورة في تلك الآيات [ وليس في تلك الآية {[21490]} فرق بين الثلاث والواحدة ، فلذلك قلنا : في كتاب الله تعالى دلالة إيجاب النفقة في المبتوتة والمطلقة ثلاثا ، والله أعلم ، ويكون حجة على الشافعي .

ومما يدل عليه ، وهو أنه لما استدل بذكر الإنفاق في قوله : { فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } على وجوب الإسكان والنهي عن الإخراج مع توهم الإنفاق دون الإسكان ، فلان يستدل بذكر الإسكان على الإنفاق ، ولا يكون الإسكان إلا بالإنفاق لاتصاله به ، أحرى ، فصار قوله : { أسكنوهن } دليلا على وجوب الإنفاق . وإنما قلنا : إن الإنفاق متصل بالإسكان لأنه نهى عن إخراجها من بيته ، وأمر بإسكانها ، فلا يحتمل ألا يؤمر بالإنفاق لأن في ذلك [ تضييقا عليها وتعسيرا ]{[21491]} .

ألا ترى أنها إنما تكتسب النفقة بالخروج ، فإذا نهي الزوج عن إخراجها ، ونهيت هي عن الخروج ، لم تصل إلى نفقتها إلا بالزواج ضرورة ، والله أعلم ؟ .

ولأجل أنا نظرنا أن النفقة في الحامل للحمل أو العدة ، فوجدنا أنها لو كانت واجبة للحمل ، لم يجب إذا كان حملها بحيث لو وضعته لم يلزم نفقته عليه . وقد وجدنا هذا الحكم نحو حر يتزوج أمة رجل بإذن سيدها ، فولدت ولد : أن نفقة الولد على السيد ، وكان يجب عليه مادام في بطن أمه ، فلما استقام وجوب النفقة على الزوج ما دامت حاملا ، وإن كان بحيث لو وضعته لم تلزمه نفقته . ثبت أن النفقة في الحامل لمكان العدة لا للحبل . والعدة في الحائل والحامل واحدة ، فكذلك كان حكمها واحدا ، والله أعلم .

ثم الأصل عندنا ما وصفنا أن النفقة إنما وجبت لاستمتاعه المتقدم . فإذا كانت محبوسة لاستمتاعه السابق أوجبت النفقة عليه . وإذا كانت محبوسة لا بهذا الحق لم يكن عليه النفقة ، والله أعلم .

ولأن في قوله : { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } إضمار النفقة ، كأنه يقول : { أسكنوهن من حيث سكنتم } وأنفقوا عليهن { من وجدكم } لأنه لولا هذا الإضمار لم يكن لقوله : { من وجدكم } على الظاهر معنى ، لأنه لما قال : { أسكنوهن } علم أنه جعل الإسكان عليهم . ومن كان عليه الإسكان فإنما يكون من وجده . فلم يكن في قوله : { من وجدكم } إلا إعلام ما علمناه . وإذا كان كذلك ثبت أن في قوله : { من وجدكم } [ إضمارا{[21492]} يستقيم عليه المعنى في قوله : { من وجدكم }{[21493]} وليس بين القراءتين اختلاف ، ولكن إحداهما خرجت على الإجمال ، والثانية على التفسير على ما قرئ في قوله : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } [ المائدة : 38 ] [ فاقطعوا أيمانهما ]{[21494]} ولم يحمل ذلك على الاختلاف ، بل حملت إحداهما على الإجمال ، والثانية على التفسير ، فكذلك الأول ، والله أعلم ، مع ما إن لم يثبت اللفظ في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فتأويله{[21495]} أن يكون من خبر الآحاد .

ومعلوم أن خبر ابن مسعود رضي الله عنه وإن كان من خبر الآحاد في ما يسنده إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مقبول . أو لما وجب قبول خبر أبي هريرة رضي الله عليه مع ما قيل فيه من الضعف ، فلأن يقبل خبر ابن مسعود رضي الله عليه مع فضله وورعه وكثرة مصاحبته{[21496]} مع النبي صلى الله عليه وسلم وتبحّره في الفقه أولى . ومن هجر قراءة ابن مسعود رضي الله عنه خيف عليه الزّلّّّة .

ألا ترى إلى ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما تعدون آخر القراءة ؟ قالوا : قراءة زيد بن ثابت رضي الله عنه قال : كلاّ ، كان يعرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه و سلم كل عام مرة ، وعرض عليه في العام الذي قبض فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين ، وقد شهدهما جميعا ابن مسعود رضي الله عنه وإذا كان ابن مسعود ، قراءته آخر القراءات ، وهو الذي شهد عليه قراءة القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم آخر مرة لم ينبغ أن يعرض عن قراءته ، وتهجر ، والله أعلم .

وفي قوله : { أسكنوهن من حيث سكنتم } دلالة أنه إنما يسكنها في جزء من أجزاء مسكنه لا في الموضع الذي يسكنه ، هو لأن حرف { من } للتجزئة والتبعيض .

وقوله تعالى : { ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن } يحتمل وجهين من التأويل :

أحدهما : أي لا تضارّوهن في الإنفاق ، فتضيقوا عليهن النفقة ، فيخرجن .

[ والثاني : ]{[21497]} لا تضاروهن في المسكن ، فتدخلوا عليهن من غير استئذان ، فيضيق عليهن المسكن ، فيخرجن ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } دل الأمر بالإنفاق على النهي عن الإخراج كما دل النهي عن الإخراج على وجوب الإنفاق .

ثم التخصيص بذكر الإنفاق على الحامل يحتمل أن يكون لمعنى أنها في الحقيقة لم تدخل في قوله : { لا تخرجوهن } لأنا قد وصفنا أنها نهيت[ عن الخروج ]{[21498]} لتحصّن ماء الزوج ، وإذا مضت تسعة أشهر فقد خرجت عن التحصين ، فكان الواجب أن تسقط النفقة/577-أ/بعد التسعة ، قد ذكرنا هذا المعنى في ما تقدم .

ويحتمل أن تكون الفائدة في تخصيص الحوامل بالإنفاق عندنا ، والله أعلم ، أنه لولا هذه الآية لكانت الحوامل يخرجن عن قوله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن } وعن قوله : { ولا يخرجن } ، لأن الأزواج لهم أن يحتجوا عليهن أن حرمة النكاح في ذوات الأحمال ليست لحق الأزواج ، ولكن لحق ما في بطنها من الولد{[21499]} .

ألا ترى أنه يحرم عليها النكاح من غيره ، وقد قلنا : إن النفقة إنما أوجبت في غير الحوامل لأنهن يحبسن عن نكاح الأجانب بحق الأزواج ؟ فإذا كان الحبس في الحوامل لا لحق الأزواج جاز أن يكون حجة لهم في إسقاط النفقة عنهم .

وإذا كانت كذلك حث الله لهم في الإنفاق على الحوامل ما لم يضعن حملهن ، لأن ذلك الحمل من أثر استمتاعهم المتقدم . ففائدة تخصيص ذكر الحوامل هذا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } هذا يتضمن أوجها من أدلة الفقه :

أحدهما : أنه قال : { فآتوهن أجورهن } يثبت أن الإرضاع كان بإجارة ، وأنه إذا استأجرها لترضع ولده منها بعد المفارقة جازت الإجارة ، وحل لها أخذ الأجر ، وأنه [ لو ]{[21500]} استأجر امرأته في صلب النكاح على إرضاع ولده منها لم يجز ، ولم يكن لها أخذ الأجر لأن الله تعالى ذكر بدل الرضاع في صلب النكاح بلفظ الرزق بقوله : { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } [ البقرة : 233 } فإذا سمى ما ذكره الله تعالى رزقا أجرا لم يكن أجرا ، وكان بحق الرزق والكسوة ، فلذلك لم تجز الإجازة في صلب النكاح ، والله أعلم .

[ والثاني ]{[21501]} : قوله{ فآتوهن أجورهن } دليل على أن اللبن ، وإن خلق لمكان الولد ، فهو ملك لها ، ولولا ذلك لم يكن لها أن تأخذ الأجرة على لبن ليس لها فيه ملك .

[ والثالث ]{[21502]} : فيه دليل على أن حق الإرضاع والنفقة على الأزواج في حق الأولاد ، وحق الإمساك والحضانة والكفالة على الزوجات ، ولولا ذلك لكان بعض الأجر ، ثبت أن حق الإرضاع على الأزواج ، وعلى الزوجات الكفالة والإمساك ، والله أعلم .

[ والرابع ]{[21503]} : لأجل أنا لو جعلنا اللبن ملكا للولد مخلوقا له ، وجعلنا النفقة على الأم من مال نفسها لكانت نفقتها تغني ، ولا يتهيأ لها كسب النفقة لاشتغالها بالإرضاع [ تجوع ، وتهلك ، ويذهب لبنها ، فيبطل الرضاع ] {[21504]} وإذا كان إيجاب الرضاع عليها يسقط [ عنه ]{[21505]} من حيث يراد جعل النفقة ، أسقطناه{[21506]} عنها ، وجعلنا ملك اللبن [ لها ]{[21507]} لتأخذ الأجر عليه ، والله أعلم .

[ والخامس ]{[21508]} : في هذه الآية دلالة على أن الأجر إنما يجب بعد استيفاء المنافع فإنه قال : { فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } إنما أوجب الإيتاء بعد الإرضاع .

[ والسادس{[21509]} : في قوله : { أجورهن } دلالة على أن الإرضاع إنما هو بإجارة قد سبقت . لذلك قال أصحابنا : إن الأجرة إنما تجب عند استيفاء العمل .

وقوله تعالى : { وأتمروا بينكم بمعروف } له وجهان :

أحدهما : { وأتمروا } يعني تشاوروا في إرضاعه إذا تعاسرت هي .

والثاني : { وأتمروا } أي اعملوا بأمر من جعل الله تعالى إليه الأمر بالمعروف .

وقوله تعالى : { وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى } يعني إذا تنازعتم في الرضاع ، وأبت الأم أن ترضعه ، فاطلبوا أخرى ، ترضعه عندها .


[21484]:انظر معجم القراءات القرآنية: ج/168.
[21485]:من م، ساقطة من الأصل.
[21486]:من م ساقطة من الأصل
[21487]:ساقطة من الأصل وم.
[21488]:من نسخة الحرم المكي ساقطة من الأصل وم
[21489]:في الأصل وم: احتجاجه.
[21490]:من م، ساقطة من الأصل.
[21491]:في الأصل و م: تضييق عليها وتعسيره.
[21492]:في م: إضمار.
[21493]:من م، ساقطة من الأصل.
[21494]:من نسخة الحرم المكي، في الأصل و م: فإيمانهما، وهي قراءة ابن مسعود، أنضر معجم القراءات القرآنيةج2/208.
[21495]:في الأصل و م: فأوله.
[21496]:في الأصل و م:صحبته.
[21497]:في الأصل و م: أو.
[21498]:ساقطة من الأصل و م.
[21499]:من م، في الأصل: الولدان.
[21500]:من م، ساقطة من الأصل.
[21501]:في الأصل و م: ثم
[21502]:في الأصل و م: و
[21503]:في الأصل و م: و
[21504]:من م، ساقطة من الأصل.
[21505]:ساقطة من الأصل و م.
[21506]:في الأصل و م: فأسقطناه.
[21507]:ساقطة من الأصل و م.
[21508]:في الأصل وم: و.
[21509]:في الأصل وم:و.